قراءة تحليلية لإسقاطات الهزيمة بإنتلجنسيا المنفى

ذكرى الاستقلال بين ثقافة الهزيمة وفرضية الانتصار

ذكرى الاستقلال بين ثقافة الهزيمة  وفرضية الانتصار
  • 09 يناير 2018
  • لا توجد تعليقات

محمد المصطفى موسى

تيار الهزيمة بإنتلجنسيا المنافي.. تعبير يمكن أن يُعمم ليحتوي بين دفتيه أشتات متباينة من سودانيي الضيم الذين أجبرهم نير نظام الإنقاذ وعسفه على الهجرة الجماعية من أرض الوطن، واختيار الأصقاع البعيدة كملاذ آمن أو أوطان بديلة ولو إلى حين. بيد أن من ينشد تعريفاً أكثر دقة لتلك المجموعات لن ينكر امتداداتها المحلية العميقة في سودان اليوم عطفاً على تسّيد وسائل التواصل الاجتماعي لمسرح الأحداث ومقدرتها الخارقة على غزو قناعات الناس ودك حصونها ببأسها الذي لا يُرد.

وقد نزعم بصدق أن بروز الإنترنت كوسيلة اتصالات أساسية في أواخر التسعينيات أسهم إسهاماً فعالاً في تشكيل ملامح الوعي المعرفي لتلك المجموعات. تلك الملامح التي تشكلت بعد المرور بمراحل مخاض كثيرة.. تلاقحت فيها رؤى وأفكار متعددة نمت في تربة خصبة من الإحباط حتى صارت ذات الأفكار موروثاً فكرياً وثقافياً تتوارثه الأجيال المتعاقبة لذلك التيار النخبوي على مستوى الداخل، ومن قبل ذلك على مستوى المنفى الذي تعاقبت دورات المشتتين فيه تماهياً مع ما أضحى يُعرف اصطلاحاً في ادبيات علم الاجتماع الحديث باسم ال Diaspora.

وغني عن القول إن ذكرى الاستقلال صارت عند جل تلك الانتلجنسيا مدعاة للانتحاب بحرقة على حائط التاريخ.. ومهرجانات للتباري في إظهار الحسرة والندم على خروج المستعمر البريطاني الذي استعجل السودانيون وتجنوا على أنفسهم حينما أرادوا ان يجعلوا لهم وطناً بين الأمم. ثم تتعالى الأصوات هنا وهناك بحماسة مفعمة بالهوس عن عدالة المستعمر وسماحته التي حملته على أن يشيد صروحاً ومؤسسات عملاقة كجامعة الخرطوم ومشروع الجزيرة، و لن تنتهي تلك القائمة الطويلة ما لم تشمل الترماج وضباط الصحة الذين اتى بهم المفتش برمبل، وقد يعرج البعض للحديث عن الفندق الكبير وشارع النيل الذي سيتحسر كثيرون على شجر اللبخ الذي أتى به الانجليز من الهند ليزين ويظلل جنباته.. بينما اعتدت عليه الحكومات الوطنية بجورها فأعملت فيه الفأس، كما أعملته في ذلك الوطن الممزق الأشلاء فمزقه إربا! هكذا تندفع مشاعر متباينة يتم استدرارها من مكامنها استدراراً سنوياً منظماً على وقع لحن خافت موغل في الحزن يعُزف مع مطلع كل عام بسلمه الموسيقي الذي يلامس شغاف القلوب، كما الناي الباكي الذي ليس لمثله سطوة.

حسناً .. لعل ٢٩ سنة من استمرار نظام الإنقاذ جاثماً على صدور السودانيين قد ولدت تلك الحالة الوجدانية السالبة لدي البعض من انتلجنسيا المنافي، التي تعبر في مجملها عن روح انكسار معنوي قاتل تولد نتيجة سنوات طوال من الترقب والانتظار لزوال ذلك الكابوس الذي ألم بالوطن في فجر ٣٠ يونيو ١٩٨٩م، وهي حالة نفسية يمكن تفهم طبيعة الظروف التاريخية والموضوعية التي أسهمت في التأسيس لها والتصالح مع دوافعها .. ولكن بالمقابل الموضوعي يظل استمرار تلك الحالة مناقضاً لإعمال العقل والفكر كوسيلة للتحليل المادي لحقائق الأشياء بعيداً من القراءة الوردية لوقائع التاريخ.

