الغذاء المصنوع ..والغذاء الطبيعي من الريف البريطاني إلى صعيد مصر

الغذاء المصنوع ..والغذاء الطبيعي من الريف البريطاني إلى صعيد مصر
  • 05 ديسمبر 2023
  • لا توجد تعليقات

د. فخرالدين عوض حسن عبدالعال

وما اجمل المراة بدون مساحيق!!

اصدقكم القول انه منذ نعومة اظافرى كنت طفلا مميزا للوالدين ..وايضا تربية حبوبات ..
ابي غفر الله له وجعل الجنة مثواه كان يحرص على شراء كافة الكتب التى ارغبها ..وشراء كل طعام احبه ..اما والدتى بت ادهم رضى الله عنها ومتعها بالصحة والعافية ..فبالنسبة لها كل شئ يخصنى مميز بداية من كباية الشاى الخاصة جدا ..وليس فقط نوع الاكل بل حتى الاوانى التى ياكل فيها ” الخواجة” فخرالدين ..وحبوبتى بابا ماشى رحمة الله عليها وغفرانه ..كانت لا ترضى ان تكون وجبتى مثل غيرى ..وتشعل الفحم وتحمر وتقمر ..وسار على منوالها خالاتى وبناتهن فى تدليلى ..
وهذا امر ارهق من بعدهن الزوجات والبنات .. وبخصوص الزوجات فقد اضحكنى قول بنت خالتى: فخرالدين ” عزال” فى الاكل وحتى النسوان!
واصدقكم القول اننى شخص اعشق النظام واكره الفوضى و “الخمج” ويأثرنى”الاتوكيت” وتناول الطعام والشراب فى اوانى متفردة ..
وبمناسبة الاوانى المتفردة …كنت يوما فى طريقى الى مكناس لحضور معرض زراعى هناك ..واخترت ان يكون مقامى فى “رياض” صاحبته مغربية عاشت فى فرنسا وزوجها مخرج سينمائي فرنسى معروف..
ولمن لا يعرف “الرياض” فهى عبارة عن منزل فندقى تديره اسرة، وفى الغالب يكون منزل الاسرة مع تحديد غرف للنزلاء..وتنتشر الرياض فى المغرب وتتفوق على الفنادق الراقية فى كثير من الاحيان فى جمالها ونظافتها وطعامها “وحميميتها” الاسرية الباذخة وخصوصا فى المغرب!!
دلفت الى ذلك الرياض فى احد احياء مكناس الراقية، فى ليلة شتاء ممطرة ..فاراحنى من عناء السفر ضيافتهم لى بكأسة من خلطة اعشاب مكناسية، لازال مذاقها فى فمى ..وشكل الكاس فى ناظرى ..وطريقة تقديمه فيلم لا يبارح مخيلتى “المجنونة”!
وقادتنى صاحبة الرياض بحنان وجمال الى غرفة ملوكية الطراز ..وبداخلها حمام فيه اباريق نحاسية وباقة ورد ..وازهار ولوحة ومرايا.. وبشاكير معطونة فى ازهار وورود جافة ..احسست يومها باننى ملك فى قصره ..
وصدق احساسى عندما ازحت الستارة صباحا لدخول اشعة الشمس ..فوجدت منظرا ساحرا خلابا ..ورد وازهار واشجار برتقال وتفاح وعناقيد عنب ..وكدت ان اصيح: اهذه الجنة ..
وسالتنى الحسناء المغربية هل افضل ان اتناول افطارى فى الداخل ام فى الحديقة ..فاخترت الاخيرة
وجلست قريبا من شجرة برتقال تكاد ان تسقط من حملها، وكانها امراة فى اواخر الشهر التاسع!!
..
وعندما بدات فى وضع الافطار على المائدة ..لم اصدق ان هنالك اوانى ومواعين بهذا الشكل والجمال ..فالحليب موجود فى اناء بشكل بقرة ..والبيض المسلوق فى انية بشكل دجاجة والمقابض مذهبة…وكل شئ فريد وغريب وعجيب ..اوانى الوان واشكال واحجام متناسقة ومنسجمة ..كافة انواع الخبز والفطائر ..وعسل ومربي وزبدة وجبن انواع ..اما براد الشاى فهذا امره عجب ..وقطع على تأملى للافطار سؤالها ان كنت احب عصير برتقال طازج من الشجرة ..فاجبت احب كل شئ بداية من ابتسامتك الصبوحة التى ترد الروح .. ووضعت كاسة البرتقال فى منتصف اناء حوله قطع بطيخ بدون بذور وفى اطرافه اوراق نعناع وازهار ياسمين بشكل هندسى بديع !!
وبينما انا استمتع بتناول الافطار وكأنى اعزف ” ذات الشجون” ..ومن نافذة فى اعلى المبنى، اطل القمر نهارا فى شكل وجه صاحبة الرياض وهى تحدقنى بابتسامة كلها نضارة وعذوبة .. عندها جال بخاطرى صديقى العزيز السفير محمد المكى ابراهيم وهو يترنم:
