سودان الأربعينيات
بعيون الجمعية الفابية البريطانية

سودان الأربعينيات <br> بعيون الجمعية الفابية البريطانية
  • 02 نوفمبر 2022
  • لا توجد تعليقات

ترجمة: بدرالدين الهاشمي

أصدرت الجمعية الفابية (Fabian Society) البريطانية في سبتمبر من عام 1945م كتيبا (من نحو ثلاثين صفحة، ومن دون ذكر أسماء من قاموا بكتابته) عن السودان ومسيرة تطوره بعنوان “The Sudan: The Road Ahead”، شمل تلخيصا لمعلومات عن تاريخ السودان منذ القدم، وعن مناخاته وشعوبه، وأحواله قبل وبعد ما أسماه “الفتح الإنجليزي – المصري”، وحتى نهاية ثلاثينيات القرن الماضي. وصدر الكتيب ضمن سلسلة أبحاث الجمعية الفابية، وكان رقمه في تلك السلسلة هو 99.
والجمعية الفابية (نسبةً إلى القائد الروماني الداهية فابيوس، الذي كان يكسب الحروب من دون أن يخوضها، ويعتمد على استنزاف وإرهاق خصومه) هي جمعية قام بتأسييها سنة 1884م بعض المفكرين البريطانيين الاشتراكيين الداعين للعدالة الاجتماعية، الذين كانوا ينادون بإقامة نسخة بريطانية من الاشتراكية، ويرفضون ما عداها من الأفكار اليسارية “المتطرفة”. وكانت طرقهم في الدعوة لمذهبهم هي إقامة الندوات وإصدار الكتيبات الشارحة لفكرتهم، وغير ذلك من الوسائل السلمية. وكانت الجمعية تُعد بمثابة “المفكر النظري” لحزب العمال البريطاني. ومن أشهر أعضاء تلك الجمعية سيدني وييب، والأديب الإيرلندي المشهور جورج بيرنارد شو (1856 – 1950م)، الذي حرر كتاباً عنها بعنوانEssays on Fabian Socialism ، ترجمه محمد عبد الله الشفقي للعربية بعنوان “مقالات في الاشتراكية الفابية” (وهو مبذول في الشبكة العنكبوتية).
تناول هذا الكتيب في المقدمة “مسألة السودان”، وما دار من صراع علني وخفي بين بريطانيا ومصر حول السيادة عليه، بدأ بعد الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918م)، وازداد حدةً عقب نيل مصر لاستقلالها عام 1922م، وبعد قيام “جمعية اللواء الأبيض”، التي كانت تدعوا لـ “وحدة وادي النيل”، في عام 1924م. غير أن حزب العمال، الذي كان يحكم بريطانيا يومها، قاوم دعاوى الوحدة مع مصر، وأصر على إخراج المصريين وقواتهم من السودان. ولخص المؤلفون مواقف البريطانيين والمصريين والسودانيين في المسألة السودانية، فذكروا أن البريطانيين كانت لهم مصالح استراتيجية في السودان أهمها في ساحل البحر الأحمر، وخطوط الطيران العالمية في المستقبل، ومياه النيل. وكانوا يرون أيضا أن عليهم مسؤولية يدينون بها للسودانيين في انتقال منظم وتقدم عادل نحو الحكم الذاتي (فهم من كانوا قد خلقوا ذلك الوضع في السودان منذ البداية). أما بالنسبة للمصريين، فإن دوافعهم في السودان هي دوافع تاريخية وعاطفية، ومن المهم بالنسبة لهم الحفاظ على حصتهم في مياه النيل، وزيادة نفوذهم في الشرق الأوسط. وهم، على كل حال، يرتبطون – بحق – مع شماليي السودان بروابط اللغة والدين والثقافة. غير أن (معظم) السودانيين، ما زالوا حتى اليوم (أي منتصف الأربعينيات. المترجم) يفتقرون للوعي السياسي، رغم أن لديهم قلة قليلة من المتعلمين بالمدن (وأعداد هؤلاء في زيادة مضطردة). غير أنه يلزم لاتخاذ قرار نهائي وحاسم بشأن السودان، معرفة رغبات كل أفراد الشعب السوداني دون تمييز. وهؤلاء – في الغالب – لا يريدون حكما بريطانياً أو مصرياً. وفي خضم تلك المزاعم المتناقضة والرغبات المتعارضة، يجب على حكومة السودان أن تراعي مصالح البريطانيين، ومصالح المصريين أيضاً، وتتخذ لنفسها بين المصلحتين مساراً عادلا يضع رفاهية السودانيين في المقام الأول. فعلى المدى الطويل، لا ينبغي أن يُقَرَّر مصير السودان عن طريق البريطانيين أو المصريين، بل يجب أن يقرره السودانيون بأنفسهم. وقد بدأ المصريون – بعكس البريطانيين – في إدراك هذه الحقيقة. وأنفقت مصر بالسودان – من باب الدعاية – مبلغ 250,000 £ في بناء مدرسة ثانوية، وهناك اقتراح منها ببناء مستشفى مَدَنيّ جديد. والسودان بلد فقير، ومثل تلك العروض مغرية وجاذبة بلا شك. ولم تبد بريطانيا أي اهتمام خاص بما تقوم به مصر من أعمال بالسودان، على الرغم من أنها بقيت على استعداد لإنفاق أموال كثيرة على مستعمراتها الأخرى، ولكن ليس لديها شيء لتقدمه لسندريلا، مستعمرتها السودانية. ومع ذلك، فإن رفاهية السودانيين قد تكون أفضل بكثير في ظل الحكم البريطاني مما لو غدا تحت الإدارة المصرية. وذكر مؤلفو الكتيب أيضا أن المصريين يعتبرون السودان هو مكان لا يرغبون في العيش فيه، ولكنهم – في ذات الوقت – لا يريدون أن يفقدوه. وكان ملكهم قد نال لقب (ملك مصر والسودان) لإنفاقهم أموالاً طائلة في (فتح) وتنمية السودان وإدارة حكومته.
وخلص المؤلفون إلى أن الهدف من نشر هذا الكتيب هو تقديم خلفية لهذه المشكلة السياسية. فالسودان يمثل الآن (أي في أربعينيات القرن الماضي. المترجم) صورة تثير الاهتمام لتطور وتنمية قطر زراعي فقير، وينبغي دراسة أحوال اقتصاده، مثلما يدرس الكثيرون أحواله السياسية، ولا يمكن الفصل بين السياسة والاقتصاد في هذه الحالة. وهنالك الكثير من الدول التي تعاني اليوم من نفس مشاكل السودان الاقتصادية – السياسية. وهي مشاكل ترتبط بالعلاقة بين الإمبراطورية والاستقلال، وبالتعاون أو الصراع بين الشرق والغرب، وبمستويات الحياة المتخلفة والفقيرة التي لم ترتفع إلا قليلاً جدا بتصدير المحاصيل بصورة خام من أجل الحصول على القليل من الموارد النقدية. وظل السودان – والدول الأخرى مثله – في أوضاع متدنية (خلافاً للدول الصناعية)، وتعتمد في اقتصاداتها تماماً على الأسواق الخارجية؛ وهناك أيضا مشاكل الدين والتعليم. فالمشهد السوداني يشابه تجربة معملية (مختبرية) بشرية، قد يمتد أثرها خارج حدود ذلك البلد.
