مذكرة بشأن استقالة السير جيفري آرشر من منصب الحاكم العام بالسودان

مذكرة بشأن استقالة السير جيفري آرشر من منصب الحاكم العام بالسودان
  • 11 مارس 2024
  • لا توجد تعليقات

ترجمة: د.بدر الدين حامد الهاشمي

A note on the Resignation of Sir Geoffery Archer as Governor – General of the Sudan
Martin W. Daly مارتن ويليام دالي

ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

تقديم: هذه ترجمة لمذكرة بقلم المؤرخ مارتن ويليام دالي (1930 – ) نُشِرَت في المجلد الثامن والخمسين من مجلة “السودان في رسائل ومدونات SNR” الصادر في عام 1977م، عن ملابسات استقالة حاكم عام السودان جيفري آرشر (1882- 1964م) بعد فترة قصيرة من تعيينه في ذلك المنصب.
ويُعد مارتن دالي واحداً من أهم المؤرخين الغربيين للسودان ومصر (خاصة فيما يتعلق بتاريخ عهد الحكم الثنائي)، وله العديد من المؤلفات مثل “امبراطورية على النيل” و”أحزان دارفور”، و “صور الإمبراطورية”. وله أيضا كتاب “تاريخ السودان منذ مجيء الإسلام …” بالاشتراك مع ريتشارد هيل. ولدالي أيضا عدة مقالات عن السودان منها مقال مشهور نشر عام 1983م عن “رسائل وينجت”. درس بروفيسور دالي في جامعة مكغيل ‏الكندية، وحصل على درجة الدكتوراه عام 1977م من مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن، ثم عمل في التدريس والبحث بعدد من الجامعات الأميركية وجامعة درم البريطانية.
المترجم


استلزم اغتيال السير لي ستاك في القاهرة يوم 19 نوفمبر 1924م تعيين خلف دائم له في منصب حاكم عام السودان. وفي يوم 25 نوفمبر من ذات العام عرضت وزارة الخارجية البريطانية وظيفة الحاكم العام على السير جيفري آرشر، حاكم أوغندا. وقبل آرشر شغل المنصب في اليوم التالي، وجاء إلى الخرطوم في الخامس من يناير 1925م (1). غير أنه استقال من منصبه بعد مضي 15 شهراً فقط على وصوله للخرطوم، متعللاً بحالته الصحية التي لا تسمح له بالاستمرار في العمل بالسودان. غير أن آرشر ذكر لاحقاً في مذكراته وهو يتناول فترته القصيرة في الخرطوم أن ما ذكره رسمياً لتفسير استقالته إنما كان لمجرد تحاشي الجدل والمشاكسة. وظلت الظروف والأسباب الحقيقية التي دعت آرشر لتقديم لاستقالته موضع خلاف. ويبدو أن تلك الأسباب كانت تتعلق بالسياسات وطبيعة الشخصيات، وتعلمنا تلك الأسباب الكثير عن الطريقة التي كانت تُدَارُ بها الشؤون الداخلية لحكومة السودان، وعن آراء رجال القلم/ القسم السياسي في السودان بشأن سياسة الحكومة تجاه المهدية.
وبِناءً على المَعْلومات المُتوَفِّرة كان تعيين آرشر في منصب الحاكم العام أمراً مثيرا للاستغراب منذ البداية. فقد كان الحكام الثلاثة الذين سبقوه في ذلك المنصب (هربرت كتشنر وريجلاند وينجت ولي استاك) جميعهم من العسكريين، وكانت لدى كل واحد منهم خبرة طويلة سابقة بالسودان قبل تعيينهم. غير ان آرشر كان قد جاء للسودان من قسم المستعمرات (The Colonial Service) ولم تكن لديه له أي خبرة سابقة بشؤونه. وربما كان هناك، كما ورد في مذكراته، شعور بسوء الظن والارتياب عند كبار المسؤولين البريطانيين بالسودان تجاه أي شخص غريب (outsider) يأتي للعمل معهم من خارج محيطهم، وكانت لديهم طموحات محبطة. وعلى أية حال، كان آرشر قد أثار كراهية مرؤوسيه منذ لحظة وصوله إلى الخرطوم.

