الخرافة والدين: تحليل مقارن لأيديولوجيتي المهدية وماجي ماجي المناهضتين للكولونيالية في السودان وتنجانيقا (1881 -1907م)

الخرافة والدين: تحليل مقارن لأيديولوجيتي المهدية وماجي ماجي المناهضتين للكولونيالية في السودان وتنجانيقا (1881 -1907م)
  • 10 نوفمبر 2023
  • لا توجد تعليقات

ترجمة: د.بدر الدين حامد الهاشمي

Myth and Religion: A Comparative Analysis of the Ideologies of the Mahdist and Maji Maji Anti – Colonial Resistance Movements in Sudan and Tanganyika (1881 – 1907)
أسرات آرايا Asrat Arya

تقديم: هذه ترجمة لبعض ما ورد في مقال طويل نُشِرَ في العدد الثاني من المجلد الثامن لمجلة The Ethiopian Journal of Social Sciences، الذي صدر في ديسمبر 2022م، صفحات 44 – 67، للدكتور لأسرات آرايا من قسم التاريخ والتراث بجامعة بحر دار في أثيوبيا. يقارن المؤلف في مقاله بين الثورة المهدية بالسودان (ضد الحكم التركي – المصري) وحركة ماجي – ماجي المسلحة التي قامت بثورة /تمرد على الحكم الاستعماري الألماني في شرق أفريقيا الألمانية (تنزانيا حالياً)، بين عامي 1905 – 1907م. للمزيد عن تلك الحركة اُنْظُرْ بعض ما كتب عنها في موسوعات وكتب ومقالات محكمة (1).
المترجم


خُلاَصَة المقال
لقد شهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر توسعا كولونياليا أوروبيا هائلاً في أفريقيا. ويمكن – بصورة عامة – تقسيم استجابة وردة فعل الأفارقة على ذلك التوسع الكولونيالي إلى صنفين: حركات مقاومة أما سلمية، أو مسلحة وعنيفة. وكانت حركتا المهدية وماجي – ماجي من بين أشهر تلك الحركات الإفريقية المسلحة العنيفة التي قامت ضد الكلولونيالية. وكانت قيادة ومصدر إلهام الحركتين هما الإيديولوجيات التقليدية للدين والخرافة. ولا يوجد في الأدبيات التاريخية سوى القليل من التحليل المقارن بين الإيدلوجيات التقليدية لدى حركات المقاومة الأفريقية. لذا قمنا هنا بمقارنة الخصائص الإيديولوجية لحركتين مقاومتين للكولونيالية هما المهدية في السودان، وماجي – ماجي في تنجانيقا، وذلك بغرض إعطاء بعض الرؤى والأفكار عن بعض السمات الكامنة وراء أيديولوجيتي الحركتين المقاومتين للكولونيالية. والتزمنا في هذا العمل بمنهج نوعي / كيفي (qualitative approach) في جمع المعلومات، مستعينين بصورة كاملة على مصادر ثانوية. واستخدمنا في عملية تجميع البيانات التاريخية منهج تحليل البيانات النوعية المتكامل (القائم على الموضوع وعلى التسلسل الزمني) والبيان والتفسير، مكملاً بالسرد والوصف. وعند النظر في المصادر المتوفرة لدينا وجدنا أنه كانت لدى الأفارقة أيديولوجيات تقليدية متطورة، هي في الأساس مزيج من الخبرات والمعتقدات المحلية والإقليمية، تفاعلت مع بعضها بكفاءة ضد الهيمنة الكلولونيالية. وكانت لتلك الأيدولوجيات ما يكفي من القوة كي تقف متحدةً وتعبئ كل المجموعات المتنوعة في السودان وتنجانيقا رغما عن اختلافاتها العرقية والقبلية والدينية والاجتماعية والاقتصادية. وتتشارك الحركتان في سمات مشتركة تتجلى في الدوافع وأساليب إعادة البناء الأيديولوجي والتعبئة. غير أنهما يختلفان أشد الاختلاف في الرؤية ومستوى التنفيذ والنتائج النهائية. ويُؤْمَلُ أن يقدم هذا العمل أفكاراً ورؤى جديدة تمهد لمزيد من الأبحاث عن إنهاء / تَحْرير كولونيالية الأدبيات العنصرية الأوروبية التي تصور حركات المقاومة الأفريقية المناهضة للكولونيالية على أنها اضطرابات عفوية وبربرية وبدائية وغير حضارية واجهت المهمة الأوروبية الحضارية تجاه أفريقيا.


