المراسل الحربي… عينان تجمعان الحقيقة وقدمان تهربان من الرصاص

المراسل الحربي… عينان تجمعان الحقيقة وقدمان تهربان من الرصاص
  • 17 يونيو 2023
  • لا توجد تعليقات

رصد التحرير- اندبندنت عربية

تجارب لمراسلي “اندبندنت عربية” في دول عربية تعيش صراعات قاتلة

فجأة، تبدأ الحرب، ويتغير كل شيء، حتى لون السماء. تصبح الرؤية ضبابية، والمعلومات شحيحة، فينطلق المراسل الصحافي من العمل خلف مكتب، إلى التجول بحذر في الشوارع وبين الجثث، يعلوه أزيز رصاص وقذائف. أن تكون مراسلاً حربياً يعني أن أصواتاً وأرواحاً وعذاباً ستسكنك فترات طويلة، كلما أغمضت عينيك سترى ما كنت تخاف أن تتخيله في صحوك. كل هذا الهرب بين السيارات المحترقة وعويل المصابين والجرحى، سيعود إليك ما إن تستسلم لهواجسك.

في هذا التحقيق المشترك، من دول عربية عاشت وتعيش صراعات دامية وحروباً، تجمع “اندبندنت عربية” شهادات مراسليها وتجاربهم، علها تكون تمريناً للذاكرة على النسيان.
تجربتان حربيتان

إسماعيل محمد علي

مررت خلال مسيرتي الصحافية التي امتدت نحو 37 سنة، بتجربتين كمراسل حربي، الأولى كانت في 1987 عندما غادرت الخرطوم صوب الأراضي الإريترية عن طريق البر لتغطية مجريات الصراع الإثيوبي – الإريتري المسلح الذي استمر 30 سنة (1961- 1991)، وهي أكثر الرحلات في حياتي مشقة، حيث قضيت قرابة الشهر في منطقة تسمى أروتا، تتبع للأراضي الإريترية المحررة بواسطة الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا، فكنا نقضي فترة النهار في الخنادق المجهزة تحت الأرض خوفاً من الطيران الحربي الإثيوبي ونمارس حياتنا ليلاً.
وأذكر أنه في اليوم الثاني من وصولي إلى منطقة أروتا الإريترية خرجت نهاراً لأستطلع الأحوال خارج الخنادق ولم أعلم أنه أمر ممنوعاً حتى لا أكون هدفاً للمقاتلات الإثيوبية، ففي لحظة سمعت أصواتاً عدة تناديني بالإسراع لدخول الخنادق، وتم بالفعل تحذيري والالتزام بالتعليمات المتبعة لديهم، لكن تجربتي الثانية مع حرب الخرطوم التي حضرت اندلاعها منذ إطلاق أول رصاصة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع يوم السبت 15 أبريل (نيسان) الماضي كانت شائكة ومعقدة لعدة جوانب، فضلاً عن مخاطرها البالغة من ناحية عدم الأمان، سواء خلال وجودك داخل المنزل أو عند التحرك والسير في الطرقات راجلاً أو راكباً، لأنها ليست حرباً محصورة في نطاق محدد من مدن العاصمة الثلاث، فهي أقرب من كونها حرب عصابات داخل المدن، حيث لا توجد فيها مراعاة لقواعد حماية الصحافيين، بل بعض منهم تعرض للاستهداف، وكذلك المقار الصحافية التي اقتحمت ونهبت كغيرها من المؤسسات المدنية، وما زاد الأمر تعقيداً استخدام الجيش السوداني الطيران الحربي في القتال، مما جعل قوات الدعم السريع الاحتماء بالمدنيين داخل الأحياء السكنية والمستشفيات وغيرها.

انفجارات شديدة

ما يزيد من حالة التوتر والقلق المستمر كثرة طلعات الطيران الحربي وتحليقه بكثافة فوق المنازل ورد قوات الدعم السريع باستخدام المضادات الأرضية، وأحياناً نسمع دوي انفجارات شديدة وكأنها بالقرب من مكان سكني، لكن أصعب المواقف لي حين حلقت مقاتلة بارتفاع قريب من منزلنا بعد منتصف ليل اليوم السابع من الحرب لتطلق قذيفة باتجاه أحد المباني المجاورة لنا، والتي تسببت في تهشيم زجاج نوافذ بنايتنا من قوة الانفجار، وكانت هذه الحادثة سبباً في هربي وأسرتي من الخرطوم إلى إحدى المدن الآمنة تسمى ود مدني (تبعد 180 كيلومتراً)، على رغم مخاطر الطريق نظراً إلى وجود نقاط تفتيش عدة، فضلاً عن الانفلاتات الأمنية، حيث قضيت فيها أسبوعين، ثم عدت مرة أخرى إلى العاصمة.
معاناة الصحافيين في هذه الحرب لا توصف، فمن حيث التحرك والتنقل فلا أحد يحميك أو يعترف ويقدر طبيعة هذه المهنة، فأنت في نظر من يرتدي البزة العسكرية محل شك وأحياناً هدفاً للاعتقال والقتل، أما من ناحية المعلومات فما يبث من بيانات من قبل طرفي الصراع فيها كثير من التضليل لأنهما يعتمدان على سياسة الحرب الإعلامية، فكل طرف يسعى إلى التأثير نفسياً في الآخر ورفع معنويات جنوده في الميدان، لكن ما يسهل من عملك كمراسل، وجودك في عدة مجموعات (غروبات) مواقع التواصل الاجتماعي فهي أصبحت مصدراً أساسياً لبث المعلومات، لكن عليك فقط تأكيدها من مصادر موثوقة، وأيضاً من المعاناة انقطاع الكهرباء وتعطل خدمة الإنترنت لساعات طويلة.
التأقلم مع الحرب أمر صعب، فاليوم يكون طويلاً وأنت باستمرار في وضع حذر، فضلاً عن انعدام أساسات الحياة، فالمحال التجارية والمخابز وكل الخدمات مغلقة، بالتالي تواجه معاناة من كل الجوانب.
حين قصفت إسرائيل الجسور في “حرب تموز”

