الخرطوم بحري.. وحكاوي المراهقة المتعبة (4/1)

الخرطوم بحري.. وحكاوي المراهقة المتعبة (4/1)
  • 09 نوفمبر 2022
  • لا توجد تعليقات

غسان علي عثمان

الحداثة بت الكلب


المرقى الأول: (الحوامة على سطح بارد):
لكل مدينة قلبها الخاص الذي لا يدخله إلا من يعرف أسرارها، ويؤمن بصحة أساطيرها، يعشق تناقضاتها ويتعايش مع هذرها ولؤمها الجميل، إن المدن بطبيعتها مرايا الوعي الجمعي، وحكاياتها ليست حكاية أفراد، بل هي نصيبك مما تصنعه المدن فينا..
والخرطوم بحري على حداثتها بالنسبة إلى نشأة العاصمة المثلثة إلا أن أسرارها تظل مختبئة في دهاليز سوقها القديم والذي يحتاج عيناً متلصصة تخترق جدران عتيقة كانت نابضة بالحركة يوماً ما، لكنه الزمن الذي يعرف كل شيء إلا حُرمة الجدران..
بحري سِرُها أنها المدينة التي اجتازت بامتياز اختبار المحبة فزاوجت بين (الختمية وحلة خوجلي وحمد، بين الدناقلة والشلالية والمحس، أولاد الريف، وعصابات الفريق يصنعون حملات الإغارة لأجل شرف وتر وحيد في كمنجة.. الأفندية والعمال والتجار … ) وفي الوقت ذاته تطل على تاريخ قديم في جناين الصبابي والتي كانت مصيفاً خاصاً لعبدلاب الحلفايا زمن السلطنة الزرقاء.
بحري وكازينو النيل الأزرق ومحمد ميرغني، كابلي وخضر بشير، ود اللمين والسني الضوي، بحري الوابورات والتي اُقتلعت لأجل مشروع ساذج كنا نأتيها عبوراً إلى الخرطوم بالنهر الذي لم يختر موقعاً لاستقبالنا في الضفة الأخرى سوى وزارة الداخلية، وكأننا وفدٌ من سجناء مساقون من الحرية إلى القيد..
كانت المحطة الوسطى تتهازج بأصوات الكاسيت تلقن المارة المتعة بالغصب، ولم يكن ذا أهمية أن تستمع بقدر أن تدخل عنوة إلى هذه الحالة من الصخب في شمس حارقة لكن ظلال أشجار المحطة الوسطى كفيلة بظلك الخاص. ومن يسير مال نرتوي بالعرديب من عند “عمك علي” الذي حلا له أن يمنح منتجه لقباً طبياً (أخصائي العرديب) وحينها كان على ما أظن أربعينياً ولا أدري أين هو الآن، لكن المحل موجود، كما أن الرجل شديد الهم بزبائنه تراه “يلولوح” بسبحته الألفية وجلبابه الأنيق يتنقل كالفراشة على شفاه أكواب العرديب يبحث عن حذاقة صنعته لصالح الكثرة من زبائن الحر، وأناقته ملحوظة، لما لا، وهو في قلب مدينة شديدة التأنيث. أما على الجهة الشمالية منه وإن كان من بحبوحة فعلينا بكافتيريا (عزه) المنجا والشاورما- يوم سعيد..
وعلى عتبات وتحت ظل ظليل ينتصب فيصل بائع الكتب رقيق المحيا، والذي يشتعل وجهه بالابتسامة دون حذر، وقد اكتسب من فرشته المتواضعة شغف مراهقتنا التي لا يردها فيصل بسبب المال- “شيلو اقراهو وجيبو” وهذه فحولة الوراقين أينما كانوا..
المرقى الثاني: (سوسيولوجيا الجنس الممنوع):
للمفارقة ألا تجد الخرطوم بحري غضاضةً في التعبير عن حداثة متصالحة مع الجميع، ذلك أن “حي الأملاك” والذي يضم سودانيين وآخرين بالميلاد حفظوا لهذه المدينة حقها، فهنا قبل عشرات السنين تجاور اليهودي مع القبطي مع المسلم إذ لم يستفحل حينها بعد الصراع بين الأديان بالصورة التي يسمح لنا وعينا المرتبك بالفهم إبصار الفرق، فعقيدتنا ظلت أن دين الناس حُسَن تعاشُرِهم.
لم يكن يثير حفيظتنا أن نمر بجانب عيادة الدكتور “صهيون” ونحن مسرعون لاقتحام بوابة سينما الوطنية – باتت أطلالاً الآن، السينما حيث نتراهق طول النهار طمعاً في ختام سعيد ليومنا متسمرين على جدار مضيء ينقل لنا غراميات وبطولات نجوم السينما الهندية، نتحمس لـ (أبوطويلة) وهو لقب الممثل الهندي الأسطوري أميتاب باتشان وهو يطرح (الصيني، وهو لقبه وليس أسمه) أرضاً لينقذ محبوبته التي ما أن تطل بعينيها وجسدها المعلن عنه بالتقسيط حتى يتعالى هرج رواد السينما بصورة هيستيرية تعبيراً عن سوسيولوجيا الجنس الممنوع – يصرخ أحدهم: ك…تيييييييت، وكأنه إعلان بالبدء للبقية الصامتة لتستغل الفرصة تخلصاً من طبيعتها المكبوتة – لا تلوي على شيء.