لعل كثيراً من هؤلاء لا يذكر ان المستعمر الإنجليزي لم يكن بذلك المستوى الحالم من العدالة التي يتوهمونها.. بدءاً من دوافعه حينما تقدمت جيوشه لاحتلال السودان في ١٨٩٨م، فقد كانت صحف التايمز تكتب باستمرار عن ضرورة الانتقام لغردون وستيوارت وهكس .. فكيف يأتيك بعدالة من كان دافعه الانتقام؟ ثم يتناسون أن كتشنر قائد جيش الاستعمار نفسه قد جابهه الإنجليز اهل العدالة المزعومة بتهم الإبادة الجماعية للسودانيين حينما لقبه اللورد ريتشار ريدموند في مداولات مجلس العموم البريطاني بجزار أمدرمان Butcher of Omdurman.. كما تحدث المراسل الحربي في معركة كرري ورئيس بريطانيا لاحقاً ونستون تشرتشل عن تلك الاحداث في كتابه “حرب النهر” قائلاً: “لقد تلطخ انتصارنا على السودانيين في أم درمان بعار المذابح اللانسانية التي ارتكبها جنودنا في أسراهم”، تلك المذابح التي علق عليها كتشنر بلا مبالاة وتستهين ايما استهانة بإنسانية الانسان حين قال: “!What a waste of ammunition” . كل ذلك حمل كثيرين على الجهر بحقيقة التكلفة الإنسانية الباهظة التي دفعها الشعب البريطاني نظير الانتقام لغردون، والتي فاقت في مجملها بحسب مداولات مجلس العموم البريطاني آنذاك ال ٣٥٠ألف نفس بشرية سودانية.. وهو رقم يقارب ذلك الرقم الذي أزهقه نظام الإنقاذ من أرواح السودانيين في دارفور المنكوبة اليوم!

إن الذاكرة الجماعية للسودانيين تضج بمخزون قصصي متوارث حافل بانتهاكات بالغة لحقوق إنسان السودان يندى لها جبين الإنسانية قام بها البريطانيون في السودان، فكان الإعدام والتصفية الجسدية مصير كل من سولت له نفسه تقمص حالة من الحرية بعيداً من حكمهم.. فقامت السلطات الاستعمارية بإخضاع السودانيين بقوة السلاح قمعاً لأي أنفاس تتردد في الصدور.. فكانت مجزرة الشكابة في ١٨٩٩م التي أشعلتها قوات المستر سميث مفتش سنار البريطاني وجنوده. تلك الإبادة الجماعية التي شهدت رمي الضحايا بالرصاص وإثقال جثثهم بالحجارة، ومن ثم إغراقها بالنيل الأزرق حتى لا يعثر لهم على قبر. مجزرة مروعة جُرح فيها طفل كان في الثانية عشر من عمره فنزف كتفه حتى شارف على الموت فحملته والدته -وهو يرى مصرع إخوته أمامه- إلى الجند البريطانيين مطالبة إياهم بان يلحقوه بإخوته في النهر الذي قُذفت به جثامينهم .. وقبع طفلٌ آخر بتسمرٍ عاجز يرقب “سميث “وهو يدفع بجثة ابيه الخليفة محمد شريف إلى النيل الأزرق بعدما سمعه يردد، و هو موثوق بالحبال مع رجاله واتباعه قبل أن يخترق صدورهم رصاص الإنجليز.. سمعهم يرددون في ثبات ” إنا للموت صابرون.. إنا للموت صابرون”. تلك المجزرة التي أخرجت من رحم أهوالها رائد الصحافة السودانية الأستاذ حسين شريف بعدما أخطأه رصاص البريطانيين على غير عمد بمثل ما أخطأ خاله السيد عبدالرحمن المهدي الذي نجا-كما سبق الوصف- بأعجوبة من رصاصهم بعد أن تزين كتفه الأيمن بندبات جرح غائر. وبلغ الفتيان مبالغ الرجال وصدعا بشعار السودان للسودانيين قبل ما يقارب الثلاثين عاماً من تحقق الاستقلال.. فلما قضي حسين شريف دون أن يبلغ نهاية العقد الثالث من عمره بعد.. مشى السيد عبدالرحمن على جمر المطاردة والتضييق الذي نثره الإنجليز تحت قدميه فناور، وراوغ المستعمر، وأشهر في وجهه درع التقية وقلبه مطمئنٌ بالإيمان.. فحقن دماء من معه، وبذل ماله وجهده، وما تزحزح عن شعار “السودان للسودانيين” قيد أنملة.. وكان مع خصومه كما قال عنه الراحل يحيى الفضلي: “كالشجرة التي نرميها بالحجارة.. وترمينا هي بالثمر”.. حتى انتصب علم التحرير على السارية بساعدي الزعيم الأزهري والمحجوب.. وعندها انتحب بدمع النصر وهو الذي “لم يكن قبل اليوم ينتحبُ”.. كما وصفه المحجوب.. ولكن انتلجنسيا الهزيمة التي لا تود سوى أَن تذرف الدمع السخين على المُستَرِق الذي لا حياة للإرقاء بعد ذهابه.. سوف لن تستنكف عن الانغماس في ثقافة تبخيس عطاء الرجال حتى ولو لم يكلفها ذلك سوى كبسة زر في عالم الأسافير بأصابع ليس من ورائها سوى القليل من أنصاف الحقائق.. والكثير من المغالطات المنهجية الموغلة في العمق والسذاجة معاً!

