رحيل مكي علي إدريس سيرةٍ لا تُختصر، وذكرى لا تُنسى

﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾
صدق الله العظيم
بقلوب يعتصرها الحزن، ونفوس تملؤها الأسى، نودع اليوم علمًا من أعلام المنطقة النوبية، ووجهًا من وجوه السودان المضيئة، الأستاذ المربي، والمفكر، والأديب، والشاعر، والفنان صاحب الصوت الشجي، والتشكيلي صاحب الريشة السحرية، مكي علي إدريس، الذي ودّع دنيانا فجأة وبهدوء ، كما عاشها دائمًا، خفيفًا على القلوب، ثقيلًا في الأثر.
زاملت الراحل العزيز في بواكير شبابنا خلال سنوات الدراسة في مدرسة دنقلا الثانوية، فعرفناه نموذجًا في حسن الخلق، ودماثة الطبع، والسماحة، والمعاملة الراقية. كان دوماً حاضرًا بين زملائه بابتسامته التي لا تفارقه، وخفة روحه، ونُكته الذكية، وبديهته الحاضرة ولهذا تميّز بحضور شخصي طاغٍ لا تُخطئه العين، لجمعه بين الموهبة والتواضع، وبين الأدب والفن، شاعرًا ملهمًا، ومغنيًا وعازفًا موهوبًا، ورسّامًا بارعًا، وصاحب نكهة خاصة في مجالس الأنس، وما فتئت تلك الصفات تصاحبه حتى آخر لحظة في حياته، فكان كما عاش: جميلًا في حضوره، نبيلًا في وداعه.
عبر أحد الأصدقاء الذين زاروه في مرضه في مستشفى الشرطة في دنقلا أنه وجده كما عرفه الجميع، مبتسمًا، حاضر البديهة، عميقًا في الحكمة، رقيقًا في المشاعر، عفويًا في الحكاية، صادقًا في الحب، متأملاً في الجمال… وكأنما كان يُودّع الحياة بسكينة من عرف أنه أدى رسالته على أكمل وجه.
رحل مكي دون أن يكون بيننا وبينه، وعدد كبير من أحبابه، لحظة وداع إذ كنا نُمني أنفسنا بلقائه عائدًا بعد العلاج من مرضه سليمًا معافى، ليواصل رسالته التي نذر لها عمره، ولكن كانت مشيئة الله، صاحب الأمانة، أسبق بإرادته فوق كل تمني، فالحمد لله على قضائه، وعلى نعمته في أن أنعم علينا بمكي حيًا بيننا باعماله ، ومثالًا خالدًا يُحتذى بعد رحيله.
إن رحيل الأستاذ مكي علي إدريس، ليس مجرد فقد لأهله وعشيرته في عبري، لكنه فقدٌ للوطن، وللنوبيين في مشارق الأرض ومغاربها. فقد ظل بارًا لقضية شعبه، حمل هموم المنطقة النوبية وكتب للتاريخ، وغنّى للهوية وللقضايا، وشهد للحق بالكلمة والرسم والموقف.
جمع حبيبنا مكي بين أصالة الحرف وعمق المعنى، بين التراث والحداثة، بين نبل الفن وصدق الالتزام، كان شاعرًا يزرع الأمل، و فنانًا يرسم الوجدان، ومعلمًا يبذر اعلم والوعي، وكان موسوعة في اللغة والتراث والتاريخ، يرفد بها المهتمين وطلاب العلم، ودونكم قاموس اللغة النوبية الذي ألّفه بالمشركة مع الأخ الكريم خليل عيسى عليهما الرحمة والرضوان
ولعل من أبرز ما يعكس دوره الكبير وتأثيره في الحياة وحب الناس له ، أن منصات التواصل الاجتماعي ضجت عند وفاته برسائل العزاء والرثاء من كل من عرفوه وتعاملوا معه، وحتى أولئك الذين لم يلتقوه قط، لكنهم تعرفوا عليه من خلال إنتاجه الشعري والأدبي وفنونه المتعددة. ولعل أكبر دليل على ذلك ما عبّر عنه صديقى بن قرية الدوم في دنقلا الشاعر أحمد إدريس عبيدون في صفحته على الفيسبوك حين قال بأسى صادق:
“تمنيت كثيرًا لو أنني التقيت الفنان الشاعر النوبي الشامل مكي علي إدريس، فلم يخلُ في جسدي جزء من مكي إلا العين، ولكن أراد الله أن يرحل قبل أن أراه… ولم ترحل ذكراه.” وعكس قوله شعراً وهو يقول:
“إن لم تكن عيني رأتك فإنني
بعيون شعرك يا أديب أراكا”
“حتى الذي ما كان يومًا سامعًا
سمع المعاني عند وقع خطاكا”
وكانت تلك هي حقيقة مكي: صوت من لا صوت له،صدى الأرض في زمن التيه، ورمز الإبداع النبيل في زمن السقوط.
