في ودَاع مَكِّي علِي إدْرِيس

كتب الكاتبون وانهمرت شلالات من حروف تنعي مكي علي إدريس، الهرم الذي رحل في صمت وهو الأحق بكل الضجيج. كتبوا فما تركوا بقية من حبر لمن بعدهم، واستعصت علينا الحروف، فالفقد أكبر من مفردات الكتابة. لكن في الكتابة، بعض نحيب وفي النحيب عزاء. برحيل مكي لا يفقد بستان الإنسانية واحدة من أشهق نخلاته طولاً، بل يفقد حقلاً بأكمله.
أن تكون شاعراً فأنت مبدع، أن تكون ملحناً فهذه موهبة، أن تكون مؤدياً وصاحب صوت شجي فهذا أيضاً أمر جيد، أن تكون رسّاماً تنساب الألوان من أناملك بسهولة فهذا هو الجمال، أن تكون مؤلفاً وغوّاصاً في أعماق التاريخ باحثاً ومنقباً فهذا يجعلك من صنّاع المعرفة، أن تكون مصادماً في الدفاع عن التراب، مقاوماً للطغاة وجبروتهم فأنت ثائر أصيل، وأن تكون ملهماً للآخرين فأنت إمام الثائرين. أن تكون كل هذه الأشياء وغيرها فليس إلا -مكي علي إدريس- أكبر أهرامات المشروع الثقافي النوبي.
صنع ‘مكِّينا’ مشروعه المدهش متوكئاً على حامِليْن. براعة فائقة في الإمساك بخيوط مجموعة متنوعة من المواهب والقدرة على الإبداع في توازٍ في كل أنواع الفنون، وبذات الجودة، والحامل الثاني هو محبة الناس، المحبة التي تشع من كل المسكوب على الوسائط في الأيام السابقة.
تلك المحبة التي يعلمها كل من عبر بمدارات ‘مكينا’. في واقع الأمر أن المفردة ‘مكينا’ شائعة الاستخدام وسط النوبيين، بسبب هذه المحبة تحديداً، فالوعي الجمعي أنبت المفردة لينتسب لمكي، والمرء لا يسعى للانتساب إلا لمن يحب. قرب مكي من الناس جعل منه مِلْكاً ينتمي له الجميع.
من الكتب الشهيرة والمعروفة في الإرث العالمي كتاب اللامنتمي (The Outsider) لصاحبه كولون ويلسون. يستعرض الكتاب سير بعض العظماء المعروفين في الفلسفة والفنون، ويتناول الكاتب المشتركات في تلك السير محاولاً الوصول لفكرة صاحب الإسهامات الكبرى في التاريخ البشري، المتميز اللامنتمي للاعتيادي وتعريفه، ليصل لما معناه أن اللامنتمي هو المبدع الثائر، الذي يمتلك وعياً حاداً ومرتفعاً وعادة ما يرى أبعد وأعمق من الآخرين وهو باحث دائم عن الحقيقة. فهل من شك أن مكي علي إدريس وباستحقاق كامل من تلك الفئة شديدة الندرة؟ الفئة المهمومة بالإبداع والمعرفة على اتِّساعها بلا حدود وبلا انكفاء على جانب واحد من العطاء. مثال حديث لذلك، انشغاله مؤخراً مع فريق من الباحثين بتضمين اللغة النوبية في منصات الذكاء الاصطناعي.
مكي علي إدريس مبدع بدرجة لا منتمي وصاحب إنجازات عظمى ستظل ترفد نهر الثقافة والتراث النوبي بالكثير ولأزمنة قادمة. سقى الرحمن مرقده بسحائب من رحمة ونور وسلام.