لقد شهد عهد السير لي استاك (بين عامي 1917- 1924م) تغيرات أساسية في سياسة الحكومة فيما يتعلق – ضمن أمور أخرى- بالشريحة السكانية التي يمكن الاعتماد عليها لخلق طبقة من السودانيين تكون متعاونة بما يكفي لإدارة البلاد في السنوات المقبلة. وكان الصعود السريع لنجم زعيم الأنصار، السيد عبد الرحمن المهدي، وتعاظم تأثيره، وما حدث من قلاقل في غرب السودان نُسِبَتْ لأنصاره، قد وضع ذلك الرجل في دائرة الشك وانعدام الثقة عند الإدارة البريطانية. وفي عام 1924م بدا أن الحكومة كانت على استعداد للحد من نفوذه بصورة قد لا تخلو من شدة وغلظة. غير أنه ظهر للحكومة في عام 1924م تهديد جديد أكثر خطورة. فقد اندلعت عدة مظاهرات احتجاجية ببعض المدن، خاصة في الخرطوم وأم درمان. واتهمت الحكومة “جميعة اللواء الأبيض” بتحريض الأهالي على تلك القيام بتلك الاضطرابات. وتيقظت الحكومة على الأخطار الكامنة في تلك المعارضة السياسية التي لم تكن لها أدنى علاقة بأي شكل من أشكال الجماعات الدينية التقليدية المعتادة. واضطرت الحكومة في سعيها لقمع تلك الاضطرابات (التي بلغت ذروتها في نوفمبر 1924م بعد اغتيال استاك بالقاهرة) لطلب العون من السيد عبد الرحمن المهدي، كما فعلت ذلك من قبل. وكانت نتيجة عدم الثقة التي كانت الحكومة لا تزال تشعر بها حيال السيد عبد الرحمن، وتخوفها الطَّارئ من النخبة السودانية المتعلمة في المدن (التي كانت الحكومة قد وضعت عليها آمالاً عراض في السابق لأداء أدوار مهمة في خططها الإدارية للمستقبل)، هي ميلاد فكرة “الحكم غير المباشر”. وكان ذلك “النظام” يعتمد على السلطة القبلية في إدارته لشؤون البلاد، ويستبعد ضمنياً السيد عبد الرحمن المهدي وكذلك الجهاز البيروقراطي، في آن معاً، بحسبانهما يمثلان تهديدا خطيرا للحكم، بحسب رؤية البريطانيين في تلك الأيام.

وكان السير جيفري آرشر قد مر بباخرته بالقرب من “الجزيرة أبا” (مركز السيد عبد الرحمن) وهو في طريقه للخرطوم قادماً من أوغندا، وأقام الأنصار على شرفه احتفالاً (صاخباً) على الشاطئ. ولضيق الزمن لم يتمكن آرشر من التوقف في الجزيرة أبا. غير أنه قام لاحقاً في الخرطوم بالتعبير للسيد عبد الرحمن عن بالغ أسفه على ما بدا أنها “فظاظة ظاهرة” من جانبه، ووعده بزيارة الجزيرة أبا بأعجل ما تيسر. وفيما يتعلق بتلك الزيارة، وبالنظر إلى الأحداث الأخيرة، وسعي الحكومة الدائب للتقليل من هيبة ونفوذ السيد عبد الرحمن المهدي، قام “مجلس الحاكم العام” بالاعتراض على مبدأ قيام الحاكم العام بتلك الزيارة للجزيرة أبا. غير أن المجلس أقر – على مضض – تلك الزيارة نسبة للوعد الذي كان آرشر قد قطعه على نفسه بزيارة السيد عبد الرحمن في أبا. ووافق آرشر في اجتماع عقده مع كبار مستشاريه يوم 7 فبراير 1926م على أن تكون تلك الزيارة “غير رسمية بقدر الإمكان” وأن “يكون طابعها طابعاً اجتماعيا بحتاً”، وأن تقتصر الكلمات التي تُلْقَى فيها على “ما هو معتاد من الكلمات المَكْرورة التي تقال دوماً في مثل تلك اللقاءات الاجتماعية “.