استعرض الكاتب في المقدمة تاريخ الاتصال بين قارتي أفريقيا وأوروبا، والتغيرات التي طرأت عليها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والمواقف الغربية تجاه أفريقيا (التي شملت الاستكشاف والتبشير المسيحي وتقوية المصالح الكلولونيالية) منذ سبعينيات القرن التاسع عشر. وتناول كيفية السيطرة على أفريقيا عن طريق أيدولوجيتين متضاربتين: هما التبرير “العلمي” العنصري للوحشية (1) الذي كان يؤكد حق أوروبا الطبيعي للسيطرة على العالم غير المتحضر، من جهة، والتبشير المسيحي الذي عُد “مهمة للتمدين”، من جهة أخرى. واستطاع المبشرون عن طريق التأكيد لزعماء القبائل والعشائر الإفريقية فكرة أن الله خلق كل البشر متساويين في نيل الكثير من التنازلات منهم عن أراضيهم.
واعتمدت حركتا المهدية وماجي – ماجي على الدين والخرافة بحسبانهما أيدولوجيتين لتوحيد الشعب وتقوية ثقته في نفسه وهو يناضل ضد الهيمنة الكلولونيالية.

وقامت الحركة المهدية في السودان في عام 1881م ضد جور وعسف وفساد الحكومة التركية – المصرية، وضد الضرائب والمكوس الباهظة التي فرضتها، وإخضاع رجال الدين المحليين لعلماء الدين القادمين من مصر، وضد إزاحة الحكام بالوراثة ومنع تجارة الرقيق. وكذلك قامت حركة ماجي – ماجي في تنجانيقا بين عامي 1905 و1907م بسبب قيام الالمان بتشييد مزارع للقطن، وفرض ضرائب باهظة، والاستحواذ على أراضي السكان الذين فقدوا فوق ذلك كله السلطة السياسية في بلادهم.
وبينما كانت الحركة المضادة للكولونيالية في السودان قد بدأت وتمت التعبئة والتحشيد لها بأيديلوجية دينية مهدية /”عيسوية/ مَسِيحائيّة messianic”، كانت انتفاضة ماجي – ماجي مستلهمة من خليط أيديولوجي من المعتقدات الروحانية والعيسوية التقليدية. وتحمل الكلمتان “مهدية” و”ماجي” (التي تعني الماء في اللغة السواحيلية) فكرة المنقذ المنتظر أو المتوقع. ويؤمن السكان الأصليون في تنجانيقا بأن “الماء الطبي medicinal water” الذي أدخله “النبي” كينجيكتيل نغوالي في وادي روفيجي (3) سيحميهم وينقذهم من هجمات الألمان، ويحيل طلقاتهم النارية إلى ماء. وجاءت تسمية تلك الحركة بـ “ماجي – ماجي” من صرخات ثوارها بكلمتي”ماجي – ماجي” بينما كانت طلقات مدافع الجنود الألمان تنهال عليهم. وكانت الأيدلوجية العيسوية لحركة “ماجي – ماجي” قد وضحت في إيمان محاربي تنجانيقا بأن الإله قد أرسل لهم كينجيكتيل نغوالي لينقذهم من وحشية الألمان. وكانوا يؤمنون أيضا بأن أسلافهم سوف يبعثون عند الضريح الرئيسي لنبيهم كينجيكتيل نغوالي في نجارامي. وفي الفترات الأخيرة، اتخذت الحركة أيديولوجية ألفية millenarian ideology تهدف إلى القضاء على تلك الأفكار الطبية والنبوية الأصلية، خاصة فيما يتعلق بالسحر والسحرة. وكانت تلك الفكرة متناقضةً مع (تعاليم) الأنبياء التقليديين والزعماء المحليين.

