بكائية على جدران الوطن

بكائية على جدران الوطن
  • 13 نوفمبر 2022
  • لا توجد تعليقات

حسن أبوزينب عمر

في فمنا القصائد
مالحة ضفائر النساء
والليل والاستار والمقاعد
مالحة أمامنا الأشياء
يا وطنى الحزين
حولتني بلحظة
من شاعر يكتب شعر الحب والحنين
لشاعر يكتب بالسكين
نزار قباني

الذي نعيشه في مستنقع التعاسة والبؤس والخواء في سودان اليوم لم يعد يغري أحدا بالكتابة والتعليق فلم يعد هناك خيار سوى الهروب اذ لم يعد للاخراج فائدة ولا لمكبرات الصوت فائدة فان اللحم قد فقد الاثارة .. حالنا الآن أشبه بحال مارشال الجو النازي هيرمان جورنج الذي كان الذراع اليمني للفوهرر هتلر والذي قبض عليه الحلفاء بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ونقلوه مقيدا بالحديد الى محكمة نورمبرج (أشهر محكمة في التاريخ ) وهناك تم الحكم عليه بالاعدام شنقا حتى الموت الا انه غافل حراس السجن وتمكن من تهريب أقراص سم السينايد فعثروا عليه في اليوم التالي جثة هامدة بعد انتحاره تاركا بجانبه ورقة كتب عليها وقد كان يتوقع الإعدام رميا بالرصاص لكونه عسكريا (لم امكنهم من رقبتي )

(2)
لكن الذي يستوقف هنا ليس هذا ولا ذاك بل عبارة شهيرة نسبت اليه وتردد صداها في الكون (كلما يتحدثون عن السياسة اتحسس مسدسي ) هكذا أنتهى حالنا نحن للهروب بعيدا عن مزبلة السياسة السودانية وروائحها التي تزكم الانوف ..نقلب الملفات في كل مجالاته ونشاهد الفارق في الصورة ..كان ماضينا حديقة غناء مترعة بجماليات التعايش وعذوبة قبول الآخر سيان ان كانت الانتماءات الاثنية محلية أو قادمة من وراء البحار .

(3)
الذي يؤ كد هذا المعنى الواعي الكبير ذلك الاحتشاد غير المسبوق علي حسناء اسمها عزيزة ادم منديل من كوكبة من شعراء السودان .. فقد كانت من بنات ام درمان (حي المسالمة) وكانت تحمل لقب ملكة جمال السودان في مسابقة جرت عام 1958 . اختلفت الروايات حول ديانتها من قائل انها قبطية ومن زاعم انها تنحدر من أصول يهودية ولكن هذا لم يمنع سيلا من المعجبين نظموا فيها القصيد .في حوار لها اعترفت عزيزة ان عائلتها يهودية وأنها دخلت الإسلام وساهمت في بناء الخلاوي بعد أن تحولت لناشطة في أعمال الخير. وكان جدها داؤود تاجرا أتي الى السودان من المغرب والجزائر حاملا معه الحرير والالماس وكان صديقا شخصيا للأمام عبد الرحمن المهدي الذي كان وراء اسلامه وتزويجه من أحد بنات الاشراف .

(4)
وفاء بوفاء واعجابا باعجاب لم تغادر عزيزة السودان حتى عمر الثمانون حيث طاب بها وأسرتها المقام وكان مواطنو ام درمان نساء ورجالا يحرصون على الترحاب بها والسلام عليها في الشارع في أخريات أيامها ويطلقون علها العمة أو الخالة عزيزة ..وقد اشتهرت بظبية المسالمة وكان الشاعر سيد عبد العزيز أحد الذين سقطوا في حبائلها فخلدها بقصيدته الذي زادها رونقا وجمالا عميد الفن أحمد المصطفى .

(5)
يا بنت النيل .. النيل
أحب النيل ياجميل
ظبية المسالمة
وفي الخمايل حالمة
وفيك يا ظالمة .يا ظالمة يا ظالمة
تجرحني ليه وأنا كل جراح
لابد يجي يوم ألقاك وارتاح
آه .. أنا من عيونو الساحرة
آه ..أنا من خدوده النايرة
آه ..أنا من ضفايره السادلة
ثم يتوقف الشاعر لحظة يسرح فيها داخل السودان شمالا وجنوبا حينما كان الوطن بطوله وعرضه لوحة تسلب العقل وبستانا يغري بالراحة والهدوء والسكينة لتكتمل جماليات الصورة
ليك من سحر الجنوب قسماتو
ومن طيب زهر الشمال الشمال نسماتو
أحبه وأحب نوناتو ..نوناتو ال في وجنتاه

(6)
لم يكتف عبيد عبد الرحمن بظبية المسالمة بل اتبعها (يا مداعب الغصن الرطيب) ثم (أنة المجروح) اذ يقول
يا أنة المجروح يالروح حياتك روح
الحب فيك يا جميل معنى الجمال مشروح
مصرية في السودان بحبي ليك أبوح
يا عنب جنا ين النيل أتمنى منه صبوح
وأنشد فؤادي الضال بين الرياض مذبوح
وأرى الهلال في ظلال تلك الخميلة يلوح
وقد غني لها أيضا عبيد عبد الرحمن وسرور(أه من جور زماني) ثم (افكر فيه وأتأمل) وألف فيها عبيد أيضا
حليل زمن الصبا الماضي
وحليل زهر الحياة الزاهر
حليل زمن الحبيب راضي
وحليل زمن الهوى الطاهر