وهكذا كان مكي أكبر من الحدود الجغرافية، وأقرب إلى كل من تعرّف على فنه وفكره وروحه، حتى لو لم يلتقيه.
طالت مدة إغترابه ، لكنه ظل مرتبطاً بالأهل ملتصقاً بالجذور، عطرًا في المجالس، ضوءًا في المنتديات، ورمزًا لكل ما هو أصيل ونبيل. إننا إذ نرثيه اليوم لا نرثي جسدًا واراه التراب، بل نرثي جيلًا كاملًا من العطاء والصدق، والتميّز ونكران الذات.
لقد اجتمعت الألسن على رثائه وذكر مآثره ومناقبه فكانت ألسن الخلق أقلام الحق، تنطق بما شهدت به حياته من أثر باقٍ في النفوس، وسيرة حفرت حضورها في القلوب، ذلك أنه لم يكن شخصاً عابراً، بل كان من الذين يعملون ليتركون خلفهم أثراً طيباً يرويه الناس بلا تكلف، ويذكرونه بمحبة لا تزول، وعطاء لا يُنسى.
إننا نلتقى اليوم في حضرة غياب مكى لنقف أمام سيرةٍ لا تُختصر، وذكرى لا تُنسى ، ذكرى رجل عاش، خفيفًا على القلوب، عميقًا في الأثر، صامتًا في الرحيل كما كان صافيًا في عطائه وهي صفات وملامح قلما تتوفر في شخصٍ واحد وكان مكى من هؤلاء النوادر بإنسانيته و خلقه وعطائه المتعدد الواسع وحضوره البهي.
واليوم ونحن ننعى حبيبنا مكي نقول له في مرقده نم هانئاً فإن أسرتك وأصدقاءك ومحبيك حريصون على الحفاظ اعلى ما تركته من آثار وعلوم طيبة والعمل على استلهامها في مدارسنا ومناهجنا ومنابرنا ومهرجاناتنا، فأنت باقٍ ما بقينا وما دامت المنطقة النوبية تنبض بالحياة ، وما دام فينا من يذكر، ومن يوفِّي، ومن يحفظ الجميل.
وختاماً لا نملك إلا أن نتضرع إلى الله، أن يجزيك عن أمتك ووطنك وأهلك خير الجزاء، وأن يتقبلك في عباده الصالحين.
ونختم بكلماتٍ من وحي مشاعرنا ومما تركته من أثر فينا، شعرًا يليق برجلٍ من طين الأرض وماء النيل، من شعر صديقنا عبيدون وهو يقول:
مكي بمجدك قد عَمَرت محافلا
و اليوم نَعمرُ بالأسى ذِكراكا
كيف البكاء وأنت في أفراحنا
عطّرت دنيانا بنفح شذاكا
نم هانئًا في مستقر دائمٍ
فالله يحسن عنده مثواكا
يا رب فارقنا الحبيب مسافرًا
كي يلتقيك مطالبًا برضاكا
بوّئه يا رباه عندك جنةً
ما للجنان بمالكٍ إلاكا
فالرب أنت، إليك كل أمورنا
أنت الرحيم ولا رحيم سواكا
نسال الله له الرحمه والمغفرة وإنا لله وإنا إليه راجعون.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المستشار البشرى عبد الحميد
المملكة العربية السعودية – الرياض
الجمعة 11/7/2025م