دنيز رحمة فخري

لست مراسلة حربية ولم أكن يوماً كذلك، لكنني خضت التجربة لمرة واحدة. في السنوات الـ28 من عملي صحافية، والقسم الأكبر منها كان في الإعلام المرئي، وخلال التغطيات الميدانية المتنوعة التي كلفت بها، ومن بينها سلسلة التفجيرات والاغتيالات التي حصلت منذ عام 2005، تابعت كمراسلة المعارك الدبلوماسية السياسية على خطوط تماس اتفاقات الهدنة، حتى فجر ذلك اليوم في حرب إسرائيل على لبنان عام 2006.
كانت الساعة تقترب من الخامسة فجراً عندما استفقت مع عائلتي في منزلي على صوت هدير طائرة حربية وقصف “مرعب” بدا للوهلة الأولى وكأنه داخل غرفة نومي. أسرعت إلى الشرفة المطلة على الطريق العام، وهي الطريق الدولية الأساسية التي يسلكها المواطنون المتجهون إلى مناطق شمال لبنان، فكان الدخان يتصاعد منذراً بأن الغارة استهدفت الجسر المعروف بـ”جسر المعاملتين”. لم أنتظر اتصالاً من مديرية الأخبار في المؤسسة اللبنانية للإرسال حيث كنت أعمل حينها، للتحرك بهدف تأدية واجبي المهني، وقد غلب عندي الحس الصحافي وأهمية السبق الإعلامي، على أي شعور آخر، خصوصاً أنني كنت الأقرب جغرافياً إلى المكان المستهدف بالغارة الإسرائيلية، فلم أفكر لحظتها في أولادي الثلاثة ولا في أخطار الوجود تحت القصف. وأذكر أنه لشدة حماسي نسيت حتى أن أغير حذائي وخرجت بحذاء المنزل.

استهداف

يبعد “جسر المعاملتين” الذي استهدفته الطائرة الإسرائيلية خمس دقائق عن منزلي. وأنا في طريقي وعلى رغم صعوبة الاتصالات تمكنت من التواصل مع قسم الأخبار بعد محاولات عدة، وأخبرتهم أنني متجهة إلى المكان الذي تعرض للقصف، واتفقنا أن يوافيني المصور مع سيارة النقل المباشر. كانت الشمس لم تطلع بعد عندما وصلت إلى الجسر، وتقدمت بحذر باتجاه الدخان، أبحث في ما يشبه منطقة الأشباح عن الخبر وأدون المشاهدات والملاحظات، استعداداً للنقل المباشر. على الجسر المستهدف كنت وحدي مع سائق سيارة، نجا بأعجوبة والرعب كان بادياً على وجهه، وكان الشاهد الوحيد. الدخان لا يزال يتصاعد من حيث سقطت القذيفة، والطريق قطعت في الاتجاهين بفعل الصواريخ، والعبور بالسيارة باتجاه الشمال وبالاتجاه المعاكس إلى بيروت لم يعد ممكناً. وعلى يمين الجسر طاول القصف الوادي حيث كانت النيران لا تزال مشتعلة. وحده الصمت كان يلف المكان. لم ألحظ إصابات ولا آثار دماء، فالعناية الإلهية شاءت أن يكون عدد السيارات التي كانت تعبر الجسر لحظة القصف الجوي قليلاً ولم يتخط السيارتين. استوقفتني السيارة الثانية المصفحة، وهي من نوع “مرسيدس” داكنة اللون، كانت على المسلك الغربي للطريق باتجاه بيروت، وكان باب السائق مفتوحاً وكأنه غادر على عجل. فشكلت تلك السيارة الداكنة عنصراً إخبارياً مهماً في رسائلي أيضاً، انطلاقاً من أسئلة عدة طرحتها على الهواء، أين هو صاحبها ولماذا لم يكن موجوداً وهل كانت هذه السيارة هي الهدف؟

قطعت الغارة الإسرائيلية “جسر المعاملتين” فلم يتمكن المصور وسيارة النقل المباشر من الوصول سريعاً إلى حيث كنت أنتظر، على رغم الأمتار القليلة التي تفصل المكان عن مركز المؤسسة اللبنانية للإرسال في أدما. واضطروا إلى الالتفاف عبر الطريق البحري القديم للوصول، فكانت رسائلي في نصف الساعة الأولى عبر الهاتف فقط، مع ما يعنيه ذلك من صعوبة في نقل الصورة من دون صور، ولم تكن حينها تسهيلات النقل عبر الهواتف الذكية والإنترنت قد بدأت بعد.

أذكر تلك اللحظات حين خرق الصمت المستتب على الجسر المنكوب هدير الطائرة التي كانت نفذت الغارة الأولى، وكانت فوق رؤوسنا. بعد أن أنهت وفق ما علمت لاحقاً غارة ثانية استهدفت “جسر حالات”، على بعد كيلومترات قليلة من “المعاملتين”. كان الهدف الثالث المتوقع إذاً الجسر المتبقي الذي يربط المنطقة بالشمال، أي جسر “الكازينو”، وهو يبعد مئات الأمتار عن المكان حيث كنت أقف. في تلك اللحظة لم أفكر إلا أن أكون في موقع الحدث لتسجيل وقائع القصف على الجسر، والسبق الصحافي كان هاجسي. لم أتوقف للحظة لأفكر في أخطار الانتقال إلى هناك، ولم أشعر صدقاً بالخوف، وأستغرب الآن تلك الاندفاعة ربما المتهورة. حتى إنني وبسبب استحالة الانتقال إلى هناك بالسيارة، وصعوبة عبور الطريق المقطوعة بعد القصف، طلبت من صاحب دراجة نارية، صودف مروره من هناك، أن يأخذني إلى الجسر سريعاً قبل أن تنفذ الطائرة غارتها الثالثة. وهكذا حصل، إلا أن الغارة والحمد لله لم تنفذ ولم تقصف الطائرة جسر “الكازينو” حينها لسبب لا يزال مجهولاً حتى اليوم.

