مقتطفات من كتاب “السودان الإنجليزي – المصري من الداخل

مقتطفات من كتاب “السودان الإنجليزي – المصري من الداخل
  • 02 أبريل 2024
  • لا توجد تعليقات

ترجمة: د. بدر الدين حامد الهاشمي

THE ANGLO-EGYPTIAN SUDAN FROM WITHIN
جي. اي. دي سي. هاملتون J.A. de C. Hamilton
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي

هذه مقتطفات من مقالين وردا في كتاب إنجليزي قديم حرره جي. اي. دي سي. هاملتون J.A. de C. Hamilton بعنوان: THE ANGLO-EGYPTIAN SUDAN FROM WITHIN (السودان الإنجليزي – المصري من الداخل). وقد صدر الكتاب عام 1935م عن دار نشر فابر وفابر المحدودة بلندن، في نحو 370 صفحة. وبالكتاب فهرس للمناطق والأسماء التي ورد ذكرها فيه، وخريطة كبيرة وشديدة التفصيل للسودان صادرة عن مصلحة المساحة في فبراير من عام 1935م. ويضم هذا الكتاب (الذي سَطَرَ له حاكم عام السودان السير المقدم ستيوارت سايمز، مقدمة قصيرة) خمسة أجزاء حوى كل جزء منها عددا من المقالات المتفاوتة الطول بأقلام إداريين وضباط بريطانيين منهم على سبيل المثال هارولد ماكمايكل، وايفانز – بيرتشرد E. Evans Pritchard، واس. هيليلسون S. Hillelson وغيرهم.
وأورد محرر الكتاب في الصفحة التي تلت صفحة المحتويات بيت شعر لجون كيتيس هو: From chaos, and primeval darkness, came Light (من الفوضى والظلمة البدائية جاء النور). وقصده واضح بالطبع.

تناولت مقالات الجزء الأول خلفية تاريخية عن السودان، كان منها مقال بقلم F. Addison أف. اديسون عن “الاكتشافات الأثرية بالسودان”، ومقالين بقلم هارولد ماكمايكل هما: “مجيء العرب للسودان”، و”ملخص للأحداث التي وقعت بالسودان بين عامي 1819 – 1899م”.
أما الجزء الثاني من الكتاب فقد خُصِّصَ لمقالات تناولت وصفاً عاماً للمجموعات السكانية بالسودان ومشاكل إدارة تلك المجموعات المتباينة. شملت تلك المقالات مسحاً اثنوغرافيا للسودان، ومقال عن جنوب السودان وعن العرب الرحل، وعن البجا والبقارة، ومديريات شمال السودان النيلي، والإدارة الأهلية من منظور تاريخي.

وشمل الجزء الثالث مقالات عن المعتقدات الدينية والعادات بالسودان. وضم هذا الجزء مقالا قديماً عن “كرامة Karama” (بالمعنى السوداني الذي يعني ذبح بهيمة بقصد نيل بركة أو دفع بلاء أو غير ذلك) بقلم الإداري دبليو. بوند W. R. G. Bond (الذي عمل في المديرية الشمالية وبالجنوب). وشمل أيضا مقالا لهليلسون بعنوان “الدين في السودان”.
أما الجزء الرابع من الكتاب فقد تناول موضوعات متنوعة عن “جغرافية السودان الطبيعية” و”مياه النيل” و”الاقتصاد والتجارة” و”تطور المواصلات بالسودان”. بينما شمل الجزء الخامس مقالين عن “التعليم في السودان” بقلم R. T. Winter آر. تي. وينتر، و”بعض المشاكل الطبية” بقلم E.D, Pridie أي . برايدي.


