ناوِي – ناوه – ناوا

ناوِي – ناوه – ناوا
  • 21 أبريل 2024
  • لا توجد تعليقات

سيدأحمد الحردلو

أستأذن اليوم أولئك الذين – تواضعا منهم وكرما – يتابعون هذه السلسلة من الذكريات والمذكرات، ويتصلون ويتواصلون معي تعليقا وترحيبا بها ، أستأذنهم لأعود بهم إلى البدايات الأولى لنشأتى وطفولتى فى مسقط رأسي ناوا ، والتى هي من أعمال مركز دنقلا (ودنقلا تعني ’’الشمس المشرقة‘‘) بالنوبية القديمة، كما حدثنى ذات مرة المؤرخ الكبير جعفر ميرغنى ، والذى ما زلت أتمنى أن ينشر ما كان يتفضل به فى الإذاعة عن تاريخ السودان القديم، فى مجلدات توثق لذلك التاريخ العظيم والذى يجهله كثيرون من أهل السودان قبل غيرهم من شعوب الأرض ! .

  • فنحن – كما ظللت أعيد وأكرر وأعيد – نثرا وشعرا – سادة الحضارة الأولى فى الدنيا ، وإن كان هناك من بعض الأشقاء من يحاول طمس أو إخفاء هذه الحقيقة حتى فى كتب تاريخهم ومناهج تعليمهم، ناسين أو متناسين أن الحقائق بتاريخها ما تزال مطمورة فى باطن أرض السودان الشاسعة .. الواسعة والمهومة كالخيال والأحلام الجميلة ! .
  • ويكفى أن معرضنا الأثرى والذى كان يتجول منذ سنوات فى أوروبا وأمريكا والذى أثار ضجة تاريخية وأثرية ضخمة وفخمة فى تلك الأنحاء من أن تاريخ الحضارة فى السودان قد بدأ قبل أكثر من مائتى ألف سنة ! هذا المعرض الكنز والثروة القومية – لست أدرى أين هو الآن !؟ هل ما يزال يتجول منذ أعوام فى العالم ، أم سرقه سارقو آثار العراق وقبلها آثار مصر ، بل هنا فى شمال السودان حيث حدثنى إبن أخى المهندس عماد محمد الحردلو ، أحد مسئولى مطار مروى الجديد (أن طائرات كانت تهبط فى ذلك المطار القديم ينزل منها خواجات يطوفون ’’بلا عين تراقبهم‘‘ حول تنقاسي ومروي ونوري والبركل ، ثم يحملون حقائبهم المدججة بما لذ وطاب من آثار ثم يغادرون إلى حيث جاءوا ، وإلى حيث لايعرف أحد!) وأسأل الآن وبالصوت العالي (أين ذلك المعرض الكنز والثروة القومية، الذى ظل يتجول منذ سنوات، هل عاد للسودان سالما كاملا مكملا .. أم أنه سقط فى بحر الظلمات..!!؟) .
    -2-
  • إننى أبدأ بالحديث عن ناوا قبل أكثر من نصف قرن ، كما شاهدتها وعشتها ، فقد كان اسمها جزيرة شرق ناوا ، وكان النيل ينشطر شطرين ، أحدهما هو النيل الحالي، الذي ينساب غرب ناوا شمالا ، والآخر كان يدلف من دنقلا العجوز والغدار بسهل يمتد من هناك متجها شمالا شرق حوض لتى الممتد من الغدار إلى ناوا ثم غرب قرية ود عباد الحالية، حيث قبب شيوخنا وأولياء الله الصالحين ، وقبور ناوا ، ثم يواصل ويتواصل النهر شرق أحياء ناوا شمالا حتى يصل الأتر (أتر النبيَ) (الذى سيجئ الحديث إليه لاحقا) ثم يدلف إلى تمر العرب ثم ينحني غربا فيصب فى النيل الكبير ، كان ذلك قبل مائتين وخمسين إلى ثلاثمائة سنة، ثم نضب أو اختفى ، ربما بفعل الطبيعة وتحولات النيل ! .
    -3-
  • كان تاريخيا اسمها (ناوي) بكسر الواو والياء المعرجة ، لكننى وأنا فى المدرسة الوسطى لم تكن تعجبني هذه الكسرة ، فصرت أكتبها (ناوه) بالهاء ، وحين بدأت أكتب الشعر خاصة فى الوسطى والثانوي حولت (الهاء) (ألفا) فأصبحت (ناوا) فصار أهل ناوا يكتبونها بالألف ، ثم انتقل ذلك إلى مدارسها ومغتربيها ودواوين الحكومة ، وأجهزة الإعلام وعموم السودان !.
  • كان يشغلني في طفولتي ويزعجني إلى درجة الهوس ما يشاع عن ناوا من أنها بلد (السحاحير!) أي أكلة لحوم البشر ، كان كبارنا يحذروننا من الخروج بعد المغرب من بيوتنا ، لأن (دارة) السحارة تعشق أكل الأطفال ، وكانت دارة عليها رضوان الله ، امرأة فى خمسينياتها ، فى حالها ، لاتؤذى ولا تضر أحدا ، كانت تسكن لوحدها فى بيت صغير بعيد عن بيوت الآخرين وقريب من النيل بين ساقيتي عمي علي خالد وساقية ود محمود ، صحيح أنه كان هناك سحرة يسحرون بالعين ، وآخرون بالتشبيهات ، ولكنهم كانوا قلة ورحلوا .
