الخميس - 3 ذو القعدة 1446 هـ , 01 مايو 2025 م

إعلان نتيجة الشهادة السودانية للدفعة المؤجلة بنسبة نجاح 69% وإسراء حيدر تحرز المركز الأول

الإمام الصادق المهدي.. رمز الإنسانية وبلسم الأمة

الإمام الصادق المهدي.. رمز الإنسانية وبلسم الأمة
مساعد النويري


ولد السيد الصادق المهدي لا كما يولد الناس، بل كما تولد الفكرة حين تنبت من رحم المعاناة، أو كما يولد الغيث في موسم الجدب، يحمل الخير بين طياته وإن تأخرت بشائره. نشأ في بيت كانت فيه السياسة صلاة، والقيادة عبادة، والمجد ميراثًا لا يُشترى ولا يُورث عبثًا . في كنف الإمام الصديق، الوالد والمعلم، تشرّب الصادق الحكمة قبل الحروف، وتعلم أن الزعامة ليست تاجًا من ذهب، بل عرقٌ يسيل، وصبرٌ يطول، وضمير لا ينام. وقد قيل في السودان “الضُكر بيقيف قدّام النار”، فكان الصادق من أهل الوقوف لا من أهل القعود، ومن أهل الفعل لا من أهل …

أرسل إلى ديار الإنجليز صغيرًا، فعاد كبيرًا، لا بطول القامة، ولكن بطول الهمة، وعرض الفكر، وعمق الرؤية. جمع بين الدواوين والمصاحف، بين القلم والسيف، وبين النحو والمنطق، فصار لسانه عربيًّا ببيانه، عالميًّا بأفقه، سودانيًّا بوجدانه. حفظ الشعر العربي كما يُحفظ النشيد الوطني، واستشهد بأبي الطيب والمتنبي في خطبه كما يستشهد الفقيه بالقرآن، وكان إذا تحدث أسر القلوب، وإذا كتب قيّد العقول، وإذا ناظر خصمًا أفحمه بلا إسفاف، وأقنعه بلا استعلاء. ولأنه نشأ على سُنة “وقولوا للناس حُسنى”، فقد جعل من الكلمة جسرًا، لا جدارً…

كان إنسانًا قبل أن يكون إمامًا، وكان قريبًا من الفقراء كما هو قريب من العلماء، يركب الحصان في الفلوات، ويجلس على الحصير في القرى، ويسقي الحضور من كأس المعرفة، وكأس التواضع معًا. لم يُغرِه بريق المنصب، ولا صخب الجموع، وكان يردد: “ما طَاح من السما اتكسر”، لأنه يعلم أن السقوط الحقيقي ليس من فوق، بل من داخل، حين يسقط المرء عن قيمه.

في ساحات السياسة، كان فارسًا لا يطعن في الظهر، يخاصم بالفكرة لا بالفتنة، ويُعارض كمن يحمل مصباحًا لا حجرًا. سُئل مرة: “كيف تصبر على ظلم الخصوم؟”، فأجاب بما يشبه الحكمة: “من كان الله ناصره، فالصبرُ له نصرٌ آخر”.

وحين اشتد الظلام في ليالي القهر، كان الإمام يرفع صوته لا ليصرخ، بل ليُوقظ، يذكّر، ويستنهض، وكان لسان حاله يقول: “إذا الشعب يومًا أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر”. لم يكن مجرد ناقل للشعر، بل كان ناثرًا للمعنى في أرض الواقع.

أما حين يكتب، فتكتب معه البلاغة، ويُسافر بك بيانه من خيمة في كردفان إلى قاعة في أكسفورد، ومن مقولة الفكي “الكتاحة بتتكور في السماء”، إلى خطاب في الأمم المتحدة. يجمع بين عمق الطرح وجمال العرض، بين المعلقات والمواقف، بين ذاكرة الوطن، ومرآة الضمير.

قال مرة: “الوطن ما بتكورك في سرك، الوطن بتصارحو في وشو”، وكان بتلك الصراحة شيخًا في السياسة، وصوفيًا في اللغة، ومقاتلًا في المبدأ، فلا غرو أن خلّفه الناس حزينين كمن فقدوا قبسًا من نور، وعقلًا منيرًا في زمن التيه.

وقد كان في شمائله من الإنسانية ما يلين له الحديد، ويخضرّ له اليباس، ويطمئن له الخائف ويأنس به الغريب. كان كريمًا في عواطفه، صافيًا في طويته، حلوَ المعشر، يعرف للناس أقدارهم، ويعطي لكل ذي حق حقه، لا تطغى عليه الألقاب، ولا تستغرقه الهالات. من جلس إليه أحسّ أنه معه وحده، يُصغي إليه بقلبه لا بأذنه، ويبادله الشعور دون مَنٍّ أو استعلاء. وإذا سلّم، سلّم سلام مودعٍ لا عابر، وإذا عاتب، عاتب بلسان ناصح لا ساخط، وإذا ضحك، ضحك حتى تبتسم القلوب من حوله.

وكان إذا التقى بعامة الناس، التقاهم كما يلتقي الأخ بإخوته، لا يتصنّع وقارًا، ولا يتجمّل هيبة، بل كان كما يقول المثل السوداني “القِدر الما بتغلي ما بِتِطبُخ”، يُشعل فيهم نار الأمل، ويوقظ فيهم همّة الحياة. يجالس الفلاح، وينصت للشيخ، ويضحك مع الرعاة، ويستشهد بمثل “أكان داير تتعلم الدرب، أمشي مع القُدّام”، وكان هو “القدّام” في كل خير.