وأتت بعد ذلك في الكتيب فصول صغيرة شملت ما هو معلوم سلفاً عن مناخات السودان وشعوبه وأحواله قبل دخول الاستعمار التركي المصري، وما تلاه من فترة حكم المهدية، ثم فترات حكم الاستعمار الإنجليزي – المصري بين 1899 – 1924م، و1924 – 1936م، و1936م حتى منتصف الأربعينيات. ولا يختلف سرد كتيب تلك الجمعية “الاشتراكية” لذلك التاريخ في قليل أو كثير عما ورد في كتب عُتاة المحافظين البريطانيين. ووردت بالكتيب أيضاً فصول مختصرة عن تقدم التعليم والأحوال الاقتصادية بالسودان عبر السنوات السالفة. كذلك تناول الكتيب مسألة الدين بالسودان (الشمالي) بكثير من اليسر والجزافية، وأفرد سطورا لأتباع الشماليين لطوائف دينية ثلاث (أي أتباع الشريف يوسف الهندي، والسيد علي الميرغني، والسيد عبد الرحمن المهدي)، وأتى على المنافسة الدينية والسياسية بين الزعيمين الأخيرين. وذكر أن السيد عبد الرحمن المهدي كان يطمح في أن يملأ مكانة الملك الدستوري بالسودان بعد نيله للاستقلال (مثلما حدث في شرق الأردن Trans-Jordan)
وجاءت خلاصة الكتيب لتؤكد أن هنالك بالعالم الآن (أي في أربعينيات القرن الماضي. المترجم) شعوراً إنسانيا غامراً بمقدوره أن يؤدي دوراً غلاباً في كل النقاشات التي تدور حول الإمبراطورية والمستعمرات وما إلى ذلك. وينبع مثل ذلك الشعور الإنساني من الإحساس بالتناقض الأخلاقي في حقيقة أن الشعوب الديمقراطية تؤمن بقيم جوهرية تؤكد على الحرية الشخصية، بيد أنها لا تزال تواصل في إدارة، بل استعباد، بلدان أخرى، وتقرر في مصائرها. وهناك دافع قوي ومُلِحّ وطبيعي في قلوب الكثيرين لوضع حد، بأعجل ما تيسر، لهذا الضعف الأخلاقي في حصون مثاليتهم الخاصة. والتعبير عن مثل ذلك الشعور قوي بصورة خاصة في الولايات المتحدة الأميركية، غير أن قبول العالم بمفاهيم مثل الانتدابات (mandates) والحكم غير المباشر، يشير إلى رغبة قوية في إصلاح ضمير الحضارة الغربية. ومع ذلك، هناك خطر كبير من أنه، مع ارتفاع وتيرة إرضاء ضمير مذنب، يمكن أن تُرتكب أخطاء فادحة ومهمة، وتنسى الفوائد الحقيقية للغاية التي جلبتها قوة الاستعمار. إن الانسحاب والتخلي عما لا نعده في بعض الأحايين إلا بعضاً من خطايا أسلافنا، هو واحد من أول واجباتنا. إن إبدال سياسة أسلافنا بشيء أكثر مناسبةً للعالم الحديث هو الجزء الآخر من المسألة، وهو ليس بالأمر السهل بأي حال من الأحوال.
وفي مقابل فكرة “التخلي عن المستعمرات” هنالك من يرى أن الدخل (income) الذي تجلبه الدولة الأم من مستعمراتها (سوءًا أكان بالمرتبات أو التجارة) لا يمكن التغاضي عنه، خاصةً في هذه الأيام التي يسود فيها صراع عالمي من أجل كسب الرزق، من دون إحداث تأثير ضار على مستوى معيشة الدولة الأم. أضف لذلك حجة الدفاع. وهي حجة لا يتمسك بها المحافظون من رجال الأعمال وحدهم، فقد كانت روسيا قد مارستها لحد بعيد في مرحلة بنائها لهيكل الاقتصاد والدفاع في الاتحاد السوفيتي.