اليوم وبعد مرور 17 عاماً على تلك التجربة، وفيما لا أزال أتابع المعركة السياسية تلو الأخرى في لبنان، أستطيع القول إن التكتيكات والاستراتيجيات العسكرية في الميدان وعلى رغم تعقيداتها وخطورتها ربما تبقى أكثر شفافية ووضوحاً من خبايا وخفايا كواليس الصراعات السياسية.
وكادت أرواحنا تزهق

عز الدين أبو عيشة

كانت الساعة تشير إلى الثانية والنصف من فجر يوم التاسع من مايو (أيار) 2023، عندما وصل إلينا الخبر الأول ببدء إسرائيل تنفيذ عملية عسكرية مفاجأة في قطاع غزة، مباشرة تبدلت الضحكات التي كنت أمنحها لطلفتي الصغيرة مها، واختلطت المشاعر، بين خوف وحب.
أجريت اتصالاً هاتفياً طارئاً في هذا الوقت المتأخر من الليل مع زميلتي مريم أبو دقة مصورة “اندبندنت عربية”، على عجالة، أخبرتها بأن إسرائيل تنفذ حالياً عملية عسكرية، لم تصدق للوهلة الأولى، وطلبت منها أن تتجهز خلال خمس دقائق لألتقي بها من أجل الانطلاق للعمل من مكتب يقدم خدمات صحافية.
حزمت عدسات الكاميرا وجهاز الحاسوب المحمول ووسائل التغطية، وهممت بمغادرة المنزل، واحتضنت صغيرتي مها التي لم تتجاوز السنتين، لا أعرف لأي مدة، ربما تجاوزت 10 دقائق، لكن غارة جوية شنتها الطائرات بالقرب من منزلنا هي التي ذكرتني بالعمل. ودعت زوجتي، وانفطر قلبي خوفاً عليهما، ثم انطلقت صوب مريم، وفي الطريق رسمنا خطة العمل، ووصينا بعضنا بعضاً بأن النجاة أهم من الخبر والصورة.

توالت الأخبار التي تصل إلينا، عمليات اغتيال، وقصف عنيف طيلة الطريق كنا نسمعه، وقصف متتابع للمنازل، دق القلب خوفاً، لا أنكر أنه من الحرب، فنحن نتعامل مع الجيش الإسرائيلي الذي قد لا تفرق غاراته بين الأهداف والصحافيين.
كانت المشاهد والمواقف صعبة للغاية، ربما كان أصعبها زيارة منطقة انتهى للتو الجيش الإسرائيلي من قصفها، وهناك بدأنا في توثيق الدمار، إلا أن رجلاً ضخماً صرخ علينا بصوته الأجش “انسحبوا… سيموت الجميع… انسحبوا فوراً”. لم أكترث كثيراً لأنني كنت أعتقد أنه خائف علينا، وطلبت من مريم التركيز على تصوير ألعاب الأطفال المتناثرة.
بيده الضخمة سحبنا الرجل من المكان، وقبل أن ننظر إليه ونسأله ماذا فعل، سقط صاروخ حيث كنا نقف مسبباً انفجاراً ضخماً وشظايا طاولت عدسة الكاميرا وتسببت في كسرها، من شدة الغارة سقطنا أرضاً، ولا أذكر ما حصل معنا، ومن ساعدنا على الوقوف من جديد. إلا أننا سمعنا الرجل نفسه يقول “أخبرني الجيش الإسرائيلي في اتصاله، بأن هذا المكان محظور ويمنع الاقتراب من المنطقة لمدة نصف ساعة”، تنفسنا الصعداء، وتاهت مشاعرنا، حتى بدأ يظهر صراخ وعويل أصحاب البيوت المدمرة التي تجعل القلب ينفطر بكاءً، كانت صرخاتهم شهقات أشبه بالاحتضار.
قضينا خمسة أيام خارج بيوتنا، كانت علقماً نعيشه عندما نشاهد لحظات وداع أمهات القتلى لذويهم، أو ننظر إلى بيت تحول في ثانية لكومة ركام، ومن أكثر المواقف الأليمة كان صوت غيث ابن مريم يترجاها بالعودة إلى المنزل وتعده بأن ذلك سيحصل، مع كل اتصال هاتفي بينهم بعد منتصف الليل يصرخ الطفل “ارجعي يا ماما… أمانة تعالي… أمانة لا تستشهدي”. انفطر قلبي عليه كثيراً بينما كانت مريم تخفي دموعها، وفور إنهاء مكالمة الفيديو تنفجر بالبكاء، حتى تسمع صوت صاروخ جديد وتهرع لتحديد موقع الغارة.
عندما يضعك الحس الصحافي على كف القدر

جمال عبد القادر البدوي

كان يوم السبت الأسود 15 أبريل (نيسان) 2023 بالنسبة إلى سكان الخرطوم، وأنا منهم، أسوأ الكوابيس، فقد كان بامتياز يوماً للرعب الداهم المفاجئ، تعودت المدينة أن تبدأ حياتها مع خيوط الفجر الأولى، وانطلق كثيرون إلى أعمالهم باكراً، ولم يكن في حسبانهم أنه سيتحول إلى أول أيام جحيم الحرب قبل التاسعة صباحاً.
تلطف القدر كثيراً بالناس بأن صادف يوم سبت انفجار المعارك عطلة رسمية راتبة في دواوين الدولة، وإلا لكان كل موظفي الدولة قد حبسوا في مكاتبهم تحت مرمى نيران الاشتباكات لأيام عدة، مثلما حدث لكثيرين من التجار والصحافيين وغيرهم من أصحاب المهن الحرة.

وجهاً لوجه

بقيت أتابع أنباء الحرب ومعاركها في حدود منطقة وجودي الجغرافي، لكن مع احتدام المعارك والاشتباكات ودوي المدفعية الثقيلة حول منطقة المهندسين العسكرية (سلاح المهندسين) الذي سعت قوات الدعم السريع للسيطرة عليه ثاني أيام الحرب، قررت التوجه إلى هناك على أمل الحصول على مقاطع ومشاهدات ميدانية حية حول المعارك.
لم تكن الطرق الرئيسة آمنة بدرجة كبيرة، لذلك سلكت طرقاً داخلية، وكان صوت الرصاص يصبح أكثر ضجيجاً كلما اقتربت أكثر، إلى أن وجدت نفسي في مواجهة متاريس ترابية ضخمة ووجهاً لوجه مع قوات الجيش في أولى نقاط ارتكازهم.
تقدم نحوي اثنان منهما بحذر بالغ، وأمراني بحدة بالخروج من السيارة، وتم تفتيشها بدقة، ثم اطلعا على أوراقي الثبوتية، وأمراني بالعودة من حيث أتيت.
قبل تحركي، حذرتني قوة الجيش من خطر قناصي الدعم السريع المنتشرين بكثافة على أسطح بنايات الحي، وضرورة تجنب التوغل أكثر إلى الداخل، مع المواظبة على الانعطاف يساراً كلما وجدت سبيلاً، مع تفادي أي شارع بعرض 10 أمتار.