هذه شذرات مما جاء في مقال “كرامة Karama” للإداري الراحل دبليو بوند (سبق نشره في العدد الرابع من المجلد الثاني لمجلة “السودان في رسائل ومدونات SNR”، عام 1919م، صفحات 276 – 284)
1/ يمكن لقراء ما يُرْوَى عن القبائل المتوحشة (غير المتمدنة) أو العادات المتوحشة عادةً أن يشموا أثر الدم عبر الصفحة. ومهما تكن المناسبة التي يتم وصفها، فلا بد من أن يظل القارئ متأكداً أنه قبل نهاية الحكاية، فسيأتي قطعاً ذكر عنزة بائسة (أو أي حيون آخر)، غالباً تحت ظروف يصاب المرء فيها بالغثيان من مجرد سردها. غير أن المرء ما أن يقابل أفراد قبيلة من تلك القبائل، حتى يجدهم عادةً مبتهجين ولطيفين وإنسانيين بدرجة كافية. وكنت قد عرفت من قبل رجلاً من “الأهالي” يدير رأسه بعيداً عن منظر غزال جريح وهو يُقْتَلُ لإراحته من العذاب، ورأيت امرأة من “الأهالي” تذرف الدمع عند مشاهدتها لجمل أُصِيبَ في حادث، ولزم قتله بطلقة نارية (للمقارنة، ورد أن الرئيس الأمريكي ثيودور روزفلت قام في عامي 1900 – 1910م برحلة صيد قصيرة في جنوب السودان ومناطق في شرق أفريقيا قتل فيها 512 من الحيوانات البرية، وعاد لبلاده ومعه حقيبة صيد تحتوي على أكثر من 500 جائزة تذكارية (trophies)، شملت 17 أسداً و11 فيلًا و20 وحيد القرن! https://shorturl.at/dBG34).

لماذا إذن تُخلد أي مناسبة في حياة الأهالي بنثر قطرات من دم حيوان يذبح أمام النظارة.؟ أعلم أن سكان شمال السودان ليسوا بنباتيين؛ فهم مغرمون بأكل اللحوم بصورة منتظمة، إن لم يكن يومياً. وظهرت في المدن الكبرى أعداد كبيرة من الجزارين، الذين يبدو أن الرغبة المتعاظمة عندهم في الربح، والعزوف عن العمل المستقر، توفر لهم المؤهلات اللازمة لمهنتهم. غير أن غالب السكان لا يعيشون في المدن، ويقوم رب الأسرة عندهم بذبح البهائم بنفسه من أجل توفير الطعام لأسرته، وكعقيقة (“سماية” تذبح عادةً بعد أسبوع من ولادة طفل في العائلة)، أو في مناسبات الختان، أو الأعراس، أو وصول ضيف مبجل، وعند حلول المناسبات الدينية المقدسة، أو بناء بيت جديد، أو افتتاح أي مشروع. ولا بد من أن يشهد المناسبة جمع من الجيران، ويُقْسَمُ عليهم جميعا لحم الذبيحة مجاناً. ويُنْظَرُ بارتياب إلى من يذبح بهيمة ليشبع بها نهمه لأكل اللحم بمفرده، ويُوصَفُ بأنه رجل شديد البخل، تماماً كما ينظر في إنجلترا للرجل الإنجليزي الذي يشرب الخمر بمفرده في داره. وفي الواقع فإن احتفالية تناول اللحوم في السودان تتشابه كثيراً مع احتفالية شرب الخمور في إنجلترا.

ولا تزال فكرة بيع اللحم بالسودان (فيما عدا بالمدن الكبيرة) فكرة أجنبية /غريبة عن الكل، باستثاء القلة “الأكثر رقيا”. وكثيرا ما يندهش الكثير من الأوربيين من الرفض الهادئ الذي يبديه العربي عندما يطلبون منه بيع حيوان من قطعانه لأجل ذبحه. وعند الضغط عليه، قد يتصنع العربي لذلك الرفض أسباباً منها قوله: “أنت موظف حكومي، لذا يجب علي أن أخدمك. إن أردت أن تأخذ بهيمة واحدة أو حتى كل قطعاني، فلن أقاومك. أما إذا أردت أن أبيعك بهيمة واحدة لتذبحها، فإجابتي هي الرفض”. وإن قبل المسؤول عرض العربي، فستكون البهيمة بعد دقائق قليلة معلقة على جذع أقرب شجرة، وسرعان ما يتحول لحمها إلى قطع صغيرة. وسيصاب صاحب البهيمة بصدمة عنيفة إن قدم له المسؤول مقابلا مالياً نظير ذلك.
إن ذبح بهيمة هو عملية احتفالية، وينبغي النظر إليها على هذا الأساس، وليس على أنها عملية تبادل أو تجارة. وربما يكون السبب في هذه النظرة هو أن الحيوانات تُعَدُّ مقياساً لثروة المرء (أو هي عُمْلَة هذا العالم). ولا يدرك سوى القليل من الناس في هذا العالم أن المال في حد ذاته ما هو إلا مسألة مقايضة ذات قيمة متقلبة مقابل سلع، ومن منا لن يصاب بالحيرة والاستغراب الشديد إن قال له شخص غريب: “أريد أن أشتري منك 5 جنيهات، ما الذي ستأخذه في مقابلها؟”. في الواقع هذا ما يفعله كل مُعلِن advertiser؛ ونحن نميل إلى الاستياء من إصراره الصارخ، تماماً كما يستاء العربي أحيانا من محاولة فصله عن بهائمه.

