أمريكا واستقلال السودان
ضع كيفرسون كافري محل فولكر بيريتس وتكون مثل أبوزيد لا استقليت ولا شفت الاستقلال (2/1)

أمريكا واستقلال السودان <br> ضع كيفرسون كافري محل فولكر بيريتس وتكون مثل أبوزيد لا استقليت ولا شفت الاستقلال (2/1)
  • 28 ديسمبر 2022
  • لا توجد تعليقات

د. عبد الله علي إبراهيم

) ضاق صدر الثورة المضادة بالمساعي الدولية والقارية والإقليمية التي تتكاثف لعون بلدنا شق طريقه للانتقال الديمقراطي. وعرضت في وجهها بوطنية شعواء ما عُرفت عنها. فالوطن عندها كان وما يزال نسياً منسياً: فأر تجارب لمشروعهم الإسلامي الحضاري ومغارة لصوص. ولم تأتنا هذه المساعي للانتقال الديمقراطي فرضاً. لقد استدعاها طلبنا الحثيث للديمقراطية والتغيير كشرت هذه الثورة المضادة نفسها حياله منذ الاستقلال. واستدعينا بعضها بأنفسنا تنجدنا من براثن نفس وطنيي الساعة الخامسة والعشرين.
إن الوطنية ليست واقعة وطنية مية مية. لو كانت لما احتجنا لإزاحة من بني الوطن فسقة فسدة توالوا على حكم البلد. فالوطنية هي واقعة عالمية أيضاً. فلم تكن دولة الإنقاذ واقعة وطنية “من واقعنا ما من أكتر” وحسب. لقد كانت هي العالم الذي قعد لها كل مقعد واسلمت له قيادها من فرط الإرهاق.
استنكار أن يكون العالم طرفاً في وطنيتنا كما يفعل الفلول هو لضرب العزلة على اتحاد أشواقنا لوطن حر مع من يسعف من العالم. والذكاء في هذا الاشتباك مع العالم في إدارته لا في الاشمئزاز منه والترفع المغرض عليه.
وهذه كلمة عن الوطنية والعالم نرى منها كيف أن استقلالنا في 1956، عقدة الوطنية، مما أعاننا العالم فيه. وأعاننا من العالم فيه أمريكا من دون الآخرين في شرط زمان ومكان مخصوصين. الوطنية ليست من “واقعنا ما من أكتر”. الوطنية هذه وأكثر.