عدسات القناصين

اكتشفت في تلك اللحظة مدى حجم الورطة التي أنا فيها، وكم كان خطأ فادحاً سلوكي الشوارع الداخلية سابقاً، فكيف لي وقد علمت الآن بمدى الخطر الذي أنا فيه، تفادي شراك قناصي الدعم السريع، وكيف سأخترق كل تلك شوارع تحت عدساتهم. كان تحركي أشبه بالمشي تحت ظلال الموت ورحمة القدر، ما بين توقع الأسوأ في كل لحظة وادخار بعض من عصب التفاؤل واليقين والثقة بالله، ولا مفر من مغامرة العودة في رحلة بدت وكأنها دهر كامل.
في المقابل، كانت الاشتباكات داخل أحياء أبوسعد (المربعات)، لا سيما مربعات 14، 15، 16، 17 و20، تتم يومياً صباح مساء بمزيج من أدوات الرعب، تزامناً مع موعد القصف الجوي وانطلاق مضادات الطيران الأرضية من جميع الاتجاهات داخل تلك المربعات، في مشهد أشبه بسلاسل الألعاب النارية.

يستهدف الطيران الحربي مجموعات من قوات الدعم السريع بعضها يحتل محطة الإرسال الإذاعي والتلفزيوني بالمنطقة، بينما ترابط عربات عدة مدججة بالمدافع والرشاشات الثقيلة، على مرمى أمتار من منزلي، وكان لزاماً عليَّ المرور بتلك النقاط في كل حركة خارج الحي، مما دفعني إلى التخلي عن استخدام السيارة والتحرك عند الضرورة القصوى بمواصلات الدراجة النارية والتكتك ثلاثي العجلات عبر الشوارع الفرعية.

الوجه الآخر

تمددت تجربتي في تغطية حرب الخرطوم إلى الوجه المظلم الآخر للحرب، مع رفقة الفارين نزوحاً إلى الشمال وهم يتجرعون الأسى ويسكن شبح الحرب مخيلة أطفالهم، تجربة تختصر صدمة الانتقال اللحظي من السلم إلى الحرب، وندوب نفسية غائرة، وجدان مثقل باللوعة وقلوب وخواطر جريحة وكسيرة. اكتشفت أن الحرب فعلاً تسكن الناس، توسم مواجعها ملامح الفارين بالصدمة وهاجس الفرار من الخرطوم قبل أن يصبح حلماً هو الآخر.
ساحة حرب مفتوحة على المحتجين

أحمد السهيل

لم تكن أجواء الانتفاضة العراقية في أكتوبر (تشرين الأول) 2019 مختلفة بشكل كبير عن أجواء المعارك والحروب بالنسبة إليَّ كصحافي، وهذا الأمر بالإمكان قراءته من خلال الحصيلة الهائلة للضحايا، والتي وصلت إلى حدود 800 قتيل وأكثر من 27 ألف جريح خلال أشهر قليلة.

وعلى رغم عشوائية الاستهدافات التي طاولت المحتجين، فإنني كنت مدركاً أن مهمتي الصحافية لم تكن أقل خطورة، بخاصة في بلد يقبع في المرتبة 167 على جدول التصنيف العالمي لحرية الصحافة بحسب “مراسلون بلا حدود”.
وفيما كانت صفحات الناشطين والصحافيين تمتلئ كل يوم من أيام الاحتجاجات بمرثيات لزملائهم، كان السؤال اليومي الذي يراودني هو: هل سأكون أنا التالي أم أحد أصدقائي المقربين أو حتى أفراد عائلتي في قائمة ازدحمت بمئات الضحايا، خلال حالة الحرب التي أعلنتها الحكومة والميليشيات على الناشطين والصحافيين المناهضين لها.

تغطية القناص وبداية موجة الرعب

ما هي ألا أيام على بداية موجة الاحتجاجات الأولى، مطلع شهر أكتوبر 2019 حتى أدركت أن كوني صحافياً سيجعلني هدفاً رئيساً لدى الحكومة العراقية والميليشيات الموالية لإيران، بخاصة بعد موجة ترهيب قامت بها تلك الجماعات في حق الصحافيين غير المنضوين تحت جناح الحكومة أو أحزابها.
مثل أول مقاطع قتل المحتجين بعمليات القنص أكبر حالة ذهول بالنسبة إليَّ، ربما توازي شعوري في لحظة سقوط المحافظات العراقية بيد تنظيم “داعش”، هي لحظة أنهت الجدل حول حوارات شكل النظام في البلاد، وأعادت إلى ذاكرتي مقاطع القمع الذي مارسه النظام السابق في حق معارضية.
وكان يوم 6 أكتوبر 2019، الذكرى الأكثر رعباً بالنسبة إليَّ، تزامناً مع انتشار مقاطع قتل المحتجين بعمليات القنص من قبل عناصر تابعة للميليشيات، بدأت حملات ترويع الصحافيين بشكل ربما هو الأعنف منذ الغزو الأميركي.
وعلى بعد ساعات من بداية عمليات قنص المحتجين، والتي تتهم بها ميليشيات مرتبطة بشكل مباشر بإيران، وردني عديد من الاتصالات كان مفادها بأن ثمة قائمة أعدتها إحدى الميليشيات الرئيسة ورد فيها اسمي وأسماء عديد من الزملاء، وهو الأمر الذي دفعني إلى تغيير محل سكني لفترة، ومن ثم مغادرة بغداد حتى بداية الموجة الثانية من التظاهرات.
استذكرت في تلك الفترة أخبار الملاحقات الأمنية التي كان يقوم بها النظام السابق ضد معارضيه، وكيف أن الأحزاب المعارضة باتت تستخدم ذات الأساليب الترويعية في مواجهة حتى من تشك بأنهم خصوم محتملون.
خلال تلك الفترة أكدت لي بشكل مباشر شخصيات سياسية بارزة خطورة البقاء في بغداد خلال هذه الفترة، وأن الميليشيات والقوات الحكومية عازمة على فعل أي شيء لقمع الصحافيين المناهضين لها.
نجحت الحكومة العراقية – فيما بدا لي حينها بأنها حملة ممنهجة – بإفراغ بغداد ومحافظات الوسط والجنوب من معظم الصحافيين المناوئين للنفوذ الإيراني، فضلاً عن ترويعها العمل الصحافي باقتحام شمل مكاتب القنوات التي نشرت مقاطع تتعلق بقنص المحتجين وعمليات القتل الميداني.