وعندما تحدثك الانتلجنسيا المنهزمة عن فضائل الانجليز، فإنها ستغض الطرف بالضرورة عن الآلة الحربية الانجليزية التي سعت إلى إخماد اي صوت يتعارض مع استتباب أمر السودان لهم.. فكان إعدام ود حبوبة ورفاقه في قرية مصطفي بالحلاويين قبل انتصاف عام ١٩٠٨م، وأعقب ذلك إعدام محمد السيد حامد ورفاقه في ثورة سنجة ١٩١٩م.. وأبيد الآلاف من أهلنا في جبال النوبة وأُعدم السلطان عجبنا في العقد الاول من القرن العشرين.. وبطش الإنجليز بعلي الميراوي والمئات من اتباعه في جبال النوبة أيضاً فأعدموه رمياً بالرصاص كما أرسلوا جيوشهم لإخضاع السلطان علي دينار فأبادوا الآلاف معه إلى أن قتلوه.. ولم يُبْقُوا لنا من إرثه العظيم سوى القليل من الأساطير الساذجة كتلك التي تتحدث عن أطفاله الذين يغتالهم بيد ” الفندك” بكل صباح.. فتلقفت ذلك أفواه الإنتلجنسيا التي تتحرق شوقاً لثقافة الهزيمة وما يمكن أن يغذيها من أساطير؛ لتملأ بها الأمكنة، وتشغل بها الناس دون أن تذكر شيئاً عن تعقب الإنجليز للفور، ومن حالفهم من القبائل قتلاً وتنكيلاً حتى أصبحوا بلا سلطة في تلك الدار المسماة باسمهم .. ولكن كل ذلك لن يكون كافياً لزحزحة الانتلجنسيا عن اعتقادها الراسخ الذي يصل إلى مرتبة الإيمان العقائدي العميق بعدالة المستعمر المقترنة برقة قلبه ومبدئية قضيته وليس مبدئية قضية الذين تصدوا له!

