سِتّة أشْهر من الحَرْبِ

سِتّة أشْهر من الحَرْبِ
  • 28 أغسطس 2022
  • لا توجد تعليقات

د. عصام محجوب الماحي

زيلينسكي: كُنّا نبحث عن سلامٍ والآن نتحدّث عن نَصْرٍ، وهذه الحَرْب لنْ تصْبح نِزاعاً مُجمّداً
مؤرِّخ بريطاني يضع رهانِ بوتين في أوكرانيا تحت المِجْهر ويرى “الكرملين مشلولاً”

يتزامن عيد استقلال أوكرانيا، الذي احتفلت به يوم 24 أغسطس الجاري، مع مرور نصف عام من القتال غير المتكافئ في الحرب التي شنتها عليها روسيا.
وكما أصبحت آمال فلاديمير بوتين في تحقيق نصر سريع من الماضي، لمْ يعُد أيضاً مُمْكِناً، على الأقل راهناً، الحديث عن مفاوضات لتسوية تنتهي بتنازُلات أوكرانية. وعليه يصبح السؤال الذي يطارد المراقب الذي يتابع الأحداث ويرصدها أول بأول: إلى أين تتّجِه التطورات؟
قبل ستة أشهر كانت العديد من الأصوات تدعو إلى الهدوء مقابل التحذيرات الأمريكية والبريطانية المُتزايدة الإصْرار على اقتراب حِدوث غزو واسِع النِطاق. وحتّى ذلك الحين، كانت الحكومتين الفرنسية والألمانية والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي نفسه، ينظرون إلى حشد القوات الروسية على الحدود على أنّه خِدعة، وكان المسؤولين في الكرملين يسعون لتأكيد تلك النظرة، وفقاً لصحيفة (الغارديان) البريطانية في أحدث تقييم أجرته لسِتّة أشهر من الحرب في تقرير استعرضته العديد من الصحف الأوربية، ومنها (رومانيا ليبرا) و(اديفارول) الرومانيتين بتوقيعي اديلينا توادر وكريستينا ايني. دعونا نَسْتَعْرَضه بدورنا بتصرُّف، مع بعضِ الإضاءاتِ للتحليلِ، وتسليط الضوء على خلاصات التقرير ووضعها تحت المجهر مع الإفادات التي ادلى بها للصحيفة المؤرخ البريطاني لورانس فريدمان أستاذ دراسات الحرب بكلية لندن الملكية، والاستفادة منها لتوضيح القراءات المُثيرة لأحداث وتطورات حربِ بوتين في أوكرانيا.

  • حرب وتغيير في البلدين:
    القرار المصيري لقيام روسيا بغزو أوكرانيا غيّر البلدين خلال الأشهر السِتّة الماضية وفي سبيله لتغيير العالم باسره بشكل لا رجعة فيه. كيف ولماذا؟
    على خلفية كلمة مطولة ألقاها يوم 21 فبراير 2022 الرئيس فلاديمير بوتين، تسكّع فيها لإخضاع تاريخ أوكرانيا واستقلالها لرؤيته برسالة دون أدني شكٍّ كانت للداخل أكثر منها إلى الخارج، مُشدِّداً على ضرورة الاعتراف باستقلال ما تسمى بالجمهوريتين الشعبيتين دونيتسك ولوهانسك، فانطلق بعد ثلاثة أيام هجوم روسي بدأ بقصف الصواريخ لأهداف عديدة في الأراضي الأوكرانية، وغزو بقوات برية دخلت البلاد من ثلاثة اتجاهات.
    من حينها خرّت سبحة الأيام ومضت سِتّة أشهر وتغيّرت روسيا، حيث تخلى النظام عن آخر بقايا المساحيق الديمقراطية واعتنق العسكرة الكاملة، بينما أعاد الغرب ضبط علاقاته مع روسيا والمال الروسي ومصادرها من الغاز والنفط والكثير مِمّا يحتاجه الغرب لاستمرار تقدمه ورفاهيته، وبدأت العديد من الدول الغربية تنفيذ برامج مساعدات عسكرية غير مسبوق لأوكرانيا، واندفع العالم في تغيير غير مسبوق سيكون له الكثير من التداعيات والتحوّلات اللاحِقة.
