محجوب محمد صالح : رحيل رمز صحافي مستنير

محجوب محمد صالح : رحيل رمز صحافي مستنير
  • 17 فبراير 2024
  • لا توجد تعليقات

صلاح شعيب


بوفاة الأستاذ محجوب محمد صالح اليوم انطوت صفحة ناصعة لرمز سوداني كثير العطاء حتى سُمي عميد الصحافة السودانية. فهو يكفيه فخراً أنه قد ساهم مع زميليه الراحلين بشير محمد سعيد، ومحجوب عثمان، في تأسيس صحيفة الأيام في أكتوبر 1953. وظلت الصحيفة منذ صدورها تمثل أكبر مدرسة صحفية في البلاد، تخرج فيها عدد هائل من الإعلاميين طوال سبعة عقود من الزمان. وكان قد شغل منصب مدير تحريرها. ولم تقتصر مناضلات الراحل على المستوى السوداني، وإنما انشغل بقضايا أفريقية، وعربية، عبر علاقات مستمرة مع نخبها. وبالتالي مهد له هذا الدور المساهمة في تأسيس اتحاد الصحفيين العرب، وكذلك اتحاد الصحفيين الأفارقة.
تقول سيرته إنه ولد في 12 أبريل من العام 1928م، في مدينة الخرطوم بحري، وتلقى فيها مراحل تعليمه الأولية، والمتوسطة، والتحق في العام 1947م بكلية الخرطوم الجامعية، وكان يشغل منصب سكرتير اتحاد الطلاب وقتها.
وفي عام ١٩٤٩ عمل في صحيفة “سودان ستار” التي كانت تصدر بالإنجليزية ثم عمل في السودان الجديد. كذلك ترأس الأستاذ محجوب تحرير مجلة الحياة الأسبوعية التي كانت تصدر عن دار الأيام للنشر في العام 1957 وحتى العام 1959م.
إنها رحلة كفاح صحفية مميزة تلك التي بدأها الراحل في ظروف كانت البلاد تتوثب الخطى للتخلص من الاستعمار، وبدء مرحلة جديدة من الحكم الوطني. ولا شك أن الأستاذ محجوب يعد من طليعة المثقفين المستنيرين الذين قادهم القدر لأن يكثفوا في نشر الوعي من خلال شراكة الصحافة التي تستهدف رفع الوعي. وقد كان ذلك الثالوث المؤسس للأيام من أنفع تجارب الصحفيين السودانيين. فكلهم ارتبطوا بنشدان التقدم كعقيدة لا تستند إلا على مصالح الأمة السودانية، برغم قربهم جميعاً من اليسار، وتبني بعض شعاراته المتصلة بالديمقراطية. ولكن الأستاذ بشير محمد سعيد، والمحجوبين رسخا نهجاً مهنياً قومياً كان الهم بتقدم الوطن لحمته وسداته.
-٢-
أما في مجال الكتابة فقد ساهم الأستاذ محجوب في رصد كل التحولات المجتمعية في كل هذه العقود. وساهم بالرأي السديد في التطرق إليها من جذورها العميقة نظراً لاطلاعه الواسع، وثقافته العالية، ومتابعته لها من موقع أنه شاهد عصر بقلم أمين. وعبر عموده “أصوات وأصداء” شكل الراحل تحولاً كبيراً في التناول الصحفي بأسلوب سلس، ومتقن، وموضوعي. فضلاً عن ذلك أصدر الأستاذ محجوب عدداً من المؤلفات، من بينها “تاريخ الصحافة السودانية في نصف قرن”، والذي يعد أفضل مرجع لرصد واقع الصحافة السودانية منذ نشأتها. وبوصفه من المنشغلين بهم الديمقراطية، ومؤمناً بدورها في استدامة استقرار البلاد، وتقدمه، أصدر “مستقبل الديمقراطية في السودان”. ونظراً لرجاحة نظره في النظر لأس القضايا السودانية التي لم تحسم حتى الآن اهتم بدراسة الدستور، وأصدر سفراً في هذا المجال من جزئين. كما صار اهتمامته بقضية الجنوب التي أولاها اهتماماً صحفياً واسعاً مدخلاً لكتابة “أضواء على قضية الجنوب”.