  • ذهبت طالبات مدرسة ناوا الأولية إلى مروي للإمتحان للمدرسة الوسطى ، وكانت فيهن شقيقتي آسيا ، ولكن طالبات المدارس من دنقلا إلى مروي رفضن البقاء فى داخلية واحدة معهن خشية أن تأكلهن بنات ناوا ، فأخذ مدير المدرسة طالبات ناوا إلى بيت مظلم لاضوء فيه ، ولا رتينة ولا حتى فانوس ، وكانت معهن مديرة مدرستهن ، وكن لا ينمن الليل من الخوف ، بمن فيهن المديرة ، قضين عدة أيام هكذا ، وهن فى خوف وهلع ، وجاء الامتحان ولم تنجح واحدة فيهن ! .
  • وهكذا وجدت نفسى وأنا فى الثانوى أطرق باب الإذاعة وبعض أبواب الصحف ، لأتحدث وأكتب عن فرية وإشاعة سحاحير ناوا ، بل إن أحد الشعراء كتب – وهو ليس من ناوا يقول لحبيبته :
    (الله من خلانى سحار
    من سحاحير ناوى الكبار
    كت الفك لف السجار
    وكت أقطع بيكي البحار) .
    -4-
  • كنت أقول للناس وأحكي لهم قصة ألفتها دفاعا عن ناوا من أن فرعون مصر استعان بسحرة من ناوا ، فى محاولة يائسة ليتحدى بهم نبيَ الله موسى عليه السلام ، إذ كنت أقرأ وأعرف أن ملوك الممالك القديمة كانوا يستعينون بالسحرة ضد أعدائهم ، لكن فريتب تلك – ولدهشتي – طلعت صحيحة ، وحمدت الله ألفا على ذلك .
  • كنت أزور مكتبة فى تونس فى ثمانينات القرن الماضى ، وكنت أبحث عن بعض الكتب ، فالتقيت مصحفا جميلا وضخما على مكتب صاحب المكتبة ، وجلست أقلب فيه فقد راقتنى أناقته وحروفه الكبيرة ، وشروحه الوافيه المستفيضة ، فقرأت ما يكاد يقول الآتي : (كانت بلاد النوبة القديمة مشهورة بكثرة السحرة فيها ، فأرسل فرعون مصر إلى ملك النوبة يطلب إليه إرسال عدد من أمهر السحرة لديه ، وبالفعل فإن ملك النوبة أرسل إليه عدد من أحذق السحرة من بلدة نوبية تدعى ’’ناوي‘‘ ! وقد استعان بهم الفرعون ضد سيدنا موسى ، فألقى بعضهم بعصيهم فإذا هي حيات تسعى ، ثم ألقى سيدنا موسى بعصاه ، فإذا بها حية ضخمة تبتلع حيات السحرة النوبيين ، والذين أعلنوا اسلامهم وانضموا إلى سيدنا موسى! ، (لاحظ معي أن ’’ناوا‘‘ مكتوبة ’’ناوي‘‘ بكسر الواو والياء المعرجة!) .
  • قلت للشيخ صاحب المكتبة (أريد نسخة من هذا المصحف) لكنه صدمني بقوله : (إنها النسخة الوحيدة ، وهي ليست للبيع ، لأنها هدية من صديق مغربي عزيز عليَ ، والهدية لاتباع ولاتشترى!) سألته (هل هناك امكانية لتتصل به ليرسل نسخة أخرى!) قال (نعم . ولكن لماذا لاتشتري مصحفا آخرا؟) قلت (إنني أريد هذا المصحف بالذات) فرد بأنني سأتصل به ليرسله ، فهل أنت مقيم فى تونس ؟) فقلت : (بلى ، ولكن الوقت قد أزف للمغادرة!) وأضطررت لمغادرة تونس قبل أن يصله رد من صاحبه !
  • ثم أروي حكاية أخرى عن أسم ناوا التاريخي ، كنت أزور الملحق العسكرى السعودي قبل سنوات عشر فى ملحقيته العسكرية بشارع 35 بالعمارات العميد فيصل المشهور بـ(أبوترك) وهو شخص أحب السودان وبادله السودان حبا ، فوجدت خارطة للسودان أمريكية على شاشة الكمبيوتر أمامه ، فقلت له (هات ناوا) فسألني (أين تقع؟) فقلت (بين مروى ودنقلا) وجاء بها ، وكانت أسماء جميع مدن وقرى السودان ومجارى السيول وقيزان الرمل والنخيل والغابات والنيل والأنهار ، من حلفا إلى نمولي مكتوبة باللغة الانجليزية ، طلبت منه أن يكبر خارطة ناوا والنيل والجزر التى أمامها ، وأول ما لاحظت أن ناوا مكتوبة هكذا (NAWI) أي (ناوي) بالكسرة والياء المعرجة ، وأمامها جزر (أرت رما) أي الأرض السوداء ، وبسلان ، وأريته مكان بيتنا فى ناوا ، ثم قلت له (هات خارطة أركويت) فجاء بها ، وأريته مكان بيتى فى أركويت ، وطلبت منه أن يقيس المسافة بينهما فقال (350 كيلو متر) ثم طلبت منه أن يقيس المسافة بين بيتنا فى تنقاسي السوق وبيتب فى اركويت فقال (أيضا 350 كيلو متر) والغريب أن المسافة بين ناوا وتنقاسي لاتزيد عن المائة كيلو متر بسبب منحنى النيل ! .
    إن سافرت من ناوا شرقا عبر الصحراء ، فتلقاك الكرو ، وتعبر النيل إلى تنقاسي ! .
  • ترى .. هل أخطأت حين غيرت اسم ناوا من (ناوي إلى ناوا !؟) إن كان كذلك فليغفر الله لي وبعده أهل ناوا والتاريخ ! .
  • ترى .. لماذا يورد الأمريكان فى خرائطهم كل هذه التفاصيل الصغيرة والدقيقة ، مثل مجاري السيول مثلا .. والجزر الصغيرة مثلا .. وقيزان الرمل مثلا … !؟ .
  • لماذا يعرفون عنا كل شئ .. ونحن لانعرف عنهم قليل شئ !! .
  • لابدَ أنك ستجد الإجابة عند الغافلين منَا … وما أكثرنا !!؟ .