ثمة مفارقات كثيرة ستسعى إنتلجنسيا الهزيمة إلى تجاوزها بعينين مغمضتين، ومن بينها حقيقة مفادها أن السلطة الاستعمارية كانت الأسرع إلى قمع أي عمل قام به منسوبو المؤسسات التي تم انشاؤها حتى تخدم أغراضهم، فثورة اللواء الأبيض في عام ١٩٢٤م لم تكن في حقيقتها إلا نتاج تحالف عريض قام به سودانيون وطنيون يَرَوْن للسودان مصيراً مشتركاً مع مصر، ومهما اختلف تقييم بعضنا لتلك الأهداف فلن يجترئ عاقل على تجريدهم من وطنيتهم وقفتهم الباسلة ضد القوى الاستعمارية الانجليزية تحديداً. فخرج هؤلاء من ذات المؤسسات المار ذكرها وفيهم ثريات متلألأة تعامت عنهم أعين الانتلجنسيا الموغلة في تجاهل الرجال واستسهال عطائهم من أجل الوطن ونذكر من هؤلاء: الشهيد عبدالفضيل ألماظ، واليوزباشي الباسل علي عبداللطيف من المؤسسة العسكرية، والأميرلاي عبدالله خليل، واليوزباشي محمد المهدي الخليفة عبدالله، جنباً إلى جنب مع عبيد حاج الأمين وخليل فرح.
تلك الملحمة التي قُتل من قُتِل ونُفي من نُفي حتى حسب البعض أن في بعض هؤلاء مس من جنة.. ولكن البعض لا ينفك عن أن يحدثنا عن سيرة الإنجليز الذي عدلوا فأمنوا فناموا، كأنما تلك الاحداث جرت في بلد اخر غير الذي نعرفه!

ولم يكن جنوح القوى الوطنية للعمل المدني من خلال مؤتمر الخريجين بمنأى عن سخط السلطات الاستعمارية، ولم تكن زنازينهم خالية من المعتقلين السياسيين كما يتوهم بعضنا.. وقد خبر تلك الزنازين وعرفها الزعيم إسماعيل الأزهري والأستاذ محمد أحمد المحجوب والأميرالاي عبدالله خليل، والدكتور أحمد السيد حمد، وغيرهم من الرجال الذين لن يذكر نضالهم أحد من انتلجنسيا الهزيمة اليوم، ولن يقولوا كلمة إنصاف واحدة في حق الأزهري الذي مضى لربه عفيفاً بعدما شاد بيته بدينٍ آجل ما زالت بعض وثائقه باقية لتشهد على نظافة كف الرجل. لن يذكر ذلك أحد، بل عوضاً عن ذلك قد يتناقل بعض منهم في سطحية مثيرة للتندر أن استقلال السودان لم يأت به نضال القوي السياسية الوطنية، وإنما كان نتاجاً لثورة الشباب الانجليزي في لندن، الذي أرغم حكومته على منح السودان استقلاله! أو لأن الاستقلال أتى كعطية مزين من البريطانيين الذين قرروا أن يخرجوا من كل مستعمراتهم بحلول منتصف الخمسينيات.. وقد يتجاهل ذلك العبقري الذي يأتيك بتلك الأعاجيب حقيقة أن بريطانيا ظلت موجودة في بلد مثل زيمبابوي مثلاً إلى بداية الثمانينيات من القرن السابق.. أو في بلد آخر يقبع في أقاصي أسيا، مثل: بروناي حتى ما يقارب منتصف الثمانينيّات.. تلك الحقائق المزلزلة ما زال التيار الانهزامي يتصفحها في كل يوم بعقل غائب مشوش يتناسب تماماً مع التركيبة الذهنية التي تؤمن بنُبل الإنسان الأبيض ودوافعه الانسانية التي تسوق لماضيه الاستعماري الناصع.. وهي ذات التركيبة الذهنية التي تسُدل ستاراً كثيفاً على نضالات القوى الوطنية التي تقاطعت جهودها واتفقت نحو الاستقلال! ومجدداً نسأل هنا: هل هي غيبة الوعي تلك التي تدفع بعضنا للخنوع والتسليم بهذه الأفكار أولاً، ومن ثم “دق الطار” لها بحماسة “المداح”.. أو إن شئت أن تكون أكثر دقة فلتقل “بشتارتهم” أحياناً؟