(7)
في زفاف ظبية المسالمة لم يكتف عبيد عبد الرحمن الذي تم بحضوره وحضور سيد عبد الغزيز ضمن المعازيم بتلكم الأغنيات بل دفع الى الجمهور بأغنية (أفكر فيه وأتأمل أراه اتجلى وأتجمل ..هلالي الهل وأتكمل ثم أغنية ( يا مداعب الغصن الرطيب في بنانك ازدهت الزهور زادت جمال ونضار وطيب ..
في الروضة غنى العندليب وغنى أناشيد الحبور.
لم ينتهى التفاف شعراء السودان حول عزيزة فهناك رواية تذهب بأن عبد الرحمن الريح دخل الحلبة رغم انه كان من سكان حي العرب
لي في المسالمة غزال
نافر بغني عليه
جاهل وقلبي قاسي وقلبي طالع ليهو
ان جاه النسيم زي الفرع يتنيه
والثمن الرطيب كذب البقول يجنيهو
أزهار الربيع مازج زهور خدويهو
وجدلات الحرير ما لينة زي أيديهو
سالبني نار هواه شال قلبي يلعب بيهو

(8)
الزهو في ساحات العشق لحسناوات الوطن بأركانه الأربعة أغري أيضا الشاعر أبو آمنة حامد .. يبدو هذا في قصيدته بنحب من بلدنا
في سنكات بنعشق بت سمرة وأبية
ترتاح في الضريرة خصلاتها الغنية
عاشت في شعوري أحلى هدندوية
بعدها اختفى أ بو أمنة من المشهد وتحول الى نحلة تجوب الفيافي بحثا عن رحيق الورد في أدغال الجنوب وصحاري الشمال وسافنا الغرب يتغزل في حسان الشايقية ويتدلل في فاتنات جعل ويتأمل جمال بنات البقارة حتى انتابنا شعور انه ضاع وتاه في ربوع السودان الا أنه أرسل رسالة تقول
يا ناس أرحموني
أنا قلبي في رفاعة

(9)
كان السودان حديقة غناء يسرح الفراش في ازهارها فالساحرة عزيزة فتحت قلبها لكل أصحاب الكلمة الرقيقة سكبوا الشعر فى محرابها فبادلتهم حبا بحب وعرفانا بعرفان وفي نهايات عمرها تحولت الى العمة عزيزة للأبناء والخالة عزيزة للبنات حينما كانت تتم اللقاءات بالصدفة في الشارع العام .كل هذا وهي قبطية لم تتعرض لمضايقة بسبب دينها أو جنسها .

(10)
الآن نحن نعيش أرذل أعمارنا فقد استبيحت الدماء تتدفق أنهارا ..الموجع انها دماء اخوة لنا في النيل الأزرق ولقاوة وجائت من هناك معجونة بفظاعات يندى لها الجبين وتشيب من هولها شعور الأجنة في أرحام الناس من قتل على الهوية لا يرحم طفلا ولا امرأة ولا شيخا عجوزا .. ماذا حدث يا ترى هل انقلب علينا الزمان أم انقلبنا نحن على الزمان حينما تحول الشعب الطيب المسكين المتآلف الى عقارب تلسع وأفاعي تبث السموم ..
الذي نراه أمامنا الآن هو صورة مستنسخة لملوك الطوائف في الاندلس وقد انقسمت بسبب الفساد والمكايدات والصراع على السلطة الى عشرة ممالك نعاها المحجوب في قصيدته العصماء الفردوس المفقود
هذي فلسطين كادت و ا لبغى دول
تكون اند لسا أخرى وأحزانا

(11)
كان أكثر مشاهدها حزنا وألما هو مشهد الخليفة أبو عبد الله الصغير آخر ملوك الاندلس حينما سلم مفاتيح قصر الحمراء في غرناطة ذليلا مهانا الى الملكين فرناندو وايزابيلا دون قيد أو شرط قبل أن يلقي من فوق ربوة عالية النظرة الأخيرة على قصره والدمع ينهمر من عينيه ..وقتها زجرته والدته الأميرة عائشة الحرة بكلمات سارت بها الركبان ( تبكي بدموع النساء حكما لم تدافع عنه بعزم الرجال).

(12)
صورة المكونات الاثنية والسياسية وهي تتصارع على السلطة في السودان قاتمة مرعبة مخيفة ( لو اطلعت عليهم لوليت منها فرارا ولملئت منهم رعبا ) وهي جاهزة ومغرية للبند السابع من قانون الأمم المتحدة ( فمن ترى سيزجرنا ؟ من سيصفعنا ؟ من سيركلنا اذا فقدت الإرادة وضاع السودان وتسرب من بين أصابعنا كحبات الرمل تحت نزاعات وصراعات ملوك الطوائف السودانية ؟ .

oabuzinap@gmail.com

التعليقات مغلقة.