قطع الإنترنت

بعد أن باشرت السلطات خلال الأيام الأولى بقطع تام للإنترنت، توسعت دائرة استهدافها للمحتجين، وانتقلت إلى وسائل الإعلام والصحافيين في محاولة لعزل البلاد بشكل تام.
ومثل تصاعد منسوب التهديدات للصحافيين وعمليات التغييب واقتحام القنوات التحدي الأكبر بالنسبة إليَّ، بخاصة أني مررت بالقرب من قناة NRT خلال فترة اقتحامها من قبل مسلحين ملثمين، وسيطر عليَّ الخوف آنذاك من تصوير ما يجري لتجنب مواجهة احتمالات خطرة قد تصل إلى حد القتل أو الاختطاف والتغييب.
كان اعتمادي منصباً خلال الفترة الأولى للانتفاضة وعلى ما يجمعه الناشطون من مقاطع مصورة ويرسلونه إليَّ ولبقية الزملاء في مقاهي وسط بغداد كنا نجتمع فيها لمعرفة ما يجري من الناشطين المنتشرين في أكثر من ساحة مع استمرار قطع الإنترنت.
ولعل ما مثل تحدياً إضافياً بالنسبة إليَّ هو مشاهدة الاعتداءات العنيفة التي قامت بها القوات الأمنية مع كل من يحمل أي أداة تصوير، فيما استهدفت عمليات القنص عديداً منهم. كانت أجواء حرب بكل تفاصيلها، ففيما تولت مجاميع مسلحة ترتدي الزي الأسود مهمة متابعة الإعلاميين والناشطين، كانت رسائل التهديد مستمرة لإيقاف أي تغطيات تظهر عمليات القمع الشديد.
ساهمت أجواء الرعب تلك في دفعي إلى اتخاذ عديد من الاحتياطات، واستخدام اسم وهمي في أكثر من تغطية خوفاً من الاستهداف المباشر، وتغيير مكان سكني أكثر من مرة، فضلاً عن تركي بغداد لأكثر من 4 مرات نتيجة تهديدات مباشرة أو تسريبات باحتمالية الاستهداف الوشيك.

مجزرة السنك… ساحة حرب وسط بغداد

لم تكن ساحة التحرير بالنسبة إليَّ مكاناً لتغطية التظاهرات، بل كانت ساحة حرب لا يمكن التنبؤ بما سيجري فيها من أحداث خلال أية لحظة، ففيما يتزايد عدد الضحايا يتزايد عدد المتظاهرين، كانت المشاهد التي أراها في كل يوم من أيام تغطية التظاهرات تدفعني إلى عدم التوقف عن إظهار حقيقة ما يجري من أحداث، على رغم المخاطر الكبرى.
ومثلت ذكرى يوم السادس من ديسمبر (كانون الأول) 2019، والذي حصلت فيه ما أطلق عليها بـ”مجزرة السنك” من أكثر اللحظات التي شعرت فيها باحتمالية الموت في أية لحظة، إذ كنت أسمع أزيز الرصاص من كل جانب، مع استمرار استهداف المتظاهرين بالرصاص الحي لساعات طويلة من قبل ميليشيات مسلحة.

بعد لحظات قليلة من بداية الهجوم المسلح، انطلقت من البيت نحو ساحة التحرير، واختبأت مع عديد من الزملاء خلف جدران البنايات القريبة من ساحة الخلاني نتيجة كثافة إطلاق النيران وعشوائيتها، لم أكن أدرك في تلك اللحظات ما إذا كنت سأخرج سالماً مما يجري، كانت تلك التغطية لـ”اندبندنت عربية” هي الأكثر خطورة في سنواتي العشر في العمل الصحافي.
ولعل موجة الرعب التي خلفتها تلك الحادثة، دفعتني إلى حذف وسائل التواصل الاجتماعي، وإخفاء أي شيء يربطني بـ”اندبندنت عربية” خلال طريق العودة، خوفاً من احتمالية إيقافي من خلال المفارز التي انتشرت لفترة لتفتيش هواتف المارين من مقتربات ساحة التحرير.

دراجات الموت واغتيال الصحافيين

إضافة إلى خطورة التغطيات في ساحات التظاهر، كانت عمليات الاغتيال المستمرة تضيف عبئاً آخر بالنسبة إليَّ، إذ أدركت أن ساحة الحرب امتدت من مساحات التظاهر إلى الأحياء السكنية، في حملة هي الأكثر وحشية بالضد من الصحافيين والناشطين.
ومن بين أكثر التحديات التي واجهتني خلال تلك الفترة هي عملية الفصل بين العمل الصحافي ومشاعري إزاء ما يجري، والمخاوف من أن أكون في القائمة المتواصلة للاغتيالات، بخاصة مع انتشار ما سمي حينها بـ”دراجات الموت” التي تقوم بعمليات اغتيال الصحافيين والناشطين، فيما لم تفض التحقيقات إلى أي شيء وتم تقييدها ضد مجهول.
لم تكن تغطية الانتفاضة مشابهة لتغطية الحروب التقليدية، بل كانت تمثل حرب شوارع غير متكافئة بين طرف مدجج بالسلاح ويمتلك السلطة وأدواتها، وطرف مستضعف لا يمتلك سوى عدة حسابات على وسائل التواصل ومنصات صحافية.
شاهدت في “تشرين” مراهقين تفجر رؤوسهم برصاص القناصين وقنابل الغاز، وعمليات إعدام ميداني لشبان لا يحملون حتى الحجارة، هي أكثر اللحظات جنوناً ووحشية في تاريخ هذه البلاد الممتلئ بالدماء والضحايا.
لم أكن أعتقد طوال سنوات عملي في الصحافة أن ثمة قصة في العالم تستحق أن تضحي بحياتك من أجلها، لكنني في لحظات ثورة تشرين لم أكن صحافياً فحسب، بل كانت مشاهد الدماء المتناثرة على أسفلت الشوارع في ساحة التحرير، وإقدام الشبان على إيصال أصواتهم تدفعني نحو القيام بأي شيء وإن كان خطراً لإيصال تصور إلى العالم عما يجري في ما يطلق عليه زوراً بـ”عراق ما بعد الديكتاتورية”.