ولكن حالة غيبة الوعي عندما تتقمص النخب تجعلهم كمجموعة من الأفراد الذين تم تنويمهم مغناطيساً، وتترك في وجدانهم جرحاً من الانهزام النفسي لا يبرأ ولا يندمل أبداً.. فتراهم يتوكأون على عصا بالية لغزو رحاب التاريخ حتى تعم تلك النظرة الظلامية لحقائق الأشياء تشكيكاً في كل حقيقة لا تقبل الجدال.. وفي سبيل ذلك سيخبرنا كثيرون عن أن أي معلومة تشير إلى أن السلطان علي دينار كان يكسو الكعبة بكل عام ما هي إلا واحدة من أحابيل السودانيين الذين يجيدون تزوير الحقائق لصالحهم، وفي الشأن ذاته قد ينبري لك أحدهم بحماسة عجيبة لتأكيد أن آبار “علي” حول المدينة المنورة قد سميت تيمناً بعلي بن ابي طالب رضي الله عنه، وليس لها صلة بعلي دينار – الذي حفرها في حقيقة الأمر بماله لسقيا الحجيج والمعتمرين- ثم لا يفوته أن يؤكد في نهاية نسخته من الرواية على أن سمة السودانيين الأساسية هي أنهم قوم يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا..!

ولعل الكسل المعرفي هو السمة الأبرز لتلك الانتلجنسيا التي تتناقل المعلومات من دون تحقق، وبالأخص تلك المعلومات التي تقلل من إرث وموروث شعبهم.. فقد يفاجئك أحدهم في حبورٍ بالغ عن أن كل الدلائل تشير إلى أن ود حبوبة لم يكن ثائراً، ولا بطلاً مقاوماً للاستعمار، بل على الأرجح أنه كان على خلاف مع أخيه في نزاع حول قطعة أرض تافهة الثمن، ولذلك قام “بعمليته الانتحارية” تلك.. يتحدث إليك بلهجة الواثق من صحة مصادره حتى ولو لم يسمع بأن سلاطين المفتش العام لحكومة الاستعمار الإنجليزي قد ذُعر حينما علم بأنه يمكن أن يفلت أحد رفاق ود حبوبة من الإعدام فهدد بالاستقالة اذا لم يعدموا أجمعين.. وهو لا يدرك أن ونجت – مسؤول المخابرات البريطانية وحاكم عام السودان فيما بعد – قد عَنْوَن تقريره عن الثورة ذاتها بأنها كانت أكبر تحدٍ واجهته السلطة الاستعمارية في السودان.. ولكن انتلجنسيا الهزيمة سيُقعدها ذهنها الجماعي عن إدراك كل ما سبق بفعل القراءة المضطربة لوقائع التاريخ وما سيترتب عليها من تخرّصات وأوهام ليس لها نهاية.

ووصلاً لكل ذلك مع بعضه بعضاً.. وفى سبيل الترويج لثقافة الهزيمة وعذابات جلد الذات التي تُشجي تلك الانتلجنسيا بما يتوافق مع ميل طبعي لما سبق قد ينبعث -في أحيان عدة- من بنيات اجتماعية وقبلية مثُقلة بمرارات الماضي.. فإن حملة لواء الهزيمة لن يتأخروا عن الانتصار بخواطرهم المُعلنة بكل ما فيها من تبخيس وعدوانية نحو موروثات شعبية تنضح بإرث المقاومة الوطنية، وما صحبها من التاريخ الوطني والقبائلي المشترك والمتقدم بحسابات زمانه ومكانه على غرار الثورة المهدية.. وذلك من خلال الرفض النفسي العميق لكل الانتصارات التي حققتها على المستويين الشعبي والوطني، ذلك الرفض الذي يُقر “ضمناً” المتسلط المحتل على تسلطه، ويتواطأ معه بهوسٍ محموم بحثاً عن تحقيق الشرعنة لما قام به بأثر رجعي؛ بما يُسهل عملية إلباسه ثوب الأنسنة والطهرانية، ومن بعد ذلك إلباس المقاوم بزنده الفتي ثوب الدروشة والهوس الذي يؤطر لعملية انهيار الاعتبار للذات، ويجعل منها سيدة المشهد بكل مكان.

