مكى على إدريس..إنقطع خيط حيوى فى الهوية النوبية

مكى على إدريس..إنقطع خيط حيوى فى الهوية النوبية
  • 11 يوليو 2025
  • لا توجد تعليقات

محمد عثمان يوسف وردي

‎إن موت شاعر ومغنى وباحث في ثقافة تواجه التهميش وتقاوم محاولات الاستيعاب والفناء، خسارة كارثية، وضربة موجعة لتلك الثقافة وإضعاف لمعنويات أهلها.فهو أشبه بصاروخ توماهوك يدك أرشيفا حيا ويدمره تدميرا. لم يكن مكى على إدريس مجرد مغنى, بقدر ما كان وعاء للذاكرة الجماعية واللغة والهوية. عبرت أعماله عن روح الثقافة النوبية ونسجت بصدق قصة النوبيين وقيمهم وصمودهم فى أحلك فترة فى تاريخهم الممتد لآلاف السنين.وبفضله علاوة على مساهمات آخرين تمكن النوبيون من الإبقاء على جذورهم الثقافية حية.ولا نبالغ إذا قلنا إن شعره وصوته وتدافعه شكلت مجتمعة ترياقا ضد محاولات تدجين الثقافة النوبية، لقد أشعلت أعماله شرارات تحد وكانت “فايتمينا” رفع معنويات الشعب النوبى وضاعف قدرته على المقاومة .
‎عندما ترى مكى وهو يشدو بأغنية ( كجبار ) أمام الحشود الكبيرة ويندمج معه الشباب، فان أول شىء يقوله المرء هو أن الثقافة التى
‎يحملها أهلها فى قلوبهم لا تقهر.وأن الهام الناس بالمقاومة هو الذى منع قيام سد كجبار وأجبر العدو على إعادة حساباته فى خاتم المطاف.وأكثر الناس لا يعلمون أن مكى سن فى حقبة التسعينات تقليدا أدبيا جديدا ،عندما شيد راكوبة فى بيته فى الكلاكلة جمعت الأجيال النوبية ، وكانت مركزا جامعا للمثاقفة والتوثيق والشعر والغناء، وتسجيل التقاليد الشفهية والتاريخ والأساطير ومتابعة أخبار المقاومة، كان مكينا ينقل للناس المعرفة الثقافية،وكان يبذر بذور ” تغيير “، ويلهم الأجيال ويحفّزها للحفاظ على تراثها. وكان يهدف أيضا لضمان استمرارية التعبئة والمقاومة.
‎لم يكن مكى مجرد فنان فى سياق ثقافة يتكالب عليها العدو، يحيى الحفلات الروتينية جريا وراء العداد، او شاعرا يقول الشعر فى المناسبات،ثم يمضى لحياة بلا معنى ، بل كان أسطى كبير ( عارف شغله) ويدرك أن دوره فى الحياة هو تعزيز قدرة الشعب النوبى على المقاومة والصمود وحفظ هويته.
‎انخرط مكى فى حركة المقاومة التى تتجاوز حدود الغناء للشوق والريد وسفر المحبوبة ،وترنو نحو التغيير من جهة وشد أزر الهوية الجماعية من جهة أخرى.مستخدما مواهبه فى الشعر والغناء والرسم. والحق أن هذا الرجل المتفرد جمع مواهبه كلها وسلمها بأريحية لاهله سلاحًا فى يدهم ضد القمع ومحاولات الإغراق والتشريد وطمس الهوية.
‎واليوم، انقطع خيط حيوى فى الهوية النوبية.
‎وتوقف شريان رئيسى غذى المخزون الثقافي النوبى،بلا كلل حتى شبع وإرتوى…لقد فقدنا رمزا ثقافيا كبيرا وصوتا متفردا جسد بالشعر والموسيقى كفاح النوبيين للخلاص من الظلم والمعاناة والأوجاع التى تطبق عليهم،وعبر عن أمالهم فى تحقيق تطلعاتهم الثقافية والسياسية.
‎منذ انطلاق مسيرته الفنية التى حقق عبرها منجزه الإبداعى المتميز ،ظل الفنان والباحث الكبير مكى على إدريس مشغولا بالبحث فى الماضى من أجل ربطه بالحاضر والمستقبل ، وقد نجح فى ذلك لأنه إنسان متأمل ، والتامل محفز للإبداع كما يقولون ، وهكذا أصبح مكى نبض النوبة ومرجعها فى اللغة والفلكلور والتراث الشعبى ، بصورة جعلت منه الفنان المثقف الذى لا يتوانى عن تأكيد الهوية النوبية فى كل أعماله سواء النابعة من الواقع أو المستوحاة من التراث الغنائي . وأظن أن هذه المسحة الماضوية هى التى كثفت عنده وعى المقاومة والرفض والتمرد . فقد بدأ إبداعه كما نعلم بأغنيات ذات نزعة اجتماعية تنحو نحو العدالة وإعلاء كرامة الإنسان مثل رائعته ( ايسب و هيلة ) التي كانت المنصة التي انطلقت منها الدعوة لإعادة تشكيل الأغنية النوبية الحديثة .