قد يُقَالُ بالطبع بأن ممارسة الاحتفال بالذبح هي من الممارسات التي وردت في المحمدية (الإسلام) وأديان أخرى. غير أنه ما من شك في أن الدين – في هذا الأمر وغيره – قام فقط بتنظيم وتقنين عادة سالفة. ويعتقد البعض أن مؤسسي الدين العظماء كانوا يسترشدون جزيئاُ بالتعاطف مع الضحية في توجيههم للناس بأنه إذا كان الحيوان سيُقْتَل من أجل الطعام، فيجب، على الأقل، أن يُقْتَل بأسرع طريقة إنسانية معروفة في ذلك الوقت.
ولا توجد بالسودان (أو على الأقل الأجزاء الشمالية فيه) سوى النادر جداً من الاحتفالات الضخمة المتعلقة بصناعة الألبان أو الذرة، كما هو الحال في الكثير من الدول الأخرى. غير أن ذبح حيوان بالسودان لا يكاد يخلو أبداً من طقوس احتفالية. وربما يعود السبب في ذلك إلى أن “الأهالي” ما زالوا يعيشون في مرحلة الحضارة الرعوية. غير أن هناك فرقاً جوهريا بين اللحم والحبوب (grain). فاستهلاك اللبن أو الذرة هو إنفاق من الدخل، غير أن ذبح حيوان هو بمثابة سحب من رأس المال. فأخذ قبضات من الذرة مما هو مخزون منها لن يؤثر كثيراً على الإمداد، فهناك دوماً موسم حصاد قادم سيزيد من المخزون. غير أنه يصعب تعويض حيوان تم ذبحه بحيوان آخر يماثله تماماً، فلكل حيوان شخصيته المتفردة (هكذا!؟ المترجم).

وهناك ثلاث حقائق أساسية تقوم عليها أصول طقوس الذبح، وهي أن:
أ/ الحيوان الحي غير قابل للتقسيم أو التجزئة (indivisible)؛ فقبل الحصول على قطعة صغيرة من اللحم، لا بد من ذبح الحيوان كله. وهذا يختلف تماماً عن أخذ قبضتين من الذرة مثلاً.
ب/ عادة ما يكون لحم الحيوان المذبوح أكثر مما يمكن للفرد الواحد (أو لأفراد قليلين) استهلاكه.
ج/ يتلف اللحم بسرعة، ولا بد من أن يُسْتَهْلَك فوراً، ولا يمكن تخزينه من دون تغيير كي يُسْتَخْدَم في المستقبل (كُتب هذا المقال بالسودان في عام 1919م أو قبل ذلك بقليل. المترجم).
ويتضح من هذه النقاط الثلاث، أنه يلزم أن يُدْعَى الجيران للمشاركة في تناول لحم الذبيحة، تفادياً لهدر اللحم.
إن ذبح حيوان هو أمر يرغب فيه جميع الجيران؛ والتجمعات الطبيعية للأقرباء والأصدقاء في مناسبات (أفراح) وأزمات حياة الإنسان هي في الواقع مجرد أعذار لذبح حيوان. وتُبْنَى بسهولة سمعة الكرم وحسن الضيافة (التي تحظى بتقدير كبير عند العرب) من خلال أداء فوريّ لواجب الفرد في تقديم اللحوم لجيرانه، بأكثر من الكرم الإيثاري (altruistic generosity) تجاه الغرباء العرضيين. ويبدو أن أي تجمع – خاصة إن كان لمناسبة مفرحة – لن يكتمل من دون أن يُذْبَح فيه حيوان. فمن لحم الذبيحة يُقدم الطعام للضيوف، ويُخلق أيضا – بطريق غير مباشر – مزاج لطيف، بأكثر مما يفعله (بطريقة أسرع وأكثر دراماتيكية، وربما أفضل اقتصادياً) تقديم شراب مسكر….