ولأننا من جيل سكتت فيه المدينة عن صخبها إعلاناً عن موتها البطيء، كانت السينما هي السلوى الوحيدة إذ تتدافع جموعنا أمام البوابات حتى قبل معرفة اسم الفيلم، وفي حركتنا شغف غير مراقب، إذ يكفي جداً أن يشدك “بوستر” الفيلم بعد معاقبته، فالبطلة يكفيك منها الوجه والبقية مسحوقة بالبوهية منعاً للفتنة، كأننا حشرات يخاف تطفلها على أطباق الحلوى، وربما كانت طريقة لزيادة التشويق- لا أدري!.
ما إن يبدأ العرض حتى تطل اللقطات والتي يسبق عرضها أغاني لوردي ففي ذلك الوقت أكتسح شريط “المرسال” أسواق العاصمة، وقل أن تجد محل لبيع العصير لا يلزمك بسماع وردي مبرمجاً على موسيقى الموصلي الاليكترونية..
يبدأ الفيلم وبعد عدة مشاهد تخرج علينا روح شريرة من أعلى سقف يقع خلفنا تستلذ بتقطيع المشاهد التي هي مطلب فُرجتنا، ولأن عامل جهاز العرض ليس سودانياً فقد منحنا ذلك رخصة أن ندوس على شرف أمه – لا نلوي على شيء- يهتف أحدهم في حرقة الفقد- ك…تيييت.. الحبشي ذاتو.. وبالطبع تصل هذه الهتافات إلى الرجل المسكين دون أن يستحق منا كل هذه الثورة، فالرجل مأمور ولا يحمل ثقافة تمنع مراسيم الجِماع وهي دافعنا المسكوت عنه لصرف أخر ما نملك..
في استراحة الفيلم لم تكن لدينا رغبة في مغادرة مقعدنا الحديدي، وكذلك كنا (نتاوق) لمن هم جلوس على الدرج الأعلى، والتي عادة ما تكون مخصصة لمن يصطحب معه إحداهن- لم يكن مهماً بالنسبة لنا جمالها من عدمه، يكفي أنها أنثى- “مراهقون أغرار”.
كان كيس التسالي من الحجم الكبير هو أُنسنا الرخيص.. يعاود العرض وتكون هذه المرحلة حرجة جداً من الفيلم، فقد قضى البطل على نصف دستة من الأشرار- حين كانت المؤثرات تسبق البونيه- ولم يتبق سوى (الخاين) الكبير والذي عادة ما يكون محتمياً في قصره رفقة حسناوات تم اختيار خصورهن بعناية فائقة، يمنحنهن من الرقصات والارتعاشات الكثير، وهو جالس يتعاطى المكروه عمداً.. لكن قبل ذلك كان رواد (الشعبي) يمارسون عادة غريبة فالواحد منهم يذهب إلى الشاشة ويتحسس جسد البطلة يفعل ذلك ليُعبر عن امتياز رواد المصطبة الشعبية من السينما، فطالما كان جلوسنا في الوسط بين متناقضين كمعتزلة القرن الرابع الهجري يديرون التناقض بأقصى درجات الحرص على الحقيقة المراقبة، كان لهؤلاء الحق أن يبرروا رقةً حالهم بالمتعة المتخيلة، أما “الناس الفوق” فلا حاجة طالما هم متأبطون، فالذي أمامهم (مانوال) والعملي متوفر منه.
…يبدأ البطل في الوصول إلى وكر العصابة ويُمعن المخرج في المبالغة ذلك أنه من غير المعقول أن يصاب البطل بعشر طلقات ويظل واقفاً – هندي- يسقط البطل فتنقطع أنفاس البعض ويلوحون بكل سبُاب الأرض ضد الخائن، ولا استبعد أنه سلوك تعويضي عن قمع الشهوة الذي يعانون. بالطبع البطل لا يموت لكن الهمم تتراجع مع مشاهد النهاية لأن موعد مواجهة الواقع خارج جدران السينما قد آن، وأولى الهموم الحصول على العشاء من فول (عنبور) بحلة حمد، وهو محل صغير وغير معتنى به، لكن صاحبه معتز بنفسه حتى أنه لا ينشغل بغسل صحونه ويكتفي بالجلوس على عنقريبه، منتظراً ربحه دون أدنى جهد، كان الرجل يشعر بأنه يمنن علينا بأن يظل دكانه مفتوحاً حتى ساعات الليل المتأخرة…

ghassanworld@gmail.com

التعليقات مغلقة.