الحرب الليبية حولتني من باحثة عن المعلومة إلى مصدر لها

كريمة ناجي

بينما كنت متوجهة للمشاركة في تدريب صحافي في العاصمة الليبية طرابلس، اتصلت بي زميلة لتخبرني بأن قناة تلفزيونية تود التعاون معي كصحافية مراسلة من ليبيا، لنعلم بعدها مباشرة وأنا ما زلت في مطار قرطاج أنه تم اختطاف رئيس الوزراء السابق علي زيدان.

وصلت إلى النزل المحدد بطرابلس، وبدأت فوراً التجربة مع المؤسسة، كان الضغط العالي هو أبرز سماتها، حيث كان عليَّ أن أصعد مثلاً لأعلى سطح الفندق في كل مرة يكون لي فيها مداخلة هاتفية في نشرات الصباح التي تبدأ منذ الساعة 6 صباحاً بسبب سوء حالة الاتصالات في البلد.
خلال عملي كمراسلة حربية في ليبيا لمدة 11 سنة، لا تزال تجربة خروجي في تغطية مباشرة حول تفجير إرهابي طاول مدينة بنغازي هو الأقسى، إذ لحق ذلك عمل متطرف وتنكيل بالجثث التي فصل رأس أحدها عن الجسد الراجع لوالد أحد رجال الاستخبارات هناك، ومن ثم وضع في كيس بلاستيكي أمام منزلهم، وكان عليَّ أن أصف الأمر بدقة، في النشرات الإخبارية. مشهد لم تنجح الأيام في محوه من شريط مخيلتي.
في خضم الأحداث التي غطيتها في ليبيا، تبقى حرب المطار التي دارت أحداثها عام 2014 هي الأبرز.

زنزانة ابن القذافي

ساعدتني تغطيتي لحرب المطار في طرابلس، كثيراً في تكوين علاقات أدخلت ثراء لا بأس به على أجندتي الصحافية، لأجد بعدها نفسي الصحافية الوحيدة التي تتمكن من الدخول إلى زنزانة الساعدي القذافي ابن الرئيس السابق معمر القذافي، في سجن الهضبة مع وزير العدل السابق مصطفى القلييب.
يومها نقلت جميع وسائل الإعلام المحلية والدولية عني، مقابلتي الحصرية القصيرة مع ابن القذافي من داخل السجن، شعرت حينها بالنضج المهني الممزوج بالفخر، فقد كان برفقتي عدد من الزملاء الذكور، ولكنني نجحت في الوصول إلى زنزانة الساعدي.
في ليليتها وصلت إليَّ رسالة تهديد مضمونها “غادري والا أكلتك الذئاب” وتهديدات نصية وصوتية، دفعتني للتواصل على الفور مع المشؤولين عني الذين تواصلوا بدورهم مع السلطات المعنية هناك لنكتشف بعدها أن من كان يقوم بهذه التهديدات هو سائق سيارة التصوير بإيعاز من جهات أخرى.

بين حربين

تغطيتي حرب المطار في طرابلس التي تأتي تسميتها من المعركة المسلحة التي دارت بين قوات مصراته وقوات الزنتان التي كانت تسيطر على مطار طرابلس الدولي الذي تحول إلى خراب، ساعدتني على النجاح في توقع السيناريوهات المقبلة وبت قادرة على تحديد النقاط الآمنة من الخطرة اخترت موقع سكني بالقرب من 3 سفارات، فالأمن هناك عالٍ مقارنة ببعض المناطق الأخرى، وفي ظل شح المعلومات من المصادر الرسمية تحولت إلى مصدر خبر، حيث كان هناك عديد من الزملاء يتصلون بي لمعرفة توجه المعركة.
للأسف لم أنجح في الحصول على بطاقة الاعتماد لتغطية حرب حفتر ضد العاصمة طرابلس، بحجة أنه يجب الحصول على موافقة من الاستخبارات الليبية، بل إن مدير الإعلام الخارجي الليبي السابق قال إن “هناك تحفظات على هذه الصحافية من الاستخبارات”، حينها علمت أن هناك حرباً من نوع آخر بدأت ضدي.

لم يحدث أن استعملت القوة ضدي في التغطية الميدانية لأنني أصبحت قادرة على توقع ما سيحدث في الأحداث الأمنية والعسكرية الكبرى من حصار ونزوح، مثل معركة الشرق الليبي ومعركة سرت ضد “داعش”.
ومن أكثر المشاهد العالقة بذهني كمراسلة حربية، صلب “داعش” عدداً من المدنيين بسرت ومقتل بعض موظفي هيئة الانتخابات في عمل إرهابي ومقتل سائق سيارة التصوير في حرب حفتر ضد طرابلس وموجات النزوح الكبرى التي شهدتها ضواحي طرابلس بسبب الحرب، حيث كنت أشاهد بعض الأسر تنام في سياراتها بسبب ارتفاع أسعار الإيجارات وقتها، تجربة أخذت مني كثيراً، وأضافت إليَّ الكثير، ويبقى لقب “أول صحافية متخصصة بتغطية الحروب في تاريخ المرأة التونسية أبرزها”.
خوف اللحظات الأولى
عثمان الأسباط