‎ولدى البعض ، ارتبطت الحالة الفنية لمكي بمقاومة السدود بعدما قدم أيقونته ( كجبار ) والتى كانت وسيلة حشد وتعبئة تحولية شديدة التأثير ،ربما لتماهيه مع الشعور الجمعي بمخاطر السدود وبالتالي تكثيف كل ( القوة ) وتوجيهها لمعركة إفشال مخططات السدود ، وينبغى أن لا ينسى الناس براعته فى الرسم التي تخلق نفس الحالة إذ يكفى أن تجول ببصرك فى لوحاته لتجد الجابودي خارجا منها والطمبور معانقا شمبال الحسان،وشبان كالزهور فى كدنتكار يرفعون قمصانهم المضمخة بالدماء الطاهرة.
‎إن اجتماع كل هذه المواهب لديه هى التى قادت مكي لتأسيس مشروعه المتكامل الذى يتعدى مجرد الغناء النمطي مبكرا ويتجه للاشتباك مع حلو الحياة ومرها ،وأن يمنح الغناء النوبي تفاصيل أكثر ثورية فقد برزت فكرة المقاومة الحماسية السافرة التي تستبطنها نصوصه الأولى ضد عسف (القورتي ) أي الحاكم فى بواكير تجربته ، بمعنى أنها كانت إيذانا بمقاومة كل أشكال التهميش والاضطهاد وجور الحكام على المستوى المحلّي، والانتقال بها نحو مقاومة شىء أكبر متمثلا في الحكم القومي العنصري والمتآمر المعادى للشعب.
‎تميز مكى بخصوبة المخيال الشعري وبصدق انتمائه النوبي وإلمامه بالتراث والفلكلور النوبي، علاوة على ثراء اللغة النوبية عنده، ولا ننس تميزه عن كل المبدعين النوبيين بانتماء أسرته لدنقلا والمحس السكوت .
‎والشاهد أن الراحلة العظيمة سعاد إبراهيم أحمد سألتنا ذات يوم لدينا برنامج لمقاومة كجبار و المنشور وتنقصنا الأغنية لتقوية شعار ( الرفض المطلق ) فماذا نفعل ؟ . وفى ذلك الوقت كان الناس يتهمون الفنانين بالتقاعس،والذى حدث أننا كنا مجموعة ،نتسامر وجرى الحديث عن جدلية المقاومة والابداع،وكان بيننا العزيز الراحل محمد أحمد رزق رحمه الله،والذى كان يتميز بالصراحة الحادة ،فقال لمكي وهو يحثه إن العملاق محمد وردي لم يصنع لنفسه المجد إلا بعد اتجاهه للغناء الوطني، وكان رد مكي أنه يعكف على عمل جديد ..ولم تمض سوى أيام قليلة على مفاجأته ( التاريخية ) متمثلة بأغنية كجبار التى كانت سلاحا مؤثرا فى معركة الشعب النوبي ومعبرة عن معاناته ورفضه لمؤامرة السد..ودلفت إلى مكتبي ذات صباح لأجد رسالة من سعاد تطلب مني الحضور، وفى بيتها وجدت سعاد أكثر تحفزا وهى تحكي فى فيض من الحماس والتحدي : كنت قاعدة فى أمانة الله، ودخل على عبد الحكيم نصر مساء أمس ، وهو يلوح بشريط، قائلا وجدتها وجدتها، لقد فعلها مكي!! وقالت سعاد لم أنام ليلتي بفعل الأغنية التى تشعل العزيمة الراسخة، وتحرك الأمل المُتقد!!.
بالفعل كانت الأغنية عبارة عن شلال فى قوتها حيث امتزج فيها الوجع والقمع مع صرخات الشرفاء .. وكانت مثل نداء النباه الذي يوقظ الناس للصلاة ، ولم يتباطأ الناس ولم يتكاسلوا حبا فى مزيد من النوم بل أدوا الصلاة حاضرة !!
‎كانت أغنية كجبار بمثابة رصاصة فى صدر الكوز الغاشم وأزلامه فى المنطقة .
‎لقد فطن الكيزان إلى خطورة هذه الأغنية وكونها وحدها كفيلة بتحريك الجماهير فجعلت مكى عرضة للرقابة والمضايقات والملاحقات الأمنية والمنع من دخول منطقة كجبار ،مثلما حدث له عندما قاد رحلة فرقة نوباتيا إلى المنطقة،وصار مكي يقاوم السدود من جهة ويقاوم محاولات إسكات صوته من جهة أخرى، وفى الحالتين منح مكي صوتا للظلم .