    صَدْمة الساعات الأولى للحرب عندما أصبح المستحيل حقيقة، ستبقى على الأرجح عالقة في ذهن كل أوكراني لبقية حياته حيث قُتِل آلاف الأوكرانيين، وبالمِثل قُتِلَ الكثير من جنود وضُباط الجيش الروسي، والأشق على النفس هو قتل المدنيين من الجانبين ونزوح الملايين منهم وكل حالة كانت وستبقى لوحدها مأساة.
    الذين قرروا مغادرة مدينة ماريوبول الجنوبية في الأيام الأولى عندما كان ذلك مُمْكِناً، تمكنوا من العثور على مكان آمن في أجزاء أخرى من أوكرانيا أو في الخارج. والذين قرروا الانتظار والتروي انتهى بهم الأمر إلى أن تقطعت بهم السبل، وأجبروا على تحمل أسابيع من القصف خلال العملية الروسية للسيطرة على المدينة. ولعل استعادة تلك المشاهد المأساوية وقصصهم عن دفن الجثث في مقابر الفناء الخلفي لمنازلهم والاحتماء في الأقبية الرطبة والمُتجمِّدة، وحكاياتهم عن الأمراض وحالات الإجهاض والجوع والحرمان، تذكِّرنا بالحرب العالمية الثانية وأهوالها.
    وسط الرعب والصدمة، ظهرت قصّة مُثيرة مُتماسِكة عن دولة موحّدة حديثاً تبخّرت فيها الانقسامات السابقة في مواجهة التهديد الوجودي القادم من الشرق، فتأكد لكل المراقبين أنّ أوكرانيا تغيّرت وتتغيّر.
    بدأت المقاومة من رئيس الدولة زيلينسكي وفريقه عندما بقوا في كييف بدلاً عن الفرار، وتوسّع الصُمود ليشمِل كافة شرائح المجتمع، وفي معظم البلدات والقرى، بقي العُمد المحليون في أماكنهم وساعدوا في تنظيم المقاومة.
    في فبراير، كان الهدف المعلن لـ “العملية العسكرية الخاصة” كما يسميها الكرملين، هو حماية السكان الناطقين بالروسية في منطقتي دونيتسك ولوهانسك، إضافة للهدف غير المفهوم الذي أطلقت عليه موسكو “دحر التوجهات النازية في أوكرانيا” واستمرارها في وصفها بأنّها “عملية عسكرية خاصة لاجْتِثاث النازية” في الدولة المُجاوِرة وحماية المجتمع الناطق بالروسية في شرق أوكرانيا. وفوق كل ذلك شدّد قادة الكرملين على أنّ الصِراع مُرتبِط بتوسّع حلف شمال الأطلسي وانتهاكاته لاتفاقات ووعود واقترابه من حدود روسيا.
    لا ريب أنّ توقف التقدُّم الروسي نحو العاصمة كييف، وتبدُّد أمل بوتين في عملية سريعة لتثبيت حكومة جديدة موالية لروسيا في كييف تحافظ على أوكرانيا كدولة مستقلة اسمياً وتضعها في مدار موسكو، يثبت أنّ الكرملين تحرّك على أساس سوء فهم كامل للتغيير الذي حدث في أوكرانيا في السنوات الأخيرة.
    أدى هذا الأمر إلى تحوّل في الخطاب ليتحدث السياسيون الروس الآن عن مطالب إقليمية، وعن خلق “حاجِز” في أوكرانيا بين موسكو والغرب، والأسوأ أنّه برز إلى المُقدِّمة مُنْتَقِلاً من الخلفية حيث كان يكمن، ازدراء واضح للشعب واللغة والثقافة الأوكرانية. ولذلك يقول البعض إنّ الحرب بين أبناء العم، الشعبين الروسي والأوكراني، تحتاج إلى ما بين خمسين وثمانين عاماً لتندمل جراحها، أي بعد أنْ تنقرِض الأجيال التي أشعلتها وخاضتها وجعلت المستحيل، حرب أبناء العمومة، مُمْكِناً.