وهذه مقتطفات من مقال هارولد ماكمايكل (1882 – 1969م) عن أحداث السودان بين 1819 و1899م:
1/ قرر حاكم مصر محمد على باشا في عام 1819م أن يغزو السودان. ولم يكن الأمر عسيراً على جيوشه التي لم تواجه سوى مقاومة ضعيفة من قوات ممالك سودانية كانت قد بدأت في الانحلال بسبب الصراعات الأهلية فيما بينها. وقام ذلك الخديوي بوضع نظام إداري صُمِّمَ بغرض السيطرة التامة على مناطق البلاد الشمالية وجمع الضرائب منها، ثم إرسال حملات سنوية لجنوب البلاد من أجل الحصول على الرقيق والذهب. وبحلول عهد عباس باشا (في حوالي منتصف القرن التاسع عشر)، كان الحكم “التركي – المصري” قد وطد من أركانه في شمال السودان، وإلى نحو 120 ميلا جنوب ملتقى النيلين، الأبيض والأزرق. غير أن سخط وتململ سكان تلك المناطق بدأ في التصاعد. وبحلول عام 1857م ساءت الظروف العامة في السودان بصورة كبيرة لدرجة أن سعيد باشا (الذي خلف عباس باشا عام 1854م) سعى لإجراء سلسلة من الإصلاحات، وزار السودان بنفسه، حيث أعلن من هناك إلغاء تجارة الرقيق وتخفيض الضرائب. غير أن أحوال السودان لم تتحسن في العامين التاليين، بل ازدادت سوءاً، مما اضطر معه التجار الأوربيون لمغادرة البلاد، وباعوا مراكز أعمالهم (محطاتهمstations ) لوكلائهم. وأتجه أولئك الوكلاء بدورهم للجنوب للبدء في توسيع تجارة الرقيق به.

2/ تولى إسماعيل باشا (1830 – 1895م) حكم مصر في عام 1863م، وشرع من فوره في توسيع وتوطيد أركان مملكته. غير أنه كان أيضاً يدرك مدى قوة الرأي العام الأوروبي، الذي كان يطالب باتخاذ خطوات جادة لإيقاف فضيحة تجارة الرقيق (1). ومن أجل تحقيق هدفه الأول أصدر إسماعيل باشا فرماناً ملكياً في 1885م قضى بوضع سواكن ومصوع تحت الإدارة المصرية. وكانت “الجزية” التي فرضهاعلى سواكن ومصوع دفعها لمصر قد زِيدَتْ إلى 37,500 £ سنوياً. ووضع إسماعيل باشا يده على مناطق ساحلية كان يحتلها من قبل الأتراك أو العرب، وخطط لتشييد خط للسكة الحديد يمتد إلى مصوع عبر مديرية بوغوس Bogos الحبشية (الآن في إقليم بيلين بإريتريا https://shorturl.at/fhvzM). وفي أبريل من عام 1869م منح إسماعيل باشا السير البريطاني صمويل بيكر سلطة إدارة منطقة حوض النيل جنوب غوندوكورو، وضمها لملكه وإحداث إصلاحات بها. وأكمل بيكر ما طُلِبَ منه في مايو1871م، وفي العام التالي ضم يونيور (Unyoro) وأعلنها مديرية مصرية. وعمل على إقامة علاقة صداقة مع ملك أوغندا، وبذل ما في وسعه لمنع تجارة الرقيق في المناطق النيلية التي ضمها لملك إسماعيل باشا. وفي 1874م (أي بعد عام من عودة بيكر للقاهرة) عين إسماعيل باشا شارل جورج غوردون حاكماً عاماُ على “المديريات الاستوائية” (وعاصمتها غوندوكورو) والتي تمتد شمالاً حتى كودوك، من أجل تثبيت دعائم حكمه ومواصلة عمليات الاستكشاف والإصلاح بتلك المناطق. وبالفعل، واصل غوردون (ومساعده الإيطالي جيسي) في أداء المهمة التي أُسْنِدَتْ إليه، خاصة فيما يتعلق بمنع تجارة الرقيق.