‎ثم أن كجبار، ملحمة فيها كثير من الجرأة فى مواجهة الذات وشحذ الهمم،وهى تجربة فذة وملهمة ، ولواحد مثلى يعشق أشعار أمير شعراء النوبة الدكتور مصطفى عبد القادر ،والتى تجسد مشاعر أهلنا في النوبة السفلى بعد مأساة تهجيرهم،أجد معادلة مكى ( القبلية ) مكملة لها ، ولا شك عندي أن أشعار الإثنين هى التى ستروي للقادمين فى المستقبل حقيقة ماجرى للنوبيين فى القرنين العشرين والواحد وعشرين !!
‎لقد جسدت ملحمة كجبار الألم والصمود وحفزت الناس على الاستبسال فى المقاومة ومكنت حتى العناصر المستكينة على الأوبة للصراط المستقيم واستعادة الفاعلية.
‎بعد مرور أكثر من ربع قرن على أغنية كجبار تجدني الى اليوم لا أعرف كيف استطاع مكى أن يوصل رسالته الى الشعب بتلك السرعة ، كيف حول تلك الأغنية التى تقول للنوبيين ببساطة حتى عند النوم أغمضوا عينا وافتحوا الأخرى ،الى منشور سياسى يبدا وينهى به النوبيون أعراسهم . كيف تسنى له أن يرى الدم الذى سال للركب يوم مذبحة كجبار قبل عشرة سنوات من حدوثه؟!، هل هى رؤية الشاعر التى جعلته يلحق أغنية كجبار بأخرى تمجد ( البلال ) أى عريس الحمى الذى يزفه كل الناس ؟. كانت كجبار صرخة من أجل كرامة النوبيين، لا مجرد رد فعل على مشروع سد تم التخطيط له بليل،وكانت هبة ،ربما تكون الأقوى منذ الثورة ضد الأتراك بقيادة ” بخيت” فى كوكا ،وفى كلتا الحالتين كان الاحتجاج موجها ضد نظام استعمارى عنصرى بغيض ومنزوع الإنسانية، ونحن لا نعرف ماهى الأدوات التى استغلها ” بخيت ” فى التعبئة الشعبية،لكن نعرف كيف تم توظيف أغان مكى فى التعبئة الكجبارية بنجاح.
‎كان مكى نبض النوبة ، لم يهدأ ولم يستكين ،بث طاقة التفاؤل على الدوام ،وقدم إبداعا فى مجمله دافع ومحفز لناسنا لاستلهام معانى الكفاح والتشبث بالأرض والهوية،وهو الباحث الحاذق الجامع للتجليات النوبية،و هوالحادى الذى غذى الوعى الشعبى وحوله لأداة نضالية.
‎إن قوة حضور مكى فى الوجدان النوبى ، رغم أنه من جيل السبعينات واستمرار تاثيره الى اليوم،مجسدا ليس أحلام جيله وحده بل الأجيال اللاحقة سببه المشروع الذى ذكرناه .
‎و سيذكر التاريخ لمكى ريادته إذ بفضله استطاعت الأغنية النوبية أن تستوعب الى جانب الحب العاطفى الغناء المحرض !!
‎شكرا لمكى لأنه بصدقه وبساطته وتواضعه أعطى القوة لكلماته وألحانه ، وشكرا له لأنه قدم كجبار حيث أصبح للغناء بعدها طعم خاص.
‎كان مكى يؤمن بضرورة التركيز على جعل الثقافة النوبية حية ومتكيفة مع العصر دون أن تفقد جوهرها،وكان يدرك بأن الحفاظ على الثقافة النوبية لا يمكن القيام به بدون مشاركة المجتمعات المحلية على طول بلاد النوبة وعرضها،ثم رأيناه فى مقاطع فيديو تصوره مبتهجا وسط القواعد فى أوبته الأخيرة،وكان الرجاء أن يمد الله فى عمره لنرى نسخة جديدة من كفاحه عبر العمل مع الأجيال الشابة على الأرض لقهر خيبة الأمل واليأس والإحباط التى تحاصرهم أولا،وللبحث عن طرق للنهوض يستعيدون من خلالها هيمنتهم على ثقافتهم، قبل تتويج جهودهم لمواجهة محاولات تقويض تطلعات الشعب النوبى العظيم.
‎لقد كان النوبى فى حلمه الكبير ، وهو خارج أرضه يعمل على قضاء وقت ما لتحسين حياة أسرته من الاغتراب ، ثم يعود فى أخريات أيامه ليدفن فى أرضه،التزاما بتقاليد الأجداد ،ورغم أن الأزمان فرضت تحدياتها على مجتمع النوبة فى الداخل والخارج ،لكن يبقى التخلى عن عادة الدفن فى الأرض النوبية إحدى المؤشرات الجديدة التى قضمت من هذا التراث العريق فى علاقة النوبى بأرضه.
‎عزاؤنا ، أن مكى دحض موضوع ابتعاد النوبى عن مرقده الأخير ،ليوارى جثمانه فى ثرى عبرى .. وياله من إمتياز !!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*