ومع حلول كل ذكرى جديدة للاستقلال تتسابق ذات الانتلجنسيا لإبداء الإعجاب بطريقة إدارة البريطانيين للبلاد ومؤسساتها، ومنها بالأخص مشروع الجزيرة – وأعتقد انهم محقون فيما ذهبوا إليه فقد كانت طريقة عبقرية بحق – ولكن لن يخطر علي بال احدهم أن المستفيد الأول من المشروع كان الاستعمار البريطاني – قبل ان يكون أهل السودان-، فقد رفد قطن الجزيرة بريطانيا مع غيره من مشروعات الأقطان بإمبراطوريتها، رفدها بالذهب الأبيض، وهذا ما أسهم في الإبقاء على عجلة إنتاج صناعة النسيج بلانكشاير وغيرها من مدن بريطانيا، وحال الإنتلجنسيا فيما ذهبت إليه، يشابه قصة الفلاح الذي كان يفلح بساتين القيصر في روسيا القيصرية مقابل جوال قمح في كل ٣ أشهر فلما قامت الثورة البلشفية، وعرضوا عليه الذهب كأجر له قال لا أريد أكثر من جوال قمح واحد فذلك هو ما أستحقه وما تعودت أن أستحقه.. أما الذهب فتستحقونه أنتم يا ساداتي!

ثم تنتقل المجموعات ذاتها “بكربلائياتها” فتسكب الدمع السخين على خطوط السكة الحديد التي ربطت بما يشبه المعجزة شمال السودان بجنوبه.. ولكن لن يذكر أحدهم أن ذات السكة حديد ذاتها كانت لاستعمال البريطانيين وحدهم – وخصوصاً فيما يعني الشمال والجنوب – و لم تكن لتنقل أهل شمال السودان إلى جنوبه أو العكس بحرية؛ لأن هناك سياسة استعمارية اسمها “سياسة المناطق المقفولة” لا تريد لأهل الشمال أن يلتقوا بأهل الجنوب، فصنعت ضغائن بين الشمال والجنوب أسوأ، وهذا ما صنع الحداد . سيتناسى كثيرون أن مشروع السكة الحديد بين الشمال والجنوب ذاك كان في إطار حلم إمبريالي بريطاني عظيم سعى إلى ربط الاسكندرية بكيب تاون.. ولو علم هؤلاء تلك الحقائق لأدركوا انهم يتباكون على أمجاد غيرهم.. أكثر مما يتباكون على أمجادهم!

وعندما أحكم الإنقاذيون قبضتهم على البلاد فخنقوا رقاب الناس وضيعوا الوطن ومزقوه ٢٩ سنة حتى بلغت الروح الحلقوم.. استفاق تيار الهزيمة النخبوي من وهدته العميقة جزئياً؛ ليدرك أن من يسعى إلى استنهاض الشعوب لمقاومة الدكتاتوريات، عليه أن يعي أن التاريخ النضالي المشترك لأي شعب هو الوقود الذي بدون التزود المعنوي من رصيده الثمين لن تدور لعجلات التغيير أي قطار على قضبان اليوم.
والذي لا شك فيه أن النظام قد استفاد بميكافيلية مستترة من كل خطابات تحقير الذات التي روج لها تيار الانتلجنسيا المنهزم، وانتفع النظام بلا مبدئيته الأزلية من طبيعة البنية النفسية والعقلية لتيار الهزيمة للترسيخ لنموذج الإنسان المقهور بسيكولوجيته التي تتأبى كل بارقة مشرقة فيما يختص بقضايا الهوية والتاريخ المرتبط بها. هذا الفعل التراكمي أدى إلى نمط علائقي مضطرب نحو الخطاب الثوري حينما تصدت له الانتلجنسيا المنهزمة سعياً إلى إحداث التغيير ضد نظام القهر والتجويع؛ لأن التغيير نفسه فعل إيجابي يتطلب بنية وعي نفسانية مفعمة بالإيمان بالذات الوطنية والإرث الشعبي في المقاومة.. وهي ذات البنية التي يعمل تيار الانتلجنسيا على التأسيس لحالة خصومة نفسية عميقة معها، وهذا ما أوقع تلك المجموعات في مأزق أيدولوجي مأزوم، نتج فيما نتج منه متاريس ذاتية موضوعية تقاوم عملية التغيير نفسها، فانكفأت ذات الإنتلجنسيا المنهزمة على نفسها مجدداً لممارسة هوايتها المفضلة في إعادة إنتاج خطابات تحقير الذات، وتقزيم الموروث الشعبي والوطني؛ لتختار كعادتها دفن الرؤوس في الرمال بدلاً من التحليل الموضوعي لأسباب فشل عملية التغيير.