3/ شهد عام 1874م تطورات مهمة في شرق وغرب السودان. ففي الغرب، أعلن الزبير (أشهر تجار الرقيق في بحر الغزال) عن استقلاله بعد هزيمته لحملة كانت الحكومة قد أرسلتها ضده. وحارب سلطان دارفور، ونال عفواً من السلطات المصرية، التي عينته إثر ذلك حاكماً على بحر الغزال. وشارك في غزو دارفور من جهة الجنوب، بالتزامن مع قوات الحكومة التي دخلت لدارفور من جهة الشرق. ومنحت الحكومة المصرية الزبير لقب باشا بعد أن أعلن أن دارفور قد صارت تحت سيطرة الخديوي. ثم سافر الزبير للقاهرة ليطالب بتعيينه حاكما عاما على دارفور، وترك بها ولده سليمان ليديرها إنابةً عنه.
أما في شرق السودان، فقد فوض إسماعيل باشا رجلا سويسريا اسمه مونزينقر (كان يعمل قنصلاً لبريطانيا العظمى وفرنسا في مصوع) ليحتل كرن، عاصمة مديرية بوغوس (2)، التي اُشْتُرِيَتْ من حاكم خائن لمنطقة Aliet بين حماسيين (Hamasen) ومصوع، وضمها إلى مديرية هرر (Harrrar) بموافقة سكانها. وكرد فعل على ذلك، أرسل الأحباش العقيد كيركمان، الذي كان قد زامل غوردون في الصين، ليقدم احتجاجاً للدول الأوروبية. غير أن ذلك الاحتجاج لم يأت بنتيجة محددة.
4/ في عام 1875م اشترى إسماعيل باشا ميناء زيلع (Zeila) من سلطان تركيا، وحقوقاً اسمية على الساحل حتى بربرة. ثم أرسل قوة تحت قيادة عسكري دنماركي اسمه افندروب إلى جنديGinda ، ومنها إلى عدوة (في شمال إثيوبيا). غير أنه هُزم، وانسحب إلى مصوع. وفي العام التالي عقد غوردون معاهدة مع ملك أوغندا، وأرسل إليه ممثله أمين باشا (في الأصل الألماني شنيتزلر Schnitzler). وفي أكتوبر من ذات العام عاد غوردون إلى بريطانيا، ثم عينه الخديوي حاكما عاما على السودان بأكمله في فبراير من عام 1877م. وواجه غوردون في السودان العديد من المشاكل المتعلقة بإعادة تنظيمه وإصلاحه، ومواجهة تمرد وقع في شرق البلاد، وفي غربها أيضاً. فتوجه أولاً إلى مصوع لإيجاد “تسوية مؤقتة” مع الأحباش، ولم يصب في ذلك نجاحاً يذكر. ثم توجه للخرطوم للعمل على إصلاح الإدارة فيها. وسرعان ما اندلعت بعد وصوله اضطرابات عنيفة في دارفور، وقام سليمان بن الزبير بتمرد هدد الأمن في المنطقة. سارع غوردون بالسفر لدارفور، وأفلح في عقد تسوية مؤقتة، وسعى بجد من أجل إيقاف تجارة الرقيق التي كانت قد انتعشت في تلك المنطقة. ثم قطع كل أراضي السودان عرضاً ليبلغ حدود الحبشة مرةً أخرى، التي كان فيها الصراع بين ولد ميكائيل Walad Mikael، الزعيم الوراثي لبوغو، وبين نجاشي الحبشة Negus قد اندلع مرةً أخرى. وفي تلك الأيام تم الانسحاب من منطقتي Masinidi و Kisimuفي أقصى جنوب السودان.
4/ في أبريل عام 1878م قام غوردون بزيارة سريعة للقاهرة، ومنها إلى مديريات البحر الأحمر وهرر، حيث قام بفصل مديرها المحلي بسبب مخالفات أرتكبها. وفي يوليو من ذلك العام اشتدت حركة تمرد سليمان بن الزبير في بحر الغزال وأفلح جيسي (مساعد غوردون) في استعادة نسبية للأمن والنظام. وفي نهاية ذلك العام أخرج الخديوي منطقتي هرر وزيلع من سلطة غوردون.