بالنسبة إليَّ كصحافي، أخوض لأول مرة في حياتي تجربة تغطية أحداث الحرب على الأرض، ومن مناطق الاشتباكات المسلحة في السودان، ونقل ما يحدث إلى العالم بصورة مهنية، وحجم التحدي والأخطار كبير للغاية منذ اندلاع القتال بين الجيش وقوات الدعم السريع في 15 أبريل (نيسان) الماضي وحتى الآن، بيد أن هذا التحدي الصعب ومجهول العواقب شكل لي إضافة كبيرة في مسيرتي المهنية بجانب العمل في ظروف الحروب لتبرز الرسالة الصحافية في توصيفها التقليدي بأنها مهنة المتاعب بحق مقارنة بالعمل في الظروف العادية.
بدأ اليوم الأول من المعارك عادياً في الصباح، ولم أتوقع أن تتحول العاصمة الخرطوم الهادئة إلا من ضجيج الأسواق والشوارع إلى ساحة حرب تحوم في سمائها الطائرات والقذائف، هذه فاجعة كبيرة، فجأة وبدون مقدمات دوت المدافع بقوة، شعرنا ونحن نائمون بأن المباني تهتز.
استيقظت مسرعاً لمعرفة أسباب اندلاع القتال والمناطق التي تشهد اشتباكات، بعد لحظات انقطع التيار الكهربائي وذعر سكان منطقة شرق النيل في الخرطوم، حيث أقطن، خرجت إلى الشارع، ومنه نحو الطريق الرئيس في بداية كوبري المنشية، وكانت المعارك تدور وقتها في منطقة القيادة العامة للجيش السوداني، مع توالي القصف العنيف عدت إلى المنزل، وشرعت في كتابة المواد الصحافية.
الحي الذي أقطن فيه لم يسلم من القصف العشوائي والطلقات العابرة في تلك الفترة لم يتوقف الرصاص ودوي المدافع.

صعوبات عديدة

في الأيام التالية واجهتني صعوبات عدة خلال التغطية منها عدم القدرة على التحرك، وضعف خدمة الإنترنت والاتصال، والأهم من ذلك كله سلامتي الشخصية وسلامة أسرتي بجانب الضغوط النفسية من مشاهد العنف والمواجهات المستمرة، وصعوبة الحصول على معلومات دقيقة وموثوقة في بعض الأحيان والعمل في بيئة غير آمنة ومستقرة علاوة على ظروف قاسية وغير ملائمة للعمل مثل نقص المياه والغذاء وانقطاع خدمة الكهرباء لعدة أيام، كما هناك صعوبات لوجيستية تتعلق بالوصول إلى بعض المواقع القتالية بسبب القصف المتواصل الذي يعوق الحركة وإغلاق الطرق، وانتشار الحواجز الأمنية، إضافة إلى أن تلك المواقع قد تكون مكشوفة، مما يعرضني للأخطار.
عشت أياماً عصيبة مع أسرتي مثل غالبية سكان العاصمة الخرطوم، وكنا معرضين للموت في أي لحظة جراء القصف المتواصل، لم ننم لأيام، وانقطعت عنا إمدادات المياه والكهرباء تماماً وأغلقت المحال التجارية في المنطقة التي أقطن فيها لنعيش أوضاعاً مأسوية.

خروج آمن

بعد عيش هذه التجربة المأسوية قررت الفرار برفقة عائلتي بعد أن شهدت منطقة شرق النيل اشتباكات عنيفة وانهمر الرصاص علينا كالمطر، فضلاً عن القذائف العابرة، اضررنا خلال خمسة أيام أن نستلقي على الأرض لتفادي الرصاص، بعد جهود مضنية استمرت ليومين حصلت على رقم هاتف سائق سيارة أجرة من خلال موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، ونظراً إلى توقف محطات الوقود ونفاد المحروقات استغل السائق الأزمة وطلب 100 ألف جنيه سوداني نحو 200 دولار مقابل مشوار من شرق النيل إلى مدينة أمدرمان، وافقت على الفور وتحركنا في اليوم الأول لعيد الفطر.
بين الحرب والزلزال

مصطفى رستم

في سوريا التي عاشت عقداً من الزمن في الحرب، حاولت كما بقية الصحافيين والمراسلين الاجتهاد بنقل المشهد، كل بحسب رؤيته وطبيعة تخصصه على رغم كل المخاطر التي حاصرت أصحاب الرأي وأقلامهم بسبب الحرب المندلعة ومستويات العنف المتصاعدة، وتنوع أطراف النزاع والذي تجاوز الصراع المسلح بين الموالاة والمعارضة، وذلك من خلال تجربة تغطية الحرب والوصول إلى الجبهات ومواقع الأحداث، والمؤلم أن خطوط التماس ومناطق التوتر بين أطراف النزاع، كانت تدور على مشارف أو مداخل المدن والقرى الريفية.
أكثر ما كان يلفت انتباهي خلال تجربتي كصحافي مستقل والمحاولة بنقل الأحداث والكتابة عنها بأسلوب محايد، صعوبة الانتقال إلى مواقع الأحداث وما تواجهه من خطر، مرات عدة كانت تندلع المعارك في المنطقة التي أكون فيها لتغطسية الأحداث، في المقابل صعوبة أن يوقفك حاجز أمني تابع لأحد الفصائل، وبعد المرور به، سيكون أمامك حاجز للقوات النظامية، وكلما اتجهت شمالاً وشرقاً تتنوع الحواجز الأمنية إلى فصائل وميليشيات متعددة الولاءات والسياسيات، وهذا أيضاً كان تحد يضاف إلى جملة المهام الصحافية.

تعود بي الذاكرة عندما كتبت قصة عن عائلة مكونة من تسعة أشخاص قد نزحت مرات عدة، لحظة الفرح تحولت إلى بؤس وحزن لازم الأسرة حين عودتهم بعد استقرار مدينتهم، وإجلاء المقاتلين عنها، حينها عاد رب الأسرة برفقة ولده لتنظيف البيت، لكن العبوة الناسفة المزروعة بالقرب من المنزل قد قطعت قدم الأب وبترت يد ابنه في مأساة تتكرر كل يوم عن الألغام ومخلفات الحرب، وهي حرب أخرى، وإن كانت حروب الطائرات في السماء والمدرعات على الأرض، فإن الألغام حرب بحد ذاتها تحت التراب ويقدر عددها بالملايين.
لم يعش المراسل في سوريا لحظات الحرب والحصار وقساوتها فحسب، بل عاش أقسى كارثة طبيعية حلت بهذه البلاد، فالزلزال الذي ضرب بدرجة وصلت 7.6 درجة على مقياس ريختر واستمر نحو 45 ثانية، إذ تنوعت الكتابة بين الحرب والكارثة معاً. ووصف مئات الآلاف العائلات في الشوارع والساحات العامة بعد تصدع الأبنية وباتت آيلة للسقوط في الشمال السوري، وغرب البلاد.
في ساحة الحرب

