بدون زعل: النوبي العظيم
بقامته المديدة، شاربه الأنيق المشذب، عمامته المتراخية، ابتسامته الودودة وعينيه العارفتين الساخرتين، يمكنك أن تستوقف البروفسور محمد ابراهيم ابو سليم، في فناء دار الوثائق القومية، في مبناها القديم المتهالك بشارع الجمورية، التابع لآل المهدي..تخوض معه استفهاماتك وفجواتك التاريخية..يرمم معارفك بعلمه الغزير، قبل أن يدعوك الي مكتبه..قد تجده في كامل زيه الافرنجي، قادما من محفل كبير أو ذاهبا الي اجتماع مهم..لكنه لن يستهين بأسئلتك مهما كانت تافهة او ابتدائية..لا يجاريه أحد في معرفة تاريخ وأسرار المهدية..
حين تم اختياره عضوا بمجمع اللغة العربية السوداني..كان يقول ساخرا ( عبد الله الطيب دا عايز يحرجنا، انا وعبد الله دينق نيال..هو عارف إننا رطانة…ليه يدخلنا في موضوع اللغة العربية دا؟)..بنباهة وروح نوبية لطيفة…يعرف ان النوبيين أبرع من كتب باللغة العربية ..ذاك الفحل:خليل فرح، مرسي صالح سراج، محي الدين فارس، جيلي عبد الرحمن، سعد الدين ابراهيم وغيرهم..ونثرا : يقف الإسطين جمال محمد احمد طودا شامخا…يعزف باللغة سيمفونيات تجعلك تشفق من أن تمد يدك الي القلم لتكتب شيئا..ثم محى الدين صابر، ميرغني ديشاب،والكثيرون ممن لا يتسع المجال لذكرهم..وأي مقدمة كتبها ابو سليم لهي شعر جزل مضيئ ، يطرب عشاق العربية ومن يتعشقون جمالها..
ذات ندوة بمنتدى أبناء امدرمان، عن خليل فرح، تحدث فيها بروف معتصم أحمد الحاج ، مدير جامعة أمدرمان الأهلية، وكمال الجزولي، قام أحد المتنطعين مفترعا موضوعا عن كون خليل فرح رطانيا، فكيف أبلي حسنا في العربية…ما هذا السخف؟ كأنما لم تقدم علوم اللغات ودراسات متعمقة في علاقات الإنسان باللغات أي نافذة ضوء..ينزوي أساطين اللغة الإنجليزية حين يكتب أو يتحدث النيجيري وولي سوينكا، ويتعلم الفرنسيون من سنغور، السنغالي وعضو مجمع اللغة الفرنسية، وكلاهما (راطنان )، بالنسبة لأهالي اللغتين.
مدخلي الي دار الوثائق وكنوزها كان زميلنا وصديقنا أمير صديق، الصحافي والمترجم الفنان..عرفني علي الدكتورة إخلاص مكاوي، حيث كانت مدير لإدارة المستودعات بالدار، اواسط تسعينيات القرن الماضي..وإخلاص بذاتها كنز عظيم من كنوز السودان وعارفه.. هي التي ربطتني بالبروف ابو سليم.
كنت متطلعا لأن يستكمل البروف عمله الفذ (محررات الخليفة عبد الله التعايشى)، الذى أصدر جزءه الأول عن مركز ابو سليم، بعد أن غادر دار الوثائق، لكنه رحل عن الفانية، عليه شآبيب الرحمة، قبل ذلك..
والسودان بلد المظالم…لم يقع ظلم فادح علي أحد قاماته بمثلما وقع علي البروفسور محمد ابراهيم ابو سليم..لو كنت قياديا بحزب الامة، أو أنصاريا – وهو ضرب من المستحيل، بالطبع – لقمت بتكريم اسم ابو سليم و تخليده بعمل يليق به، لما قدمه للسودان والمهدية من جهد وعلم..وذلك ليقيني بأن الواجهات الحكومية، أيا تكن، لن تقدم علي فعل شيى مماثل…لكن تلك أقدار السودان..البلد الغني الفقير، حد الإملاق.