5/ وفي مارس 1879م وقعت بعض حالات التمرد في كردفان ودارفور، فعجل غوردون بالذهاب لتلك المناطق لنصرة مساعده الإيطالي الشجاع، ثم آب للخرطوم، وترك لمساعده أمر سليمان الزبير. وبالفعل هاجم جيسي “ديم الزبير” في مايو 1889م، ثم فاجأ سليمان في شهر يوليو وأرداه قتيلاً. ونجح رباح (رفيق سليمان) في الهرب غرباً، وأقام لنفسه مملكةً بالقرب من بحيرة تشاد، إلى أن ألقى الفرنسيون القبض عليه في عام 1901م. وفي يونيو 1879م عزل توفيق باشا والده الخديوي إسماعيل باشا عن الحكم، وحل محله. وفي أغسطس من ذات العام جاء غوردون للقاهرة في زيارة خاطفة للخديوي الجديد، وعرض عليه أن يقوم بزيارة للحبشة من أجل تسوية بعض المواضيع المعلقة مع امبراطورها. وافق الخديوي توفيق على قيام غوردون بتلك المهمة، غير أن الأحباش زعموا (لاحقا) أن تلك الزيارة لم تثمر عن شيء. واُعْتُقِلَ غوردون وهو في طريق عودته للخرطوم عبر القلابات، وأُعِيدَ إلى مصوع في ديسمبر 1879م. وبذا اُخْتُتِمَتْ الفترة الثانية من نشاطات غوردون في السودان.
6/ في مايو من عام 1881م ظهر اسم محمد أحمد (المهدي)، الذي أعلن عن دعوته في أغسطس من ذات العام. وكانت الثورة التي أعقبت ذلك الإعلان نتيجةً لا مناص منها لأحداث وقعت في السنوات السابقة. وعن ذلك كتب لورد دوفرين لأحدهم ما نصه: “مهما كان من صدق أو كذب ما أتى به المهدي من دعاوى، فإنه يستمد قوته الحقيقية مما حاق بسكان البلاد من يأس وبؤس”. وكانت الأحوال في مصر سيئة كذلك، فخزينتها شبه خاوية، وأمورها المالية في غاية الاضطراب، وعجزت حتى عن دفع رواتب أفراد جيشها. وفي عام 1882م كادت ثورة عرابي أن تنجح في السيطرة على الحكم. وتعرضت القوات المصرية بالسودان إلى سلسلة من الهزائم على أيدي أنصار المهدي. واضطرت بريطانيا للتدخل لقمع حركة عرابي، وحُل الجيش المصري بمرسوم صدر في 19 سبتمبر 1882، وأُسند للسير ايفيلين وود تكوين جيش جديد، بقيادة “سردار” بريطاني، وضباط من بريطانيا ومصر. وكان المأمول أن يتكون ذلك الجيش من لواءين فقط، إلا أنه بسبب تزايد خطورة الأوضاع في السودان، تقرر زيادة أعداد جنوده بشباب من مصر، ومن السودان أيضاً.
7/ سقطت مدينة الأبيض في يناير من عام 1883م. وفي النصف الثاني من ذلك العام تمددت حركة التمرد المهدوي، وطوق عثمان دقنة الحاميات المصرية في شرق السودان، بل وأنتصر في عدة معارك خاضها ضدها. وفي نوفمبر 1883م أباد أنصار المهدي جيش الحكومة بقيادة هكس باشا في منطقة جنوب الأبيض. وغدت الحكومة مقتنعة بعد تلك الهزيمة الماحقة بأن عليها أن تجلي حامياتها من السودان، وأن تبقي فقط على سواكن ومصوع وموانئ البحر الأحمر. واُخْتِيرَ غوردون (الذي عُيِّنَ حكمداراً على السودان في فبراير 1884م) ليتولى عملية الإجلاء. وفي ذات الشهر هربت قوات فولانتين بيكر (شقيق صمويل بيكر الأصغر) في مديريات البحر الأحمر بصورة غير منظمة أمام قوة صغيرة من الدراويش (جنود المهدية. المترجم) في التيب. ثم سقطت سنكات، وغدت سواكن أمام خطر داهم. وهنا بدأ الرأي العام البريطاني يبدي قلقه على الأوضاع في سواكن، مما استدعى إرسال حملة لإنقاذها بقيادة الجنرال جراهام. وتجمع في يوم 28 فبراير نحو 4,000 من الجنود البريطانيين في