  • تغيّرت العلاقة بين الغرب وروسيا إلى الأبد:
    بعد الغزو، وعقِب لحظات الرُعب الذي ظهرت ملامحه بين النُخب السياسية والتجارية، جرى في روسيا الاعتراف بأن ديناميكيات العلاقات بين روسيا والغرب ستتغيّر إلى الأبد. وفي مواجهة الخيار الصارِم، اختار معظم الروس أنْ يصمتوا أو يعيدون تسمية أنفسهم بأنهم “وطنيون”.
    وغادر العديد من الروس البلاد، إمّا لأسباب سياسية أو لأنّ العقوبات جعلت من المستحيل عليهم القيام بأعمال تجارية. وكما حدث في أعقاب الثورة البلشفية قبل قرن من الزمان، امتلأت المدن القريبة من حدود روسيا مع الدول المُجاوِرة بعشرات الآلاف من المنفيين الروس.
    أصبحت ريغا عاصمة لاتفيا، مركزاً للصحفيين المستقلين الممنوعين من العمل في روسيا؛ يريفان في أرمينيا صارت هي المكان الذي سافر إليه الآلاف من المتخصصين في مجال التكنولوجيا الرقمية واستقروا فيها؛ تبيليسي في جورجيا ومدينة إستنبول التركية والعاصمة الصربية بلغراد وبرلين الألمانية صارت مُدناً تقيم فيها مجتمعات روسية جديدة في المنفى.
  • السؤال الصعب.. كيف تنتهي الحرب؟
    بعد ستة أشهر من الغزو، أصبح من الصعب الإجابة الآن أكثر من أي وقت مضى على السؤال “كيف ينتهي الرُعب ومتى تضع الحرب أوزارها؟”.
    في الأسابيع الأولى من الحرب، سافر الملياردير الروسي رومان أبراموفيتش إلى كييف في مُهمة وافق عليها الكرملين للتوسُّط في محادثات سلام بين زيلينسكي وبوتين. وفي مارس الماضي، كان أبراموفيتش يشعُر بأنّه على وشك تحقيق شيء يُمْكِن أنْ يكون بمثابة نموذج قابل للتطبيق لمحادثات بين الزعيمين. ولكن، بمجرّد أنْ اطّلع العالم على جرائم القتل الوحشية في (بوتشا) وأماكن أخرى، أصبح هناك القليل من النقاش الموضوعي حول أي مفاوضات أو محادثات ثنائية.
    وعليه، واصلت موسكو، وتواصل، هجومها البطيء في دونباس، بيد أنّ أي خطة لإعادة تجميع قواتها وشنّ هجوم جديد على كييف تبدو غير واقعية على المدى القريب، فما بالك عن المدى المتوسط أو البعيد وكييف تحصل على أسلحة غربية حديثة بدأت تحدِث الفرق في ارض المعركة. وحتّى الاستفتاءات التي أطلقتها موسكو في الأراضي المحتلة لتقنين ضمها، يبدو من غير المُحتمل أنْ تتحقّق لأنّ الوضع على الأرض غير مُسْتقِر.
    الشاهد أنّ أوكرانيا وعدت مِراراً وتِكراراً بشنِّ هجوم مُضاد، على الرغم من أنّه أمر محفوف بالصعوبات. وفي 24 أغسطس الجاري، وبعد نصف عام من بدء الغزو، احتفلت أوكرانيا بعيد استقلالها الـ 31 من الاتحاد السوفيتي السابق الذي ورثت روسيا الاتحادية الكثير من نفوذه وقراءته للتأريخ والجغرافية السياسية. ولعل أهمّ ما جاء في خطاب رئيسها فولوديمير زيلينسكي هو “أنّ الحرب بدأت في القرم وستنتهي في القرم”، مُشدِّداً على عدم تقديم أي تنازلات، مُعْتَبِراً في خطاب مؤثِّر أنّ “أوكرانيا وُلِدت من جديد بعد الغزو الروسي في 24 فبراير”. وبدلاً من العرض العسكري التقليدي، تم إحضار عشرات القِطع من المُعِدّات العسكرية والدبّابات الروسية التي دمّرتها المُقاومة الأوكرانية إلى شارع خريشتياتيك بوسط كييف، ولا ننسى أنّ زيلينسكي قال في خطابه “كُنّا نبحث عن سلام والان نتحدّث عن نصر”، ولِقَفْلِ كافة مداخل الاحتمالات شدّد القول بأنّ “هذه الحرب لن تصبح نِزاعاً مُجمّداً”، وتلك دون شكٍّ عبارات لها ما بعدها. فهل كييف مُصمِّمة لا على طرد الغزاة من شرق أوكرانيا فحسب، وإنّما على استعادة شبه جزيرة القرم؟
  • بوتين والقفز في المجهول:
    استعرضت (الغارديان) دراسة حول ما يجعل القادة المستبدين يفشلون بعد شنّ العمليات العسكرية، وضعها المؤرخ البريطاني واستراتيجي الحرب لورانس فريدمان ونشرها في كتاب جديد بعنوان “القيادة: سياسة العمليات العسكرية من كوريا إلى أوكرانيا”. وكتبت الصحيفة البريطانية العريقة أنّ الدراسة خلصت إلى أنّ الأنظمة الاستبدادية تميل إلى المُبالغة في تقدير قوتها وهي غير قادرة على تقييم المخاطر بشكل صحيح، الأمر الذي يفسِّر سبب تحوّل قراراتها إلى “كارثية”.