زار آرشر الجزيرة أبا في يوم 14 فبراير1926م. غير أن تلك الزيارة لم تأت كما كان “مجلس الحاكم العام” يؤمل، فلم تأت تلك الزيارة قصيرة وغير رسمية، بل كانت أقرب لأن تكون احتفالاً رسمياً شهدته حشود كبيرة من الناس، وتضمن حرس شرف وعرض (عسكري)، ومأدبة فخمة. ورداً على كلمة الترحيب به في أبا، ذكر آرشر بأن زيارته لأبا “بكل ما بها من ارتباطات سابقة، لا يمكن أن تكون قد جاءت مصادفةً”، فهي تمثل “مرحلة مهمة لتطوير العلاقات” بين الحكومة والأنصار. وبعد تلك الزيارة واصل آرشر جولته التفقدية في المناطق النيلية الأخرى.
أصيب أعضاء “مجلس الحاكم العام” بالذعر مما سمعوه عن زيارة آرشر للجزيرة أبا. فكتب السكرتير القضائي السير واسي ستيري Wasey Sterry (2) إلى آرشر وهو في مدينة كوستي وقال له بأن خطابه في أبا كان “مفارقا بصورة كبيرة لما سبق أن أتفق عليه من سياسة”. وأضاف بأن ذلك الخطاب بدا “مناسباً إن كان القصد منه تسوية ودية للخلافات بين قوى مستقلة مثل نائب الملك في الهند أو أمير أفغانستان مثلاً”، لكنه كان “في غير مكانه تماماً” فيما يتعلق بالسيد عبد الرحمن المهدي (3).

ولم يكتف ستيري ورفاقه في “مجلس الحاكم العام” بذلك اللوم والتوبيخ للحاكم العام، فقد قال السكرتير المالي السير جورج شوستر George Schuster (4): “لقد جمعت كل أعضاء “مجلس الحاكم العام”. وكنا في غاية الانزعاج. وقررنا جميعا بعد ختام مداولاتنا أن نصدر بيانا يعبر عن احتجاجنا ونرسله إلى اللورد جورج لويد (المفوض السامي في مصر) … وكان المستشار القضائي على وشك التقاعد عن العمل، وبما أنه سيذهب على أية حال، فقد تقرر أن يتولى هو كتابة تلك الرسالة… إن ما أقدم آرشر على فعله هو مخالفة متعمدة ومعاكسة لسياسة حكومة السودان”.
وبعد تلقي اللورد جورج لويد لرسالة ستيري، قام بإرسال برقية لآرشر طلب منه فيها أن يلتقيه بالقاهرة لبحث” مسألة تتعلق ظاهرياً بدراسة … تقرير مياه النيل ومسائل الري الأخرى”. غير أن مجلس الحاكم العام في الخرطوم كان قد قرر بالفعل، وبوضوح، أن آرشر يجب أن يستقيل. وفي اجتماع لذلك المجلس عُقد بتاريخ 28 مارس قرروا تسجيل التالي:
“أسفهم وعدم رضاهم عن مسألة في غاية الأهمية السياسية ما كان ينبغي لصاحب السعادة أن يتحدث عنها، ويتصرف حيالها بتلك الطريقة التي لا يمكنهم إلا اعتبارها مخالفة ً تماماً للسياسة التي كان قد قبل بها بعد التشاور مع كبار مستشاريه”.

ورد آرشر على اللورد جورج لويد في الثاني من أبريل 1926م مدافعاً عن نفسه في رسالة شرح فيها ما قام به في الجزيرة أبا، ورأيه وأفكاره فيما يتعلق بسياسة الحكومة حيال المهدية. غير أنه أقر بأن سلوكه تجاه “شؤون الأهالي” قد لاقى الاستنكار عند أعضاء مجلس الحاكم العام. وعرض آرشر في تلك الرسالة تقديم استقالته، وشجب في مرارة بائنة موقف ستيري، واتهمه بعدم الولاء.
وفي القاهرة ناقش اللورد جورج لويد الأمر مع آرشر، ومع عضوي مجلس الحاكم العام ستيري وشوستر (الذين حضرا للقاهرة كممثلين للمجلس)، وخلص إلى أن “الخلاف بينهم ليس وليد حادثة واحدة”؛ فقد شعر بأن أعضاء المجلس كانوا يعترضون “ليس فقط على أفعال آرشر، بل على تجاهله للسياسة التي أتفق على تنفيذها المجلس”: – “وبالتالي فإن سوء النية هو العبء الحقيقي للتهمة الموجهة إلى الحاكم العام مِنْ قِبَل مجلسه”. ويعتقد اللورد لويد أن قرار المجلس الصادر في 28 مارس لا يمكن تبريره إلا إذا كان انعدام الثقة في آرشر “كاملًا وعاما عند كل المسؤولين في السودان”. ومضى يقول:
“لقد تحدث السير واسي ستيري والسير جورج شوستر إنابة عن مجلس الحاكم العام وذكرا بصورة واضحة لا لبس فيها ولا غموض بأن الشعور بعدم الثقة في آرشر هو شعور سائد بين جميع العاملين بكل الأقسام بالسودان. وأن هذا الرأي (رغم أنه لم يُسجل في قرار اللجنة يوم 28 مارس) يجد سندا قوياً عند كل أعضاء مجلس الحاكم العام، الذين أوفدوا اثنين منهم لينقلا لي شفاهةً رأي المجلس حول ذلك الوضع الذي لم يعد بالإمكان تحمله”.