ترينكتات، وخاضوا في اليوم التالي قتالا عنيفاً ضد العدو. ثم تحركت تلك الحملة نحو سواكن وواجهت في يوم 13 مارس قوة من الدراويش في تاماي، وهزمتها. غير أنه لم تكن لتلك الانتصارات إلا آثاراً محلية محدودة. وطرحت فكرة التقدم نحو سنكات ومنها إلى بربر من أجل حفظ الطريق مفتوحاً أمام تراجع محتمل من الخرطوم. غير أن الحكومة رفضت تلك الفكرة في أواخر شهر مارس، بل وسحبت الحكومة جزءاً كبيرا من أفراد حامية سواكن. وبذا انقطعت كل الاتصالات مع الخرطوم. وظلت الحكومة البريطانية بعد ذلك في حالة تردد لفترة 4 أو 5 أشهر دون أن تتخذ أي قرار حاسم.
8/ وفي أبريل 1884م استسلمت القوات المصرية في القضارف وبحر الغزال، بينما بقي أمين باشا صامداً في المناطق الاستوائية. وسقطت في يوم 26 مايو 1884م مدينة بربر في أيدي الدراويش الذين واصلوا في التقدم شمالاً. لذا قامت السلطات الحكومية بزيادة تحصين حلفا وكورسيكو، وأرسلت قوات بريطانية إلى أسوان. وفي مايو من ذات العام تخلت مصر رسمياً عن ساحل الصومال. وما أن حل شهر أغسطس 1884م حتى كانت كل مناطق السودان تقريباً تحت سيطرة الدراويش، فيما عدا الخرطوم. وقررت الحكومة البريطانية أخيراً جداً إرسال حملة لإنقاذ غردون بقيادة لورد ولسيلي. وفي سبتمبر من ذلك العام قُتل العقيد ستيوارت الذي كان غوردون قد بعث به لملاقاة حملة الإنقاذ. وبذا أكتمل حصار الخرطوم من كل الجهات. وفي تلك الأيام كانت بريطانيا قد سيطرت على بربرة وزيلع، ومنحت بوغوس للحبشة، وتم الجلاء عن هرر. وفي الخامس من أكتوبر بلغت حملة لورد ولسيلي وادي حلفا، وفي ديسمبر تقدمت فرق الصحراء والنيل نحو الخرطوم، وأحرزت انتصاراً مهما في “معركة أبو طليح” في 15 يناير 1885م. واصلت حملة الإنقاذ سيرها نحو الخرطوم، غير أنها وصلت متأخرة قليلا. فقد كان أنصار المهدي قد اقتحموا المدينة في 26 يناير 1885م، وقُتل غوردون بطعنة رمح.
عادت القوات البريطانية إلى دنقلا. وأنقذ الحاكم الذي وُلي على مملكة أكسوم شرق الحبشة وإرتيريا (Negus) القوات والسكان المدنيين في القلابات بنقلهم إلى مصوع. وفي تلك الأيام احتل الإيطاليون مصوع، وسُحبت الحاميات المصرية منها، وتراجع أمين باشا إلى ودلاي Wadelai (في شمال أوغندا). وظل الجنود البريطانيون يحاربون عثمان دقنة. وقرر البريطانيون لاحقاً استخدام 13,000 من الجنود من بريطانيا والهند البريطانية ونيو ساوث ويلز في بناء خط حديدي يربط سواكن ببربر. غير أن العمل في ذلك الخط تعثر وأوقف العمل في تشييده (3). وتقرر الانسحاب من دنقلا، والإبقاء على القوة البريطانية في سواكن.
وفي تلك الأيام تُوُفِّي المهدي وتولى الحكم بعده الخليفة عبد الله. وسقطت كسلا في يوليو 1885م. وفي نوفمبر من ذلك العام كان الدراويش قد قرروا طرد كل أجنبي من السودان، ونقل الحرب إلى مصر؛ فهاجموا القوات البريطانية – المصرية في المناطق الحدودية، وكانت تلك القوات تتكون من نحو 1,700 جندي بريطاني و1,500 جندي مصري. وهزمت تلك القوات الدراويش في معركة جينس Ginnis (في يوم 30 ديسمبر 1885م). وتولى رئيس الوزراء المصري نوبار باشا إخطار أمين باشا في جنوب السودان بأن الحكومة قد اضطرت للخروج من السودان، وأن عليه أن يتدبر أمره بنفسه بأعجل ما تيسر. ولم يبق للجيش والسلطة المصرية من وجود بالسودان سوى في حلفا وسواكن.
