الباقر العفيف: التنفسير الكيزاني للتاريخ (1- 2)

الباقر العفيف: التنفسير الكيزاني للتاريخ (1- 2)
  • 24 سبتمبر 2023
  • لا توجد تعليقات

د. عبدالله علي إبراهيم

(علي بن أبي طالب “ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذُلُّوا)

كتب الباقر العفيف مقالة قال هي الأولى في سلسلة منتظرة حمّل فيها الإسلاميين وزر الحرب القائمة التي أرادوا منها “القضاء على ثورة ديسمبر قضاء مبرماً، وإزالة أي أثر لها، ومحوها من الذاكرة”. فأضرموها، في قوله، بغير علم الجيش نفسه بطريقتهم التي لا تتحسب للنتائج. فوقع كبار ضباط الجيش في أسر الدعم السريع الذي لم يطلق رصاصة واحدة تجاههم. وهذه من العفيف وغيره بالطبع رواية الدعم السريع حذو النعل بالنعل عن الملوم بالحرب. وهي رواية لم تتحر حقيقتها أي من دوائر الحرية والتغيير قبل أن يبذلوا هذه الخدمة المجانية للدعم السريع في تلاعبه المتقن بدور الضحية في هذه الحرب.

أحصيت في كلمة العفيف ألفين وسبعمائة وتسعة وعشرين كلمة في الإزراء بالإسلاميين في مقابل مائة واثنين خمسين كلمة عن خروق الدعم السريع (94 في المية). وخصص العفيف هذه الكلمات المحدودة عن الدعم السريع، الجنجويد، لمؤاخذته لوطئه أرض السودان. فانعقدت بخرابه أعاصير الدخان والخراب في سماء مدن كردفان ودارفور وأخلى الخرطوم من سكانها في أول سابقة في التاريخ الحديث. وتجد العفيف استهلك حتى هذا الحيز للجنجويد، على ضيقه، في الاتيان بمشابه تاريخية لهذا الوطء، أو لتوبيخ الإسلاميين لأنه في خاتمة الأمر “كلو منهم”. فشبه وطء الخرطوم الحالي بما اقترفته جحافل البدو من “عربان” العبدلاب “ورعاة” الفونج بسوبا عاصمة مملكة علوة المسيحية (1504) التي هي الآن ضاحية بالخرطوم. وأفرغ العفيف في سطر آخر وأكثر إدانته للإسلاميين لأن خراب الحرب هو ثمرة من ثمرات مشروعهم المتوحش: “ذلك المشروع الدخيل الغريب المستورد الذي يمثل أخبث بذرة تبذر في أرض السودان على الإطلاق والذي اتخذ منحى مدمراً منذ أن ظهر زعيمهم حسن الترابي في المسرح السياسي السوداني قبيل أكتوبر 1964”.

أتوقف هنا عند مسألتين أحدهما أسلوبية والأخرى تاريخية. فلا أتفق مع الباقر أن “كتال كتلة” على طرافتها هي تعريب صالح نأخذ به ل”serial killer”. فلربما قلنا “قاتل مواظب على القتل” أو نحوها حتى يستقيم التعريب. أما النقطة التاريخية فهي عن مشهد الخرطوم خلال هذه الحرب الذي قال أنه يحاكي ما اختزنته الذاكرة التاريخية عن “خراب سوبا” (1504) الذي اقترفته جحافل البدو التي ذكرها بينما المتهم بتخريب سوبا في آخر المباحث الأكاديمية عن هذه الفترة الغامضة في تاريخ السودان، بحسب أحمد معتصم الشيخ، هم القوم الذين عرفوا بالعنج ونسبهم إلى شعب قديم في البجا.
هذه الحرب التي تعركنا عند العفيف يوم من أيام الشؤم على السودان منذ ظهر فينا حسن الترابي في المسرح السياسي بعد ثورة أكتوبر كما تقدم. وأحصى تلك الأيام عددا: حل الحزب الشيوعي (1965)، فض ليلة العجكو بجامعة الخرطوم بالعنف (1968)، الحكم بردة محمود محمد طه (1968)، محاولة فرض الدستور الإسلامي (1968)، فتنة أبا (1970)، هجوم “المرتزقة” (1976)، “نقض اتفاقية أديس أبابا” (1983)، قوانين “سبتمبر” (1983)، “تحريض الجيش على الحرب” بعد ثورة 1985، انقلاب يونيو (1989) وعواقبه مثل الجهاد في الجنوب.