أما في المجتمع، فقد كان خيطًا يربط أطراف الوطن بخيوط العاطفة، يسعى للإصلاح إذا افترق الناس، ويبارك إذا اصطلحوا، يجبر الخاطر، ويطيب الخاطر، وينثر في الناس طِيب المعنى وعبق المعشر. وكان أهل القرى يقولون: “الصادق زولنا”، لا لأنهم من حزبه، بل لأنه من وجدانهم. حمل السودان كله في قلبه، بقبائله ولهجاته وتضاريسه، حتى صار كأنه يُترجم حلم البلد في إنسان.

وكانت رؤيته للمرأة لا تقف عند حدود المجاملة، بل كانت نابعة من إيمان راسخ بدور المرأة بشكل كامل، ويُعتبر في ذلك وقتها من القليلين الذين منحوا النساء المكانة التي تستحقها في مجال السياسة والفكر.

أما ثقافته، فكانت نهرًا لا ينضب، تنهل منه الأجيال دون أن ينقص، وتُستضاء به العقول دون أن يبهت. عرف التراث كما يُعرف النسب، وفَقه اللغة كما يُفهم الوحي، وقرأ التاريخ كما تُقرأ القصيدة. كانت مكتبته مرآة لذوقه، فيها من كتب الفقه كما فيها دواوين الشعر، ومن مؤلفات الغرب كما من مخطوطات الصوفية. كتب عن الحرية كما كتب عن التصوف، عن حقوق الإنسان كما كتب عن مقاصد الشريعة، وعن الوطن كما كتب عن الوجدان. وكان إذا تحدث في مجلس علم، حسبته من علماء الأزهر، وإذا تحدث في منتدى ثقافي، خِلته من نقّاد بغداد، وإذا ألقى قصيدة،…

ومن خصاله التي يُشهد لها، أنه لم يحتكر الفهم، بل دعا للحوار لا للغلبة، وللتعدد لا للتبديع، وكان قوله دائمًا: “نحن ما بنجر الناس جَرّ، بنقنعم بالراي السمح”، ولذا كثر محاوروه، وقلّ مُعادوه، لأنه اختار أن يكون ميزانًا لا سيفًا.

ولأن “الزين إن كتروا ناسو قلّ قدره، إلا الصادق”، فقد بقي الإمام رغم تكاثر الزعماء، وتعدد الخُطب، رمزًا لا يُنافس، وقيمة لا تُقاس، وسيرة لا تُنسى. ومن يُنكر ذلك، فليسأل القرى التي ودّعته بالبكاء، والبيوت التي رفعت آيات القرآن حين رحل، والأفئدة التي ما زالت تُردد: “الله يرضى على الصادق، كان زول مُرضي”.

وهكذا مضى الإمام كما تمضي النُجباء، لا يُشيّعهم النسيان، بل تحرسهم الذاكرة، وتوشّحهم الدعوات، وتغني لهم القصائد في صمت الأرواح. لم يكن مجرد صفحة في كتاب التاريخ، بل كان الكتاب كله حين يتجسّد في رجل. فإن سُئل الزمان: مَن الصادق؟ قال: من صدق الوعد، وأوفى بالعهد، ووزن الكلمة قبل أن ينطقها كما يُوزن الذهب في ميزان الحذر. وإن سُئلت الأوطان: ما فقدتِ؟ قالت: فَقَدتُ حُلمًا يُفكّر بصوتٍ عال، وقلبًا يُحبّ بصمتٍ عميق.

يقول المثل السوداني: “الضُكر البدخل بين الجماعة بيطيب الجراح”، وقد كان الإمام ذلك البلسم حين تحتدم الخصومات، وكان الحكيم الذي إن نطق، صمت اللغو، وإن بادر، تبعته الخُطى. لا عجب أن قال عنه البعض يومًا: “الصادق رجلٌ وُلد وفيه ملامح من فجرٍ لم يُشرق بعد”، وكانهم راو فيه نبوءة لم تُكتمل، وعلم يضيء الطريق.

وقد صدق القائل: “يموت العظماء موتًا صغيرًا في أجسادهم، كبيرًا في آثارهم”، فها هو الصادق، قد غاب الجسد وبقي الأثر، وارتحل الصوت وبقي الصدى، وسُجِّيَ في لُحده كما يُسجى العلم في ذاكرة الزمن. قيل في رثائه ما لم يُقَل في سواه، وبكته العيون التي لم تراه، والقلوب التي لم تلقَه، لأنه كان كما قال أحد الشعراء السودانيين: “ضو القمرة البيوِّريك دربك… ما بتنساه لو طُمّوه السحاب.”

وفي الختام، لا نملك إلا أن نُردّد مع أهل السودان قولهم إذا مات العالِم، أو رحل الراسخ: “السُّترة من بعدك يا مولانا”، ثم نسأل الله أن يجعل مداد علمه صدقة، وصبره شهادة، وكلمته نبراسًا لمن يُريد أن يقول الحق لا ليُرضي الناس، بل ليرضي ضميره. فقد عاش الإمام صادقًا مع اسمه، مُحسنًا في صِلاته، جميلًا في سيرته، عذبًا في لسانه، عظيمًا في خُلُقه، ولا غرابة، فالصادق… إذا صَدَق، لا يُنسى.

لا توجد تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

حجز اسمكم المستعار سيحفظ لكم شخصيتكم الاعتبارية ويمنع الآخرين من انتحاله في التعليقات
دخول سجل اسمك المستعار
حجز اسمكم المستعار سيحفظ لكم شخصيتكم الاعتبارية ويمنع الآخرين من انتحاله في التعليقات
التعليق كزائر سجل اسمك المستعار نسيت كلمة المرور
حجز اسمكم المستعار سيحفظ لكم شخصيتكم الاعتبارية ويمنع الآخرين من انتحاله في التعليقات
التعليق كزائر سجل اسمك المستعار نسيت كلمة المرور