9/ وعلى الرغم من أن الخليفة كان قد بسط سيطرته على كل مناطق السودان تقريبا، وخطط لغزو مصر، إلا أن حكمه في دارفور واجه عدداً من حالات التمرد (في 1887 و1888 و1889م)، وجابه أيضاً تمرداً من الكبابيش في شمال كردفان لم ينته إلا بموت زعيم القبيلة في أبريل 1887م. وحارب الأحباش في يونيو 1887م الدراويش وهزموهم بالقرب من القلابات. غير أن جيش الدراويش هزموهم بعد نحو شهرين بالقرب من قوندار. وفي يوليو 1888م، ومرة أخرى في فبراير 1889م انتصر الأحباش على الأمير الزاكي طمل في القلابات، غير أن نصرهم تحول إلى هزيمة عند مقتل ملكهم يوحنا الرابع. وحاصر عثمان دقنة سواكن في ديسمبر 1889م، فجأت فرقة صغيرة من الجيش البريطاني بقيادة السير قرينفيل وهزمت قوات المهدية. وفي صيف 1889م أرسل الخليفة جيشا لغزو مصر بقيادة عبد الرحمن النجومي، غير أن الجيش البريطاني صد جيش النجومي في أرقين وهزمه في معركة توشكي. ونشطت القوات المصرية والبريطانية في أعوام 1890 و1891 و1892م في منطقة البحر الأحمر، فاستعادت بعض المناطق مثل طوكر وترنكات والتيب، وطردت منها عثمان دقنة وجنوده. وفي نفس العام ثار النوير والشلك في منطقة أعالي النيل ضد حكم الخليفة عبد الله. وهزمت القوات الإيطالية الدراويش في 1893م في أقوردات (Agordat)، وفي يوليو من العام التالي سيطروا على كسلا. غير أن الإيطاليين أعادوها للجيش المصري بعد عامين ونصف بموجب اتفاقية سابقة كانت قد عقدت عام 1891م. ثم بدأ الجيش الإنجليزي – المصري الزحف نحو السودان، فأعاد احتلال دنقلا، وسيطر على “أبو حمد” في أغسطس 1897م، وعلى بربر في الشهر التالي. وتقدم الجيش – بقيادة السردار كتشنر – نحو أتبرا، وانتصر على جيش المهدية في 8 أبريل 1898م. وتقدم ذلك الجيش (الذي كان يتألف من 8,200 من البريطانيين و17,600 من المصريين والسودانيين) نحو أم درمان، وهزم جيش الخليفة في كرري. وقُتِلَ من الجيش (الغازي) في تلك المعركة 56 رجلاً، وجُرح 434 (قُتِلَ من البريطانيين 27 وجُرح 133؛ وقُتِلَ من المصريين 14 وجُرح 152، والبقية من الجنود السودانيين).
وتم في 19 يناير 1899م تعريف وضع الحكم في السودان باتفاقية “الحكم الثنائي” بين الحكومتين البريطانية والمصرية (أورد الكاتب نص الاتفاقية كاملاً).


إحالات مرجعية:
1/ أَلْغَتْ بريطانيا تجارة الرقيق رسميا في 1806م. غير أن تلك التجارة استمرت في مستعمراتها حتى عام 1838م، بعد أن تم تعويض مُلاَّك الرقيق (وليس الأرقاء أنفسهم https://shorturl.at/qxyAI). وألغيت العبودية في الولايات المتحدة عام 1863م (https://shorturl.at/fjrX8).
2/ للمزيد عن بوغوس (الآن في إقليم بيلين بإرتريا) يمكن النظر في هذين الرابطين https://shorturl.at/cvHIX و https://shorturl.at/fhvzM
3/ اُنْظُرْ المقال المترجم بعنوان:” سكة حديد سواكن – بربر، 1885م” في الرابط: https://shorturl.at/adiEY

alibadreldin@hotmail.com

التعليقات مغلقة.