    ويرى فريدمان أنّ الحرب على جزر فوكلاند بين الأرجنتين وبريطانيا العظمى، وغزو صدام حسين للكويت والحرب الحالية في أوكرانيا، تشترك من بين أمور أخرى، في شيء واحد: وراء إشعال كل منها “ديكتاتور”.
    وفي تقدير فريدمان أنّه لِحَدٍ كبير، كانت الأنظمة الاستبدادية مسؤولة عن قرارات كارثية حقاً – على الرغم من أنّ الديمقراطيات لمْ تعُد مستثناة من القرارات السيئة أيضاً. وأثبتت الأحداث أنّ قراءته صحيحة بالنسبة لصدام حسين، وفي سبيلها لتنطبق بالتأكيد على فلاديمير بوتين وحربه في أوكرانيا.
    ويضيف فريدمان “تفتقر الأنظمة الاستبدادية إلى آلية التغذية الراجعةfeedback- -، بالاعتماد على ما يعتقد قادتها أنّه ميزتها الرئيسية: الثِقة المُفْرطة في افتراضاتها الخاصة والاعتقاد الراسخ بأنّها أقوى من أنْ تفشل”.
    ودون الخوض في التفاصيل التي استعرضها المؤرخ البريطاني نركِّز على نتائج توصل لها بأنّ الظروف تسمح أحياناً بعددٍ من القراراتِ غير المُلْهِمَة بعيداً عن العواقِب غير المقصودة، خاصة في حالة وجود جيش فائق العدد. ويشرح فريدمان ذلك بقوله “في أوقات أخرى، عندما تكون الحرب ضاغطة يُمْكِن لقرار واحد غير مُلْهِم، أو رُبّما القليل من سوء الحظ، أنْ يقلب الخطّة رأساً على عقب”.
  • رهان محفوف بمخاطر:
    ما أثار حيرة فريدمان على وجه الخصوص، وكذلك غيره، هو حقيقة أنّ بوتين – الذي سبق وأمر بشن هجمات محدودة حتى غزو أوكرانيا – قام بمُغامرة محفوفة المخاطر بغزو واسِع النطاق، وعلاوة على ذلك، لم يؤمنها بشكل صحيح، ولذلك نضيف على ما توصل اليه فريدمان بأنّ ما قام به بوتين مُقامرة وليست مُغامرة.
    قبل غزو أوكرانيا، كان بوتين يعرف كيفية استخدام قوته العسكرية بفعالية كبيرة – على سبيل المثال، في الشيشان وجورجيا والقرم وسوريا – كما أنّ التدخل العسكري الروسي في منطقة دونباس عام 2014 كان محدوداً.