وبناءً على ما تقدم، أوصى اللورد جورج لويد وزارة الخارجية البريطانية بقبول استقالة آرشر، والتي نصح بأن يذكر أن سببها هو “اعتلال صحة آرشر” (5). وقُبِلَتْ الاستقالة.
كان تقرير لويد لرئيس الوزراء شامبرلين عن لقائه باستيري وشوستر يوضح أن “حادثة أبا” لم تكن هي المشكلة الوحيدة، ولكنها كانت الأخيرة في سلسلة من المسائل الأخرى التي أفقدت آرشر الثقة فيمن يعملون تحت إمرته. ولكن لم تكن طبيعة تلك “المسائل الأخرى” معلومة على نحو دقيق؛ إذ لم تشهد فترة حكم آرشر القصيرة أي أحداث جسام أو مشاكل عويصة. ويبدو أن العلاقات بين آرشر وأعضاء مجلس الحاكم العام كانت سيئة على وجه العموم. وفي عهد السير لي استاك، كانت المسؤوليات الفردية والجماعية لأعضاء المجلس قد وُسِعَتْ كثيراً، لدرجة أن ذلك المجلس كان يمثل بمفرده وزارةً غير رسمية. وكان موظفو “القلم السياسي” يتوقعون أن يبقى الوضع على ما كان عليه بعد اغتيال استاك، خاصة وأن الحاكم العام الجديد (آرشر) لم تكن له أي خبرة سابقة عن السودان. ولكن، كما ذكر السير جورج شوستر (4): “كانت طرق وأساليب ونُهُوج آرشر بخِلَاف تلك المستخدمة في السودان”، وهذا رأي كان يشاركه فيه الكثيرون بصورة عامة. وإن حامت شكوك حول وجوب تعيين “شخص من خارج المحيط المألوف outsider” في منصب حاكم عام السودان، فلا يجب أن تشارك وزارة الخارجية أحداً في تلك الشكوك: فقد حل محل آرشر السير جون مافي Maffee (1877- 1969م) الذي كان قد قدم للسودان من الهند، وكان إداريا محبوبا (في السودان).
وبذا يمكن أن نخلص إلى أن الاعتراضات على آرشر كانت سياسية من جانب، وشخصية من جانب آخر، وأن ما قام به من زيارة ودية للسيد عبد الرحمن المهدي (رغم أنه كان عملاً مرفوضاً في حد ذاته)، كان هو الفصل الأخير في فترة حكم قصير الأجل لم تجد سوى الرفض، ولكن – في نفس الوقت – لم تكن تلك الزيارة هي السبب الوحيد لرحيله عن السودان (6). وكان الأمر الأكثر إثارة للاهتمام في جانب تطور إدارة السودان هو التقدم والتطور الملحوظ لمجلس الحاكم العام – من مجرد مجلس يوافق بشكل روتيني على ما يقرره الحاكم العام في سنواته الأولى، إلى موقع نفوذ مستقل عن منصب الحاكم العام.


إحالات مرجعية
1/ ذكر جيفري آرشر بعضاً مما ورد بهذه المذكرة في كتابه المعنون: Personal and Historical Memoirs of an East African Administrator، الذي صدر عام 1963م، في صفحات 178 – 189.
2/ يمكن النظر في سيرة واسي ستيري في هذا الرابط: https://rb.gy/u3d784

3/ أشار الكاتب في الحاشية إلى أن تلك الرسالة محفوظة في “مكتب السجلات العامة” بلندن. F.O. 371/11612
4/ ذكر شوستر (https://shorturl.at/bmV12) ما ورد في هذا المقال خلال مقابلة مع الكاتب يوم 19 مايو 1976م.
5/ كتب اللورد جورج لويد لنيفل شامبرلين، رئيس الوزراء البريطاني، في العاشر من أبريل 1926م بأن سير جيفري آرشر “يعاني بالفعل”.
6/ أمضى آرشر ما تبقى من حياته المهنية في تنظيم إدارة شؤون الملح في الهند https://shorturl.at/otGSU

alibadreldin@hotmail.com

التعليقات مغلقة.