من المهم جداً ألا يفهم القارئ مما سبق أن فيه تأييداً لما تبنته الحكومات الوطنية التي تلت الاستعمار من سياسيات متخبطة عمقت أزمات البلاد، وساقت الوطن إلى مربعات اللاعودة بين شموليات باطشة متجبرة إلى ديموقراطيات حالت مغامرات العسكر وتحالفاتها مع القوى العقائدية دون بلوغها مبالغ الرشاد.

وبين هذا وذاك، عجز التيار النخبوي المنهزم عن النقد الذاتي لمساهماتهم ومساهمات منسوبيهم كأفراد ومجموعات في الترسيخ لما سبق من أزمات سواء من خلال المشاركة بنصيب مقدر فيها أو بالترقب السلبي لتغييرٍ يأتي بما تشتهيه أنفسهم، وهم مستغرقون في حالة متواصلة من لعن الظلام من دون أن تمتد أياديهم المرتجفة لإيقاد شمعة واحدة. ذلك العجز الذي استغرق المجموعات ذاتها في سلوك ارتمائي مُنهِك على يوتوبيا حالمة من البكائيات المستمرة على حوائط البريطانيين، واختزال تلك الفترة في إنجازات مادية قامت لمصلحة السيد أكثر من قيامها لمصلحة المُستَرَق، هو العجز ذاته الذي أفضى إلى حالة من التعلق الوجداني اللاموضوعي بمثالية الأبيض الغازي المزعومة التي تجُب ما قبلها من دماء السودانيين المراقة في سبيل التمكين له ولسطوته، كأنها ذهب المعز الذي اشترى به ولاءً سرمدياً لتلك النخب حتى وإن انطلق ذات الولاء من ذهنية الرضوخ وعوالم اللاوعي.

إن التيار الانهزامي يفوته دوماً أن ذكرى استقلال الشعوب هي ذكرى انتصار ميتافيزيقيا الحرية المتأصلة في إنسانية الإنسان منذ الأزل، وهي ذكرى مجبولة بطبيعتها على أن تتجاوز بحدودها كل التفاصيل المادية والبكائيات التي ليس ورائها من طائل.. فقد حان الاوان لإسدال الستار على ذلك المسلسل المشحون بما يكفي من الطاقات السالبة المهُدرة فيما لا يبقى ولا ينفع الناس.

حان الأوان للكف عن مقارعة الذات في دهاليز التاريخ بسيف دون كيشوت الخشبي الذي ما حقق له في يوم ما أي انتصار.. ولو كان هناك من عدوٍ واحد يتوجب على الجميع مقارعته في يوم ذكرى الاستقلال المجيدة.. فليس هناك سوى نظام الفقر والمسغبة الإنقاذي الذي قتل وشرد وشتت وقسم بلداً بحجم مليون ميل.

إذن يتوجب على تيار الهزيمة أن يعلم أن عليه الآن أن يقلب صفحات التباكي على المستعمر البريطاني الذي ذهب بفردوسه المفقود إلى غير عودة. وعليهم أن يقرؤوا من صفحات يوم كهذا بواقعيتها التي تتطلب أن تتعلق كل القلوب والأبصار بشيء واحد لا ثاني له ألا وهو تحقيق الاستقلال مرة أخرى للوطن بدك عرش طاغوت الإنقاذ التي سلبت إنسانية انسان السودان، وامتصت بأنيابها الطفيلية من دمائه كل ما بقي كرامته وعزته.

التعليقات مغلقة.