الخرطوم 4 يوليو 2007م

سيدأحمد الحردلو
ناوا
ناوا حديقة كرنفال
ناوا
جمال … لايقال
عمرى يباح
للحظة قمرية
عند التلال
تنداح آفاق الندى
والطيب
يهمرها وصال
قلبي هناك تركته
طفلا
يغازله الجمال
يعدو وراء حمامة
ويلوب
فى نفضات شال
فى الطنضبات
مغلغلا
خلف الشياه .. بلا كلال
فى ريش دوبيت
سبوح ..
فوق كثبان الرمال
قلبى هناك معلق
فى نخلة …
عند الزوال
فى ضفة النيل
الكريمة
كان يحلو المجال
لما أدور
مع السواقي
قافزا فوق الحبال
وأطير خلف فراشة
وأعوق فستان (أمتثال)
أهدابها..
كانت كلون الحقل
خضراء الظلال
لما تخاصمنى
أموت من الآسى
حتى الوصال
كم طرزت أوقاتنا
بطفولة المرح
الحلال
الله يرحم عهدنا
الذخار …
بالذكر الطوال
ناوا
شراييني .. حقول هواك
صفراء الغلال
قمرية سرحت هنا ..
فارتج فكرى ..
ألف بال
فى حوض (لتى)
كم ركضنا ..
كم عشقنا ذات خال
الله ..
يا أهدابها …
فى الخد .. كم ألقت ظلال
وعلى جواد ..
من جريدات
طوال
كنت أزهو
مثلما يزهو ..
أبوزيد الهلال
وخرافنا
بيض وسود
كانسراحات الخيال
حينا تفر …
ولحظة …
تتفيأ العطر .. ظلال
فى الحقل
كم غافلت فلاحا
لألثم برتقال
كم مرة
بالنجم
عبأت السلال
وارتاع بدر أبيض
فهوى على صدرى
وسال
وستأثر الغرب
الصبيغة
ترمي نبع اخضلال
الله
كم غمست انفاسي
بأنداء الشمال
والشرق
يفتح بابه متثائبا …
والضوء مال
وغناء مئذنة
يشق الصمت
يغرقه ابتهال
ناوا …
بلاد الطيب … الأخضر
فى باب الشمال
أنا ساجد
فى راحتيك
أشم أخبار الجمال
علمت قلبي
أن يغني
أن يكون …
وأن ينال
أخبرتني أمجاد أرضي
كيف أمتشق النضال
يا أرض ميلادي
غرامي …
فوق تخمين الخيال.

سيدأحمد الحردلو .

وادى سيدنا الثانوية
1957
من كتابات الدبلوماسي والشاعر الراحل سيدأحمد الحردلو
له الرحمة أن شاءالله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*