وفي كل هذه الإصدارات تبدت قدرات الراحل في التحليل الموضوعي، والاعتماد على مصادر معينة لدرس، وشكلت هذه الأعمال التي كتبها عبر فترات متفاوتة مرجعاً للباحثين، والطلاب، المهتمين بهذه القضايا. فضلاً عن ذلك تموضعت هذه الإصدارات ضمن المراجع التي يعتد بها في تقديم رؤية لصحافي مستقل لم يكن ينتمي حزبياً حتى لا تشوب خلاصة أعماله انحيازاً لطرف ضد آخر، وإنما كان قلم الأستاذ محجوب أميناً في طرحه، وجريئاً بالقدر الذي جعل بينه والقوى السياسية مسافة مكنته من نقد رؤاها بحيثيات مستقاة من تجربته المديدة في الكتابة، ولكونه مطلع على تجارب عربية وأفريقية تجعله يقدم مقاربة فريدة للقضايا السودانية التي بحثها قلمه.
-٣-
الأستاذ محجوب حصل على العديد من الجوائز أهمها جائزة القلم الذهبي في باريس من قبل الجمعية العالمية للصحف عام ٢٠٠٥ وقد أنشأت جائزة في الفنون الصحفية تحمل إسمه. ولدوره الكبير في نشر المعرفة منحته جامعة الأحفاد للبنات الدكتوراة الفخرية في العام 2012. كذلك حصل على جائزة مؤسسة فريدريش إيبرت لحقوق الإنسان بالمشاركة مع أبيل ألير في العام 2004.
أيضاً نال جائزة مؤسسة نايت، والمركز الصحفي العالمي بواشنطن في العام 2006. ومنحته جامعة الزعيم الأزهري الدكتوراة الفخرية في العام 2006. كذلك اختاره مجلس أمناء جائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي شخصية العام في 2013.
رحيل الأستاذ محجوب محمد صالح تزامن مع نشوب حرب السودان التي لا بد أنها نكدت عليه حياته، وهو الذي ساهم طوال هذه السنين لتفادي دخول البلاد في احتراب دامٍ يقضي على بنياتها الحكومية، ويهدد وحدتها.
لا شك أن المساهمات المستنيرة التي قدمها الراحل ما تزال مهمة في مرحلة إعادة البناء متى ما توقفت الحرب. ذلك لكونها تشكل مدخلاً صحيحاً لتحقيق دولة المواطنة. وقد تعرض الراحل في كتابه “مستقبل الديمقراطية في السودان” إلى عدد من القضايا الرئيسية التي تكبل استمرارية الديمقراطية في بلادنا. وراهن على الوعي الجديد للأجيال الناشئة، والتي نظر إليها بأنها ستستفيد من أخطاء الماضي حتى ترسخ التداول السلمي للسلطة.
من المؤكد أن حزناً ثقيلاً واجه الصحافيين لهذا الرحيل المر اليوم. ولكن المؤكد أن كل المؤمنين بالديمقراطية سبيلاً للتقدم قد أحزنته أيضاً وفاة الأستاذ محجوب محمد صالح. فهو كان بحق أيقونة صحفية ما فتئت تتجوهر كتاريخ نضالي يحكي عن جهد صحافي دائب لترسيخ الاستنارة، والقناعة بالديمقراطية، ومحبة الوطن على هدى الوفاء.
https://sbcnetwork.com/محجوب-محمد-صالح-رحيل-رمز-صحافي-مستنير/

الوسوم صلاح-شعيب

التعليقات مغلقة.