    بيد أنّ مقاربته للنزاع الحالي في أوكرانيا لا يُمْكِن وصفها بأقلِّ من أنّها تشبه الخِداع الواضِح للنفسِ كما يفعل المُقامِر مع نفسه الأمّارة بالكسْبِ السريعِ. ولا يبقى أمامنا غير افتراض أنّه لمْ يدرِك مدى خُطورة مُقامرته، وكان يعتقد أن أوكرانيا ستنهار في لحظة، ومن الصعب أنْ نفهم كيف توصّل إلى تصديق مثل هذا الأمر. وبرغم أنّ المحللين والمراقبين الأجانب – الذين كانوا يفكرون في احتمال ألّا يكون أداء أوكرانيا جيداً – لمْ يعتقدوا أبداً أن الشعب الأوكراني سيستسلم، بينما كان بوتين يؤمن بذلك حقاً. كان يعتقد أنّها ستكون عملية عسكرية خاصة تستمرّ بضعة أيام فقط. ولا نملك أنْ نقول الآن “بمجرد فشل هذه الخطة، تفوق عليه غريمه الأوكراني زيلينسكي”.
  • خطأ الكرملين الأساسي:
    من وجهة نظر فريدمان، كان الخطأ الأساسي هو أنّه على الرغم من العدد الكبير من جواسيس موسكو في أوكرانيا، فإنّ الذين حول الرئيس بوتين إمّا لمْ يتمكنوا من توقُع ردّ فعل الدولة التي تم غزوها فأثبتوا فشلهم، أو لمْ يجرؤوا على مُناقضة رأي بوتين وقراءته للتطورات التي انتظرها، فكانوا بمثابة صدى له.
    ولعدم دمغهم بالفشل، يمكن تفسير قرار بوتين من خلال حقيقة أنّه لمْ يتشاور مع الخبراء مُسبقاً، ورُبّما تحدّث فقط مع الأشخاص المقربين في جهاز أمْنِه الفدرالي FSB ومُخابراته العسكرية GRU الذين كانت لديهم معتقدات مماثلة أخذوها منه أو جعلوه يأخذها منهم.
    صفوة القول، إنّ العودة لإعادة قراءة خطاب 21 فبراير، قبل ثلاثة أيام من الغزو، تكشف أنّ بوتين لمْ يأخذ الرئيس الأوكراني على محملِ الجَدِّ، ورُبّما افترض أنّ زيلينسكي سيبرِم صفقة استسلام أو يهرُب، وهو ما لمْ يَحْدُث. فهل يُحْسب ذلك لصالح جواسيس كييف في موسكو، عِلماً بأنّ الأجهزة الخاصة الحديثة لا تأخذ فقط معلومات تستفيد منها وإنّما تسعى أيضاً لتعطي معلومات تشوِّش بها؟
    جوهر المشكلة، كما في تحليل فريدمان، هو التسلسل الهرمي الصارم لمراكز صنع القرار في الكرملين حيث يتمتّع الذين في القِمّة بحصانة من أيّ مسؤولية إذا حدث خطأ أو لمْ تسِرْ الأمور كما يجِب. ولذلك لا يوجد دافع لقولِ الحقيقة على الأرض للقيادة الأعلى. مسؤولون عسكريون رفيعو المستوى وجزء من دائرة فلاديمير بوتين المُقرّبة – مثل وزير الدفاع سيرجي شويغو ورئيس الأركان فاكيري غيراسيموف – طردوا الكثير من الجنرالات بعد أنْ علموا بوجود مشاكل في العملية العسكرية الخاصة بعد أنْ ثبت على ارض المعركة أنّها لا تسير كما الخطة، مع أنّه في أغلب وأهمّ الأحوال تكون المشكلة الحقيقة معهم وفيهم، ولكن كيف يخالف بوتين ومَن في دائرته نظرية المستبدين القائلة إنّ الخطأ دائماً يرتكبه شخص آخر؟
  • موسكو من الخطة (أ) إلى (ب):
    بعد فشل الخطة (أ) في تنصيب حكومة دمية في كييف، لجأت موسكو إلى الخطة (ب)، لكنها أدركت أنه لا يمكن تحقيقها.
    ويقول المحلل البريطاني “لقد حاولوا العثور على خطة بديلة – القافلة الشهيرة التي تجمعت حول كييف – لكنها لمْ تنجح في حصارها أو اقتحامها. كان الأمر أعقد من اللازم بالنسبة لهم من الناحية اللوجستية. كانت الخطوط مكشوفة للغاية. لذلك عادوا إلى إقليم دونباس وركزوا عملياتهم فيه”.