مرت في 19 ديسمبر الماضي الذكرى السادسة والستين لإعلان الجمعية التأسيسية استقلال السودان من “داخل البرلمان” كما تجري العبارة. واستبق ذلك القرار استفتاء منتظراً يقرر فيه السودانيون مستقبلهم السياسي بالاستقلال أو الاتحاد مع مصر بحسب اتفاقية الحكم الذاتي (فبراير 1953) التي تواثقت عليها بريطانيا ومصر، دولتا الحكم الثنائي على السودان الإنجليزي المصري. ولم تقم للاستفتاء قائمة.
ليست صفوة السودانيين نشازاً في سوء الظن باستقلال وطنها. وصور سوء الظن هذا كثيرة. وأكثرها استهانة به قولهم إنه من سقط الإنجليز علينا ما يزال. فالإنجليز، في قولهم، تركوا السودان طوعاً استجابة لرغبة شعبهم التخلص من مستعمرات كالسودان أصبحت عبئاً ثقيلاً عليهم في ويلات اقتصادهم الذي ضعضعته الحرب العالمية الثانية. وكانت الضعضعة من الشدة فلم تأذن لهم بترف الاحتفاظ بمستعمرات لا نفع منها. فلو لم يغادرنا الإنجليز طوعاً، في قولهم، لكانوا فينا إلى يوم الناس هذا.
وليس ما تذيعه الصفوة السودانية تاريخاً بل محض سقم من استقلال ما “جاب حقه” كما نقول. ولسنا هنا بصدد الحديث عن استحقاقنا هذا الاستقلال بفضل الحركة الوطنية السودانية التي لم تترك باباً لم تطرقه لاسترداد إرادتنا الوطنية. خلافاً لذلك فسنقتصر هنا على قولنا إذا كان من فضل لقوة غير سودانية في استقلالنا فهي، يا للغرابة، الولايات المتحدة لا بريطانيا.
من أين جاءت أمريكا لمسألة السودان بعد الحرب العالمية الثانية؟
جاءت أمريكا لها في بدء الحرب الباردة وفي إطار استراتيجيتها حصار الاتحاد السوفيتي واحتواء النفوذ الشيوعي. وكانت مصر قصد أمريكا والسودان السبيل. فأمريكا خشيت على استقرار مصر تحت الملكية التي ضربها الفساد في حين عقمت طبقتها السياسة التقليدية. وعليه تحسبت من انقلاب شيوعي أو قريباً منه يطيح بالملكية. فرتبت السي أي آي مشروعاً لمصر سمته “الناكح السمين fat fucker” لدفع الملك لإجراء إصلاحات لحكمه.
وأرادت أمريكا من ذلك أن تجدد الملكية ب”ثورة سلمية” تقيم ديكتاتورية تقدمية تحت حكم الملك. وفشلت مع ذلك في حمل الملك لإصلاح دولته فقررت الإطاحة به بتنسيق مع ضباط انقلاب 23 يوليو الذين كانوا ضد الملكية وضد الوجود البريطاني معاً. وسنرى أن الأخيرة، معارضة الوجود البريطاني، كانت مدخل أمريكا إلى مسألة السودان.
ثم جاءت أمريكا في 1950 بمشروع “النقطة الرابعة” في سياق مساعيها لاحتواء الاتحاد السوفيتي والشيوعية. وجاء اسم المشروع من وروده فقرة رابعة في قائمة من السياسات للرئيس هاري ترومان. والمشروع برنامج للعون الفني للأمم النامية لكسب عقول وأفئدة شعوبها. وأرادوا منه أن يقولوا لهم إن الدول الرأسمالية والديمقراطية معنية بأمرهم، وراغبة في بذل ما وسعها لرفع مستوياتهم المعيشية خلافاً لما يسمعونه من دعايات الشيوعية. وكانت مصر حتى قبل انقلاب الجيش في 1952 ضمن من قبل بالنقطة الرابعة.
وثق لهمة أمريكا في تمكيننا من الاستقلال الفصل المعنون “التفاوض والاتفاق (بين بريطانيا ومصر) تحت مظلة الضغوط الأمريكية” في كتاب “الصراع السياسي على السودان، 1840-2008” (2009) لباحث مصقع هو جمال الشريف. والتفاوض المعني هنا هو الذي تكلل بتوقيع اتفاقية الحكم الذاتي للسودان في 17 فبراير 1953.
جاءت أمريكا بتلك الضغوط للمفاوضات حول مصير السودان السياسي باعتبارات ثلاثة:
أولها: انتقال الدول الرأسمالية والديمقراطية من الحرب الساخنة إلى الباردة لوقف زحف الشيوعية،
وثانيها: إن زمان الاستعمار القديم قد ولى وفات في سياق الحرب الباردة التي تقوم المنافسة على كسب أفئدة العالم وعقله كما في منطق النقطة الرابعة. وزكت أمريكا سياستها الجديدة كنجدة للعالم النامي لا حلباً للربح منه كما كان الحال في استعمار القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين،
وثالثها: إن استمرار الوجود العسكري البريطاني في قناة السويس مما يُجَرح الوطنية المصرية لقادة الانقلاب. ومن شأن ذلك أن يعرقل استصحابهم حليفاً في الحرب الباردة،
ورابعها: إن مصر تحت ثورة يوليو 1952 تنازلت تنازلاً كبيراً بقبول أن تفاوض على استقلال السودان وهي التي ظلت لعقود خمسة سبقت تتمسك بما سمته “حقوقها الشرعية” في السودان. وكانت أمريكا تريد لمصر أن تغطي على ذلك التنازل الحرج بالخروج معززة من المفاوضات حتى لا تشمت فيها معارضة متربصة في حزب الوفد والإخوان المسلمين والشيوعيين.
وإلى حلقة أخيرة

IbrahimA@missouri.edu

التعليقات مغلقة.