الله يا خلاسيه .. يا حانةٌ مفروشةٌ بالرمل
يا مكحولة العينين .. يا مجدولة من شعر أغنية
يا وردة باللون مسقيّه ..
بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنت
يا مملوءة الساقين أطفالا خلاسيين
يا بعض زنجيّة .. يا بعض عربيّه
وبعض أقوالى أمام الله
وفى لحظة تناول القهوة وجدت نفسى اسرح بعيدا الى احد اكبر شركات صناعة القهوة فى بريطانيا حيث اختارتنى الشركة احد “الزويقة” لمنتجاتها فى حملتها الترويجية/التسويقية الضخمة.. ووصفنى احدهم بانى على قدر عالى من ” الاحساس”!
وهذا امر ارهق زوجتى وهى طباخة ماهرة جدا ..عندما يدخل الى بيتنا ضيف لا يعرف ان كان امامه سمك او دجاج!
وبشكل خاص فانها مبدعة فى قلى دجاج لذيذ يفوق “كنتاكى” و “البيك السعودى” مليون مرة ..وفى طبخ الملوخية بلحم الضان وهى اكلتى المفضلة مع الارز والسلطة ولها يوم محدد كل اسبوع..
ولان الملوخية غير موجودة فى اذربيجان ولايعرفونها، فقد حرصت على ان احضر معى بذروها، لنثرها عقب الشتاء، والاستمتاع بها مع “فراريج” من قفص الدجاج البيتى..
ولا يحلو ذكر الملوخية والارز والدجاج دون التوقف عند قرية الشيخ ابراهيم فى منطقة دراو فى صعيد مصر حيث اصر احد جدودى الذين فصلتنا عنهم الحدود الاستعمارية البغيضة ..على ان اتناول عنده الغداء بعد جولة حافلة بداناها برفقة ابنة عمتى سيدة قادمين من اسوان مبكرين كما نصحنا ابن عمتى فريد عصره محمد عبدالرحمن رحمة الله عليه وغفرانه ورضوانه ..وبدانا الطواف باهل القرية التى عشقتها جدتى لابي ام الحسين احمد ابوهلالى اكثر من “مكة” !! بداية من منزل العم حامد رحمة الله عليه وغفرانه ..والعم حامد “ابو حيطة” يسكن دراو وعمره لم يرى السودان ورغم ذلك وريث اصيل فى جنينة جده قميرية فى دنقلا المطلة على طول ساحل النيل هنالك …وفى منزله جلسنا فى تكية طينية فى قبالة بيت الجاموسة وتناولنا طاجن بيض بالسمن البلدى ..بينما انا اصور له فيلم فيديو عن النسب والعلاقات وارسال التحايا الى اهله فى السودان، وهو غير مصدق البته بان هذا الجهاز الصغير يمكنه تصوير حديثه فى شكل فيلم .. وحينها ” رمى بقنبلة” ذكر فيها ان نسب احد اقرباؤنا يرجع الى عائلة مسيحية مشهورة من ابناؤها السياسى المصرى المخضرم مكرم عبيد!!
نرجع لمنزل جدى عبدالحفيظ فى دراو ..وصينية الغداء التى توسطتها الفراخ المحمرة مع البطاطس والارز والملوخية والسلطة …وفى الاطراف “الخماريت” وهى شبيهة بالكسرة عندنا ..واهل صعيد مصر ايضا يفركون البامية ويطربون لمحمد وردى وسيد خليفة والبلابل وعبدالقادر سالم وما بينهم واهلهم فى شمال السودان ليس النيل فحسب وانما دماء وارحام وحنين يفوق النيل عمقا وطولا وعذوبة .. والنخيل عطاءا ..
يومها اكلت واطفالى كاننا لم نذوق الطعام منذ امد بعيد ..ورغم ان زوجتى طباخة تفوق حد المهارة ولا يعلى على ملوخيتها واساسا نشترى الملوخية المصرية من السوبرماركت فى انجلترا الى جانب حرصى على الابتعاد عن الدجاج المجمد وشراؤه طازج ..الا ان طعم ملوخية جدى عبدالحفيظ كان مختلفا جدا ..كل شئ فى الصينية مختلف سلطة وبطاطس ودجاج وملوخية ..فسألت جدى عن الامر ..فاخبرنى ان السلطة والملوخية تم زرعهم بسماد عضوى وفى ارض حلوة خصبة وبان الدجاج تربية البيت فى الهواء الطلق ..يعنى بلغة العصر كله اورقانك / عضوى ..وفى السوبرماركت العالمية تجد طبق البيض المكتوب عليه “دجاج مربي فى الهواء الطلق ” واورقانك التغذية، سعره الاعلى!..