    ومع ذلك، لمْ يدركوا حتى شهر مايو ما هي أهم خياراتهم المتاحة – أي “القيام بقصف مدفعي على جبهة محدودة، وهو تكتيك لا تستطيع أوكرانيا إيجاد حلّ له بسهولة دون تكبُّد خسائر فادِحة لحين وصول الأسلحة الغربية”.
    ومِمّا يثير الدهشة بنفس القدر، تفكير الكرملين بأنّه في خضم أزمة الطاقة سيغير الغرب رأيه بشأن دعم أوكرانيا. وبدلاً من اقتِناص طريقة للخروج من إلقاء اللوم على كييف لعدم الجلوس في المفاوضات، يرى المحلل البريطاني “أنّ بوتين لا يزال يتصرّف كما لو أنّه يتوقّع الكثير من هذه الحرب أكثر مِمّا حصل، ولا يلتفت إلى أنّ هناك علامات يأس في الجانب الروسي حيث بدأ البعض في الاعتراف بأنّ أزمة طاقة مُحتملة لنْ تؤدي إلى خيانة الدول الغربية لأوكرانيا أو التخلي عنها، وهنالك على المدى الطويل خطر حدوث أضرار جسيمة في الاقتصاد الروسي”.
  • هل من فشل كبير آخر؟
    كان فريدمان حذِراً بشأن احتمال قيام الأوكرانيين إلحاق نكسة كبيرة أخرى بالجيش الروسي – خاصة في جنوب أوكرانيا. ومع ذلك، قد يواجه الروس نفس مشاكل القرار الاستبدادي مقابل واقع ووقائع ساحة المعركة. فهل سيحدُث شيء كبير مثل مُحاصرة القوات الروسية واحتجازها حول خيرسون؟ أمْ تنجح موسكو في استعادة زمام المبادرة وتحقق أهدافها وتقصّر أمد الحرب بدفع الغرب لوضع أوكرانيا أمام طاولة المفاوضات وصولاً لتسوية؟
    يقول المؤرخ لورانس فريدمان أستاذ دراسات الحرب بكلية لندن الملكية لصحيفة الغارديان “إلى أنْ يتلقّى النظام في موسكو صدمة مثل تلك التي حدثت في فبراير ومارس الماضيين عندما تخلّت روسيا عن زحفها للسيطرة على كييف، أعتقد أنّ بوتين سيمضي قُدماً بعِنادٍ، لأنّه لا يستطيع التفكير في حلٍّ أفضل”. ويختِم المؤرخ البريطاني بأقصر عبارة مُمْكِنة.. “إنّ الكرملين أصبح مشلولاً”. فهل كان مُجْمَل تحليل فريدمان مُتحامِلاً على روسيا ورئيسها؟
    دعونا ننتظِر النقلات التي سيقوم بها فلاديمير بوتين في الفترة القريبة القادِمة وتطورات العمليات العسكرية، وكيف سيكون ردّه على اغتيال الحسناء داريا ابنة صديقه ومستشاره المُفكّر ألكسندر دوغين صاحب كتاب (أوكرانيا معركتي)؟ وهل سيثْأر لها في أوكرانيا؟ وبعد اتهامه كييف، هل تأكّدت له أنّ عمليّة الاغتيال كانت استِهدافًا له ونَقْلاً للحرب الاستخباريّة إلى قلبِ عاصمته موسكو؟ هل سينظُر إلى داخل دائرته في موسكو ليحيط بعوامل الفشل، أمْ يواصل الهروب إلى الأمام حتّى كييف؟ هل سيخْرُج بوتين من مُغامرته في أوكرانيا قويّاً، أمْ من الكرملين تطارِده محاكِم جنائيّة محليّة ودوليّة؟
    الشاهد إنّ زعيم الكرملين في حالة لا يُحْسَد عليها البَتّة، ومع ذلك ليس من المُستبعد أنْ تكون لديه أوراق وكروت رابحة لمْ يستعملها بعد في مُقامرته. فما هي، ومتى وكيف يرمي بها على الطاولة الخضراء التي تظهر للناظِرِ حمراء مُخضّبة بالدِماءِ؟
    بوخارست – 25 أغسطس 2022

isammahgoub@gmail.com

التعليقات مغلقة.