غربا باتجاه الشرق

حرب المطارات

حرب المطارات
  • 27 أبريل 2017
  • لا توجد تعليقات

مصطفى عبد العزيز البطل

(1)
في كلمة لي قبل اسابيع في ذات هذه الزاوية، بعنوان (الحاج وراق بين العمالة والدروشة) كتبت ان معاداة مصر والنفور منها وإظهار البغض لها يكاد يكون مرادفاً للوطنية عند نفر من السوادنة، يصدرون في غالب أمرهم عن عقيدة كامنة لديهم بأن أهل المحروسة يحتقرون أبناء السودان وينظرون اليهم بعين الاستصغار والازدراء، وربما استحالت هذه العقيدة بمرور الزمان الى عقدة. لم نشأ ان نقول انها عقدة دونية، فذلك ما لا  يكون!

جاء ذلك في مورد تحليل او تفسير ردة الفعل الغاضبة التي كانت قد انتظمت قطاعات واسعة في السودان تجاه حديث كان الناشط السياسي الاستاذ الحاج وراق قد ادلى به في ندوة بالقاهرة زعم فيه ان بحوزته معلومات مؤكدة من مصادر داخل السودان فحواها ان جهاز الأمن والمخابرات السوداني هو الذي يدير ما يفترض انها حملة إعلامية منظمة ضد مصر.

(2)
الغريب في الأمر ان وراق أعفى، في حديثه أمام تلك الجماعة من النخبة المصرية، أعفى المخابرات المصرية وبرّأها تماما من وزر التنظيم او المشاركة في اي عمل اعلامي عدائي فاستتفه الحملة المصرية الموجهة ضد السودان، برغم ضراوتها وقذارتها وشبهات التدبير والتنسيق الظاهرة في انسيابية وجهتها وإدارتها، فوصف من يقودونها بأنهم مجرد (رعاع). وطالما أنها تدار بوساطة رعاع، لا بوساطة اجهزة محترفة ومقتدرة، فلا بد انها حملة (هايفة) ولا قيمة لها.

وقد استغربت يومها لتصنيف عماليق الاعلام المصري الوالغين في تلك الحملة، أمثال عمرو اديب ولميس الحديدي وتامر أمين واحمد موسى، وغيرهم من الرموز بأنهم مجرد رعاع بلا تأثير ولا خطر، وانهم كغيرهم من الرعاع يصدرون فيما يقولون عن محض جهالة. هذا مع ان هؤلاء المشاهير أنفسهم لا يكلفون أنفسهم عناء نفي صلاتهم بالاجهزة الاستخبارية المصرية، بل يعدون ذلك شرفا فلا يردونه، بحسبان انهم في نهاية المطاف يخدمون بلادهم وقضاياها وحقوقها ومقتضيات أمنها القومي!

(3)
يبدو ان الله قد قدّر لصديقي الصحافي الاستاذ الطاهر ساتي وزميلتنا في (السوداني) الاستاذة إيمان كمال الدين، الذين أعيدا على عقبيهما من مطار القاهرة، أن يكونا أول من يتذوق بعض ثمار محاضرة الحاج وراق امام تلك المجموعة من السياسيين والصحافيين ورجال المخابرات.

ذلك أن الصحافي الطاهر ساتي (مقبوض بالثابتة) كما يقولون، فهو متورط حتى اذنيه في الحملة الاعلامية التي يفترض، بحسب مزاعم ورّاق، انها منظمة ومدبرة بواسطة البصاصين والجلاوزة في الخرطوم. فقد كتب ساتي مقالات جهيرة يندد فيها بتطاول أمد الاحتلال المصري لحلايب ويطالب الحكومة بالتشدد في الدفاع عن حقوق السودان وكرامته وسيادته على اراضيه. كما تبنى وعبّر عن مواقف اخرى لا تتسق مع السياسات المصرية ولا توافق هواها في قضايا اخرى متباينة.

وكذلك تورطت صحيفتنا (السوداني) إذ فتحت منبرها لعدد من الكتابات والمواد الصحافية الموازية الناقدة لتعنت الحكومة المصرية في أمر حلايب، ويمكن بالطبع  ادراجها تحت لافتة (الحملة المنظمة ضد مصر) التي يقول صاحبنا وراق ان جهاز الأمن يديرها من وراء حجاب.