ويومها سالت جدى عبدالحفيظ عن ” جزيرة بلورى” المولود ومعجون بطينها كثير من اسرتنا ومنهم نخلتنا الباسقة الراحل المقيم اخى محمد عبدالرحمن طيب الله ثراه، فاخبرنى بان النيل قد “ابتلعها” وكثير من اراضى وتاريخ واثار النوبة .. واذكر اننى قلت للراحل محمد عبدالرحمن بانى اعلم بانه مولود فى جزيرة بلورى ..انفجر لحظتها بضحكته المشهورة قائلا: من فين عرفت ..والله يا فخرالدين حكايتك حكاية ..حتى الناس عندينا نسيت “جزيرة بلوري”!!
وفى بريطانيا ايضا عندما اسافر الى الريف وخصوصا منطقة البحيرات lakes district حيث الطبيعة الخلابة والنسيم العليل والمياه العذبة …” اغرق” فى الطعام الاورقانك ..من فاكهة وخضار وعصير ومربى مصنوعة فى المنازل ..حيث يصنع اهل الريف الانجليزى كل شئ فى منازلهم حتى الخمر والنبيذ ..وشتان ما بين مربي السوق ومربي الريف الانجليزى التى تاكلها مع خبز البيت صباحا مع شاى الحليب البديع ..
وبالتجارب والترحال اصبحت محبا للطعام الطبيعى الصحى ..ومستمتعا به وخصوصا وان كان فى صحبته طبيعة خلابة ..خضرة ومياه عذبة…وبالطبع وجه حسن يفتن الالباب ..ويجعلك تغازل ..وتغزل الشعر والادب بيوتا دافئة.. عميقة الاسرار ..عصية الدروب..
وكان من الطبيعى ان لا يطيب لى المقام فى السعودية وقد هبطت بالرياض والتى ليس لها من اسمها نصيب !!..
ويسهب ويشرح شريكى فى العمل د. خالد السعودى بان الرياض اكثر مدينة فى العالم بها مطاعم ..ويصول ويجول بي يوميا بين مطاعمها “المصنوعة” من شامى الى هندى الى طليانى وبريانى..وانا زاهد فى الكل ..
واختصر له الطريق: يا دكتور فى بلادكم حتى الخيار والطماطم احس به “مصنوعا” واتقزز من اللحوم والدجاج والاسماك المجمدة ..ياريتك تجعل كل ايامى تمرا ورطبا ..فان فى ارضكم تمرا ليس له مثيل ..والبقية ليس رسوب وانما “سقوط” فى الهاوية من عل..
والان فقط ادركت سبب الخلافات الزوجية للمغتربين ..وخصوصا عندما يعود الزوج الى السودان وينسحب قبل اكمال الشوط الاول من المباراة !! والمسكين تجرى فى دمه الفراخ والاسماك المجمدة والفاكهة والخضروات “المسممة” بالكيمائيات!!
وبالطبع “هربت” من السعودية قبل اكمال شهور “العدة” ..
واقنعنى الاصدقاء بالاستقرار فى دبي
ويحسبونها جنة الارض ..ورايت فيها نموذجا لجهنم فى الطقس ..وحالها مثل الرياض فى الغذاء “الصناعى” باستثناء الاسماك الطازجة…وهى نفسها اسميها المدينة “المصنوعة” بعرق العمال الفقراء..
والان قد طاب لى المقام فى بلدة ريفية خضراء باذربيجان كل شئ فيها طبيعى ..اكل طبيعى ..وهواء طبيعى وجمال نساء طبيعى ..
اليوم من جارتى اشتريت حليب من بقرتها .. ونصنع منه الروب والسمنة والزبدة ..واليوم ذبحت جارتى عجلا تغذيته من الجبال الخضراء المطلة على منازلنا فاخذت منه لحما وكبدا شهيا ..
والاكل الطبيعى /الاورقانك يجعلك تلعب شوطى المباراة وايضا الاضافى وتحرز الهدف الذهبي كمان مهما بلغت من العمر عتيا ..وأسال مجرب!!
يبقى نصيحتى ليكم ابعدوا من الدجاج واللحوم والاسماك المجمدة …وفى بيوتكم فى السودان وفى كل مكان ازرعوا خضرة وفاكهة ..والتسميد من بقايا الغنم والدجاج تربية بيوتكم ..وعندها سوف ترموا بعلبة الحبوب ويقل ذهابكم الى الصيدليات والعيادات ولن تحتاج فتياتنا الى كريمات ..
وتلعبوا مباريات يومية بلياقة عالية . وتنجبوا تيمان بصحة فل الفل ..
وسامحونا على الصراحة فان فيها الراحة
د. فخرالدين عوض حسن عبدالعال

التعليقات مغلقة.