توفيق الشنواح

يعيش اليمن أجواء الحرب، ويكابد الناس انعكاساتها التي طاولت كافة نواحي حياتهم، إلا أن العيش في قلب معاركها قصة أخرى تحكي القرب من نواة المأساة وتجلياتها. ومع أنني مراسل لـ”اندبندنت عربية” بعيداً من لهب النار والأشلاء، عشت فجأة تجربة المراسل الحربي لأول مرة، إذ لم أذهب إلى المعركة، ولم أستعد لها بالخوذة وواقي الرصاص المزين بشعار press، ولكن المعركة جاءت إليَّ، بلا موعد، وأحاطتني بنارها وجحيمها لأيام، ودخلت مع أسرتي في حالة خوف شديد لم أنسه.
فبعد أن اشتعلت المعارك العنيفة بين قوات ألوية الحماية الرئاسية التابعة لحكومة الرئيس السابق عبدربه منصور هادي من جهة، وقوات المجلس الانتقالي الجنوبي، من جهة أخرى في مدينة عدن وفي محيط قصر “معاشيق” الرئاسي، وجدت نفسي مراسلاً محاصراً في شقة سكنية وسط المدينة لنحو أسبوع.
كانت المعارك تدور في الباحة التي تتقدم حيناً السكني ونسمع بخوف أصوات الرصاص، وكان الرد يأتي، ولكن معظمه يحط في المعسكر الذي خلف منزلنا بنحو 200 متر. كانت شقتنا تهتز، واضطررنا للنوم تحت الأسرة ووضع القطن في آذان طفلتي تحاشياً لأصوات القذائف الرهيبة ورشاشات المدرعات المنتشرة. كنت أرسل الأخبار وأعود إلى الترقب بانتظار هدوء المعارك للمغادرة وترك المدينة الساحلية.
انقطعت المياه ونفد الأكل، بعد مدة توقفت المعارك ظهراً، خرجت على عجل لأجلب مياه الشرب وكانت الأحياء هادئة من الحركة، وهو ما ضاعف خوفنا كوننا غرباء عن المدينة، مشيت مسرعاً كيلومترات عدة بحثاً عن البقالة التي كانت تضج بالناس الباحثين عن الماء والخبز، كانت طلقات الرصاص تعلو بين حين وآخر ونسمع أزيزها بالقرب منا.
كانت المعارك تشتد ليلاً، وتتساقط القذائف على المنازل المجاورة، عشنا لأيام الخوف بكل مراحله. ظل صراخ النساء والأطفال مدوياً يزلزل قلوب الوحوش فكيف بالإنسان، بخاصة المنازل التي سقطت فيها قذائف وقتلت عدداً من الأطفال والنساء.
كنت عندما أفتح النافذة بحذر، أشاهد الجنود طوابير متحفزة خلف المبنى الذي أمامنا يرتدون الخوذات ومحملين بالقنابل ومخازن الرصاص، يعطي قائدهم الإشارة لهم فرداً فرداً لاقتحام الأحياء المجاورة التي تقع في نطاق سيطرة الطرف الآخر، فيما تواصل رشاشات عربات المدرعات والقذائف المحمولة على الأكتاف تمهيد الطريق أمامهم.
كنت أنتظر أي فرصة للمغادرة، إلى أن سنحت في اليوم السادس ونجونا بأعجوبة ونحن نعبر خائفين من بين العربات المحترقة ومطر الرصاص والقذائف.

حلم الصحافة

إشراقة علي

منذ نعومة أظافري، ومن خلال ميولي نحو كتابة القصص القصيرة وتدوين الخواطر في دفتر يومياتي، ظللت أحلم أن أكون في يوم من الأيام صحافية أكتب ما تجيش به النفس من مشاهد الحياة اليومية، وبالفعل التحقت بجامعة أم درمان الإسلامية، مما جعلني أعشق هذا النوع من المهن.

وفقاً لما يجري في السودان، وتحديداً في العاصمة الخرطوم من أحداث بسبب اندلاع الحرب، انقلبت موازين الحياة واغلقت الأسواق والمدارس أبوابها وتوقفت حركة المواصلات وأصبح المواطنون بين كر وفر، فكل شخص يحاول الوصول إلى منزله يقيناً بأنه ملاذه الآمن، ولم يبق، سواء جنود مدججين بالسلاح وصوت القذائف والرصاص والقنابل والقصف بالطائرات يثير الرعب والخوف في نفوس السودانيين. ما زاد الأمر سوءاً الانقطاع المتكرر للتيار الكهربائي إلى جانب انقطاع المياه وتوقف الخدمة بالمستشفيات والمراكز الصحية.

هذه التداعيات المتسارعة في شأن حرب السودان وغيرها من كوارث إنسانية جعلتني مراسلة حربية وبات صوت قلمي ما يدور في البلاد من قتل وسفك دماء وتدمير المنازل ومواجهة الموت الذي ينتظر كثير من أهل السودان، مما اضطر سكان ولاية الخرطوم للنزوح بحثاً عن أبسط مقومات الحياة.
وبتفاقم الأوضاع الإنسانية نتيجة لتصاعد الاشتباكات باستخدام كافة أنواع الأسلحة الخفيفة والثقيلة أصبحت المهنة تملي عليَّ الصمود ونقل تطورات الأحداث على رغم المخاطر والتنقل في الأسواق ورصد حركة المواطنين لشراء ما يلزم استمرار الحياة في ظل أوضاع اقتصادية متهالكة، وأيضاً التنقل إلى المستشفيات، وتحديداً مراكز غسيل مرضى الكلي الذين وجدتهم يقفون صفاً لتسجيل أسمائهم في حالة يرثى لها بسبب الأعياء الشديد.

تجربة قاسية

أكثر التجارب المؤلمة والتي يحفها كثير من المخاطر حين بدأت مع أسرتي النزوح من الخرطوم تحت صوت الرصاص وطلعات الطيران الحربي ودوي المضادات الأرضية من قبل قوات الدعم السريع، حيث يتسابق الناس نحو الحافلات وبصحبتهم أطفالهم لتنقلهم خارج العاصمة في حالة ذعر وتوتر لم تشهده من قبل في حياتي.
حرب الخرطوم جعلتني أخوض تجربة جديدة قاسىية، لم أتوقع أن تكون بهذه اللعنة التي وقعت على السودان، وأن أصبح في لحظة مراسلة حرب، ولكن تصاريف الأقدار في ليلة وضحاها قد تدخل الإنسان في تجربة لا يتوقعها.

التعليقات مغلقة.