ثم عرج لأيام كريهة لهم على السودان بعد ثورة 2018 نناقشها لاحقاً. وكل ما جاء أعلاه عن الإسلاميين حق إلا من إعفاء شركاء لهم فيها كانوا أشد حرصاً منهم وفتكاً. فجاء الإسلاميون كتنظيم إلى حل الحزب الشيوعي متأخرين عن الزعيم الأزهري وحزبه الوطني الاتحادي ممن حنقوا على حزب نافسهم في دوائر الخرطوم فكاد يغلبهم. واتهم العفيف الإسلاميين بالضلوع مع مؤسسات فقهية رسمية وبعض قيادات الطائفية “في مؤامرة إصدار حكم بردة الأستاذ محمود محمد طه عن الإسلام”. وقد أوليت دور الإخوان في ردة طه الأولى والثانية ومقتله في 1985 التفاتة خاصة في فصلي عنه في كتابي “هذيان مانوي: القضائية الاستعمارية والصحوة الإسلامية، 1898-1985” (بريل 2008) ولم أجد لهم، بجانب الخصومة الفكرية الشعواء المتبادلة، جرماً لا في حكم الردة ولا في المقتل. فلم يزد الترابي عن القول لأنصاره حين عرضت المسألة في 1968 أن طه يهرف بما لا يعرف فلا تنشغلوا به. وقال صادق عبد الله عبد الماجد أيضاً إن الإسلام لأرحب من ملاحقة مثله بما لوحق. ونصحت “الميثاق الإسلامي” أن يواظب الإخوان على كشف سوءة عقيده متى ظهرت وأين، وألا يلتفتوا إلى ما عداه. وأجمل عبد الوهاب الأفندي عنهم إنهم ممن شمتوا على مصائب الجمهوريين، أو طربوا لها، بعد الواقعة. وشددت في فصلي عن طه على أن خصومه الاشداء كانوا في المؤسسة الدينية من قضاء شرعي وشؤون دينية وعلماء الجامعة الإسلامية. كما أنني لا أرى عيباً في عرض جماعة منتخبة من الشعب مشروعاً للدستور الإسلامي على جمعية تأسيسية على أنني معارض مستميت له. فالأفدح أن يأتيك به ديكتاتور طاغية بليل كما فعل الرئيس نميري في سبتمبر 1983 أربك به حتى الإسلاميين الذين كان أقصى أمانيهم ليومهم أن يطابقوا بين القانون الوضعي في البلاد والشريعة كما فصل ذلك منصور خالد في “نميري وتحريف الشريعة”. أما نقضهم لاتفاقية أديس فقول على العواهن. فدور جوزيف لاقو، الذي وقع على الاتفاقية عن القوميين الجنوبيين، في الحنث بعهد أديس واضح وضوح الشمس في رابعة النهار. وقال بونا ملوال بعد الرماد الكال حماد أنهم شركاء في نقض الاتفاقية لأنهم صمتوا طويلاً عن انتهاكات نميري لها حتى طربقها على رؤوسهم.
وجاء الباقر إلى شؤم الإسلاميين بعد الثورة بما جاء به عن شؤمهم قبلها وهو أن يلبسهم الجرم وحدهم غاضاً الطرف عن شركائهم. بل جاء في سيرتهم الكئيبة بعد الثورة بشؤم نسبته إلى غير الإسلاميين أرجح وأوثق من نسبته لهم. وهذا يفرغ الواقعة التاريخية من الاصطراع. ويهبط بها من دراماها في مجتمعها وزمانها ومكانها إلى خطيئة من ورائها شيطان لابد.
ونواصل

IbrahimA@missouri.edu

التعليقات مغلقة.