أما الحركة المهدية قد بدأت في التشكل عن طريق الترويج لأيديولوجية دينية (عيسوية) أكثر رسوخاً لظهور المهدي (تطرق الكاتب هنا لمعنى كلمة “المهدي” وعما يعتقده الشيعة وأهل السنة في مسألة ظهوره. وهو يرى أن حركة “ماجي – ماجي” والحركة المهدية تتشاركان في سبب قيامهما، الذي يتلخص في إنقاذ المجتمع من أزمة ما. المترجم).
لقد نبعت ايديلوجية حركة “ماجي – ماجي” من أعراف وتقاليد السحر الأفريقية الراسخة، ومن معتقد نبوي وفكرة ألفية؛ وكانت كلها مألوفة عند شعب تنجانيقا. وكانت فكرة “الماء السحري magic water” قد ظهرت لأول مرة عند السَحَرَة / أطباء الشعوذة من السكان الأصلين في نقارامبي بوادي روفيجي. وكان أولئك السَحَرَة هم من حرضوا السكان عن الامتناع عن دفع الضرائب قبل عام من قيام ثورة “ماجي – ماجي” في يوليو من 1905م.


خاتِمَة
أثبتت حركتا المقاومة للكولونويلية، “المهدية” في السودان و”ماجي – ماجي” في تنجانيقا، بأن الأفارقة السود قادرون على تشكيل أيديولوجيات، وعلى الاستجابة الفعالة للكولونيالية الأوروبية. وكانت الحركة المهدية مستوحاة وموجهة من قبل الأيديولوجية الدينية العيسوية /المهدية / الإسلامية. وبذات الطريقة، اِسْتَحَالَ تمرد ماجي – ماجي إلى ثورة شعبية واسعة النطاق بسبب الأساطير التقليدية والأيديولوجيات العيسوية.
وكان قائدا الحركتين، محمد أحمد (المهدي) وكينجيكتيل نغوالي قد صنعا إيديولوجيتين تهدف كل واحدة منهما لتعبئة السكان في ثورتين شعبيتين. فقام المهدي بمزج الإيدلوجيات الإسلامية من تراث وتقاليد ومعتقدات المسلمين السنة والشيعة، وكذلك الوهابية والطرق الصوفية. وقام أيضاً بدمج تلك الأفكار مع المعتقدات الإسلامية السودانية المحلية حول فكرة المهدي المنتظر. أما كينجيكتيل نغوالي فقد دمج نُظُم العبادة النبوية المحلية والإقليمية المتكاملة مع طقوس الماء السحري، ولاحقاً، مع الأيديولوجيات الدينية الألفية.

ونبعت أيدولوجيتا حركتي المقاومة نتيجةً لتوترات محلية واقليمية. فقد ظهرت فكرة المهدية في السودان بسبب الآثار المشتركة التي خلفها اضمحلال العالم الإسلامي، والأزمة الداخلية التي أحدثتها الكلولونيالية في السودان. وكانت من ضمن دوافع قيام حركة “ماجي – ماجي” الآثار المشتركة لأعباء الكلولونيالية، والضغوطات الاجتماعية والاقتصادية. وكانت فكرتي “ماجي” و”المهدي” تشيران إلى الحاجة لظهور منقذ أو محرر.