الأمر كله، من أوله الى آخره، أمر مؤسف. مؤسف بحق. ولكنه من صنف الابتلاءات المعتادة في مسار العلاقات السودانية المصرية، فليست هذه هي المرة الاولى، ولن تكون بالقطع واليقين الاخيرة التي يضرب فيها هذا الفيروس الخبيث وينشط، فيتمكن من التغلغل الى بعض خلايا تلك العلاقات مستفيدا من ضعف الدفاعات المناعية، لا سيما في تلك الأجزاء من الجسدين السوداني والمصري حيث المحفزات الدائمة للفيروس، مثل حلايب قديما وسد النهضة ومياه النيل حديثا.

ولكن الثابت علميا ان الفيروسات ليست كائنات حية، فهي غير قادرة على الحياة بذاتها، كما ان دورة نشاطها محدودة. ولن يطول الوقت حتى نرى سحب الكآبة بين البلدين تنقشع بعد ان يعود الفيروس الى حالة الكمون المعلومة. وتلك من محفوظات دفتر العلاقة السودانية المصرية.

(4)
الممارسات التي اندرجت تاريخيا تحت مصطلح (حرب المطارات) بين السودان ومصر، حيث يتم توقيف المسافرين في مطاري القاهرة والخرطوم وارجاعهم من حيث أتوا كلما اعتكرت الاجواء السياسية مما هو معلوم بالضرورة في تاريخ العلاقات.

كثير من الدول، بما فيها السودان نفسه، الذي أعاد الدكتور عبد المنعم أبوالفتوح مرشح السابق لرئاسة الجمهورية الجمهورية من مطار الخرطوم الشهر الماضي، تمارس هذا السلوك (في عهد الديمقراطية الثالثة أمر وزير الداخلية، المغفور له سيد احمد الحسين، بإعادة بعض الوزراء والقادة السياسيين الليبيين من مطار الخرطوم الى طرابلس على ذات الطائرة التي أتوا فيها. متسببا في أزمة مع ليبيا وغضبة مضرية من العقيد الراحل معمر القذافي بذل مولانا محمد عثمان الميرغني جهدا جهيدا لتصفيتها وتجاوزها).

بل وحتى الولايات المتحدة رائدة الحريات، قامت قبل عدة اسابيع بتوقيف واحتجاز الصحافي الكندي الحاصل على عدد من الجوائز العالمية ادوارد أو (Edward Ou)  في مطار بسمارك بولاية نورث داكوتا ومصادرة هاتفه النقال وبعض متعلقاته الاخرى ثم اجباره على العودة الى كندا على متن ذات الطائرة، مما أثار ثائرة عدد من المنظمات الحقوقية الكندية والامريكية.

(5)
المسلك المصري يستحق الرد الضروري بطبيعة الحال. ولكن من المهم ان نعي ان الضرورات تقدر بقدرها، فلا نتكثّر ولا نتطرف ولا نتجاوز. المطلوب هو إدانة السلوك والتمسك بالمبدئية في التعامل من خلال حراك سياسي واعلامي حازم ومتعقل في ذات الوقت.

ونحن في حمى هذه المعاني نرجو من اتحاد الصحافيين السودانيين ان يستهدي بالله فيرجع، او على الأقل ينفي ما نسبته اليه بعض صحف الخرطوم وكبريات الفضائيات العربية من انه طالب باغلاق الممثليات الاعلامية المصرية وطرد مراسلي الصحف المصرية في الخرطوم، ومنع دخول الصحف والمطبوعات المصرية.

هل يعقل بسبب تخاليط ضابط جهول في المخابرات المصرية ان نمتنع عن قراءة جواهر الانتاج الثقافي المصري في وقت تعارض فيه أوسع قطاعات نخبة المحروسة ممارسات نظام الحكم القائم هناك؟ هل نمتنع عن قراءة طه حسين والعقاد وأحمد أمين ولطفي السيد وعلى عبد الرازق ومحمد الغزالي وجمال البنا ونصر ابوزيد وأحمد الدريني وحسن طلب وأمل دنقل وفؤاد نجم؟!

لا أعتقد .. لأننا لو فعلنا كنا كمن خصى نفسه ليغيظ زوجته!

mustafabatal@msn.com

التعليقات مغلقة.