إن إغراء “الخروج” من السودان يصبح أكثر وضوحاً وأهمية عند إدراك أن السودان ليس بالبلد المناسب لعيش الرجل الأبيض، وليس به إلا القليل جدا من رأس المال البريطاني المجمّد أو المعلق؛ وليس به في الشمال، على أي حال، أي مشكلة دينية. ولحسن الحظ لا توجد بالسودان كل تلك المصاعب والمشاكل التي قد تترتب على سحب السلطات الامبريالية من بلد مستعمر. وعلى الرغم من ذلك، يجب التحذير من الأخطار الجسيمة التي قد تترتب على سحب الإدارة البريطانية من السودان بصورة متعجلة متلهِّفة. فقد يفقد السودان أي أمل في نيل الاستقلال إن تُرِكَ مرة أخرى “غنيمة باردة” لمصر، جارته الغنية. وقد تحاول فئة سياسية صغيرة من البيروقراطيين الفاسدين أن تسيطر على البلاد، وهي تفتقر للكفاءة والنزاهة والاستقامة اللازمة، وهذه صفات نادرة الوجود في الشرق الأوسط بشكل يثير الدهشة. وستصاب حينها البلاد بتدهور سريع في مجالي الزراعة والاقتصاد. وبصرف النظر عن المخاطر التي قد يتعرض لها القطن، فإن عملية تحويل البدو الرحل إلى مزارعين مستقرين تتطلب صفات لا يمكن العثور عليها بسهولة عند الشعوب البدائية في مناخ حار. ومن دون عون غربي، فقد يؤدي القصور الذاتي (inertia) والقدرية (fatalism) إلى عكس العملية بسرعة كبيرة، وإعادة البلاد إلى زراعة المحاصيل غير المؤكدة والمجاعة. وأخيراً، فإن الانسحاب المتعجل من السودان قد يفضي لانهيار الأمن العام، الذي سيقود بدوره لتفتيت الوحدة القائمة الآن، وإعادة صراعات القبائل ضد بعضها، والنزاعات بين العرب والسود.
واُخْتُتِمَ الكتيب بالقول إن أفضل غاية ونهاية عملية بالنسبة لشمال السودان هي بناء بلد مزدهر وصحي يعتمد أساساً على الزراعة، بالتعاون الوثيق مع مصر، ولكن بصورة مستقلة عنها، وأن ينضم لجامعة الدول العربية أو أي منظمة مماثلة في الشرق الأوسط. أما جنوب السودان فيجب أن يبقى تحت حكم “الانتداب” إلى يأتي الوقت المناسب ليقرر مصيره بصورة واضحة. ويتطلب بلوغ تلك الغايات والنهايات ما هو أوسع وأكثر من مجرد الوطنية الضيقة. وقبل كل شيء ينبغي اتخاذ خطوات جادة نحو إقامة سياسة تعليمية مخططة تخطيطا جيدا. إن السودان في حاجة ماسة لتعليم يهدف لتطوير الشخصية والتعاون والشعور (الحق) بالمواطنة عند كل الناس، وعند من يستخدمون عقولهم، وعند من يستخدمون أياديهم، على حدٍ سواء… وتعميم وزيادة وتطوير التعليم التقني والمهني وغيره في المناطق الحضرية والريفية لأبناء وبنات السودانيين بصورة تتيح لهم جميعاً الاستفادة والتمتع بالأرض التي يعيشون فيها. وقد يتطلب هذا اتاحة الفرص للشباب كي يسافر ويجرب الحياة في بلدان أجنبية. وهذا يتأتى بابتعاث المزيد من السودانيين للجامعات السورية والبريطانية والأميركية.
إن مجرد الحصول على الاستقلال لن يكون مفيداً للعالم، بل قد يكون خطوة للخلف إلا أذا صاحب هذا الاستقلال استعداد كامل لتقبل التزامات المدنية والحضارة. وبالإضافة لإصلاح التعليم لا بد من أن يسود أصرار على أن تتصف الخدمة المدنية بالكفاءة والنزاهة والاستقامة. ولا بد هنا من إدخال المزيد من السودانيين في الوظائف الإدارية المهمة (التي يشغلها حالياً البريطانيون).
أما بالنسبة للشباب البريطانيين الذي يطمحون في نيل وظيفة الزعيم (chief) الأبيض العظيم بالسودان، فيجب تذكيرهم بأن السودان لم يعد هو ذلك المكان لنيل مثل تلك الوظيفة كما كان في الماضي. ولكن في عالم الامبراطوريات والدول المستعمرة، فإن السودان يمثل تحديا كبيرا، وفي حاجة ماسة لرجال يمكنهم القيام بإنجازات تعادل أو تفوق إنجازات من سبقوهم، وذلك في ظل ظروف مستقبل يبدو أنها ستكون أشد عسراً مما كان عليه الحال في سنوات مضت.

alibadreldin@hotmail.com

التعليقات مغلقة.