وأتبع زعيما الحركتين طرقاً مختلفة لنشر أفكارهما وتلقينها لأتباعهما. وقام القائدان، ولدرجات متفاوتة قليلاً، بالعمل على بناء تعاليم وطقوس شخصية عن طريق خلق أساطير وخرافات (myth)، ودعوة السكان للقدوم عليه، وإدارة طقوس معينة، وذلك من أجل الحصول على تقبل السكان لأفكارهما.
وخلافاً لـ “الماء السحري” و”العبادة النبوية” في حركة “ماجي – ماجي”، كانت ايديلوجية الحركة المهدية قد وجدت سابقاً قبولاً واسعا في أوساط الزعامات الدينية والقبلية والإثنية، وكذلك عند مختلف الطبقات الاجتماعية، وذلك بسبب قوة تأثير خطب المهدي ومواعظه وتفسيراته لآيات القرآن. بل استطاع المهدي تعبئة رجال بعض القبائل غير المسلمة في جنوب السودان، والذين أظهروا ولاءهم له باعتناقهم الإسلام. وساهمت رؤيته وقبول فكرته عند مختلف الجماعات في المجتمع السوداني في اعتناق دعواه من أنه هو بالفعل المهدي.
غير أن فكرة “الماء المقدس /السحري” عند حركة ماجي – ماجي لم تعد تعمل بصورة مؤثرة، وعلى نطاق واسع، وتم استبدالها بأيديولوجية ألفية قادت لخلق تجمعات قبلية متنافسة. وكذلك فقدت حركة المهدية فكرتها الثورية العالمية بعد وفاة زعيمها محمد أحمد في عام 1885م؛ وفشلت في توحيد غير المسلمين بتركيزها على ايديلوجية هدفها إزالة الفاسدين. كذلك كانت أيدولوجيتا الحركتين تختلفان عن بعضهما في الرؤية والاستبصار (vision) والمُعَالَجَة (manipulation) والإدارة (management). ولم تقم حركة ماجي – ماجي بتكوين قيادة مركزية، خلافاً لما كان عليه الحال مع حركة المهدية. وكذلك كانت الحركة المهدية قد تصورت واستبصرت إنشاء دولة ثيوقراطية، بينما لم تتمتع حركة ماجي – ماجي ببعد النظر، ولم تخطط إلا لإزالة الهيمنة الأجنبية فحسب.

وعلي الرغم من هذه المحدوديات / المحددات (limitations)، أدت أيديولوجيتا حركتي المهدية و”ماجي – ماجي” المقاومتين للكولونيالية أدواراً مهمة في إلهام وتوحيد وتعبئة مقاتلي هاتين الثورتين الشعبيتين، وفي بناء الثقة في أوساطهم.


إحالات مرجعية
(1). كُتِبَ الكثير عن حركة “ماجي – ماجي”، ومن أمثلة ما نُشِرَ بالإنجليزية عنها ما ورد في الموسوعة البريطانية https://www.britannica.com/topic/Maji-Maji ؛ وكتاب جيمس قبلن وجيمي مونسون المعنون Maji Maji: Lifting the fog of war ؛ ومقال بقلم ثاديوس سونسيري عنوانه The Mahi -Maji War, 1905 -1907، https://shorturl.at/bouJN ،ومقال آخر لميشيل مويد عنوانه Maji- Maji uprising تجده في هذا الرابط : https://shorturl.at/bdN36 ، وهناك أيضا بعض المقالات المنشورة عن تلك الحركة في المجلات العربية المحكمة تجدها في الرابط: https://shorturl.at/fisCM
(2). ذهب الكاتب إلى أن غزو أفريقيا كان يُسَوَّغ بنظرية شارلس داروين عن “الانتخاب الطبيعي الذي ورد في كتاب “أصل الأنواع” الصادر في 1859م، والذي استقى منه هيربرت سبنسر (أبو “الدارونية الاجتماعية”) مفهوم البقاء للأصلح / الأقوى. وتم التأكيد على أن الانجلو ساسكون هم الجنس “الأكثر تفوقاً والأرفع شأنا”، الذي يملك كافة الحقوق الطبيعية والمسؤوليات الأخلاقية لـ “تمدين” الأعراق “الأدنى شأنا” منهم.

(3). يُسَمَّى ذلك “النبي / الوسيط الروحاني”Kinjikitile “Bokero” Ngwal ، وقد تُوُفِّيَ في الرابع من أغسطس عام 1905م؛ وكان يُعد زعيماُ لحركة ماجي – ماجي. أما روفيجي فهو أكبر وأطول نهر في تنجانيقا.

alibadreldin@hotmail.com

التعليقات مغلقة.