مشروع الجزيرة والرأسمالية الطفيلية الاسلامية الرثة (رطاس)  4 من 4

مشروع الجزيرة والرأسمالية الطفيلية الاسلامية الرثة (رطاس)     4 من 4
  • 07 يونيو 2017
  • لا توجد تعليقات

صديق عبد الهادي 

(1)

إنه، ومن الملاحظ أن ليست هناك اي علاقة معروفة تاريخياً بين حركة الإسلام السياسي ومشروع الجزيرة الذي ظل يمثل اعرض الميادين للنشاط الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي في البلاد. إذ ان علاقتهم به لم تبدأ إلا بعد ان استولوا على السلطة وبعد ان أصبح اتخاذ القرار مسنودٌ بالقمع والبطش وأجهزة الأمن وردع القوانين الظالمة.

هناك ثلاثة حقائق تاريخية تقف من وراء عزلة الاسلام السياسي وسط المزارعين، وفي مشروع الجزيرة بشكلٍ عام.

اولاً/

عرف المزارعون ممارسة العمل الديمقراطي منذ وقتٍ طويل، وذلك امرٌ ارتبط عضوياً بوجود المشروع، وبطبيعة النشاط والعملية الانتاجية نفسها. مارس المزارعون الديمقراطية في عملية انتخاب مجالس الانتاج على مستوى القُرى، وفي اختيار مناديبهم على مستوى التفاتيش وعلى مستوى الأقسام الزراعية كجزء من عملية انتخاب القيادات لاتحادهم. وتلك ممارسة ارتبطت عملياً وليس نظرياً بالدفاع عن مصالح معروفة وواضحة. وكفالة ممارسة الديمقراطية التي تمتع بها المزارعون وأهل منطقة الجزيرة لإدارة شئونهم لم تكن هبة، لا من المستعمر ولا من غيره. وانما انتزعها المزارعون عنوةً واقتدارا. وذلك امرٌ موثقٌ ومشهود. فالإسلام الحركي لم يكن جزءاً لا في فعل الانتزاع ذاك ولا في صون ممارسة تلك الديمقراطية التي كانت تنتخب وتأتي بحماتها. لم تعرف حركة المزارعين قيادات إسلامية في تاريخها، وذلك لسبب جوهري، وهو لأن محتوى حركة المزارعين يتناقض وبرنامج الاسلام السياسي. فحركة المزارعين يمثل فقراء المزارعين قاعدتها الصلبة، في حين، وعلى وجه الدقة، ألا مكان للفقراء مطلقاً في برنامج الإسلاميين، ولا ادل على ذلك مما هو بين أيدينا اليوم من الثمار المُرة  لبرنامج الاسلام السياسي للتغيير الاجتماعي حينما قُدِر له ان يُطبق!.

ثانياً/

كان اتحاد مزارعي الجزيرة والمناقل، كجهاز نقابي، ذا طبيعة خاصة بمعنى انه كان يقوم بمهام غير المهام التقليدية المعروفة بالنسبة للتنظيمات النقابية، سوى ان كانت عمالية او مهنية او غيرها. فاتحاد المزارعين ينتخبه 125 الف مزارع، وهذا هو عدد المزارعين في المشروع، غير انه كان يخدم 5 مليون شخص بشكل مباشر، اي انه كان يدافع عن ويصون مصالح كل سكان المشروع، حيث كان يقوم بإنشاء الاندية الرياضية والثقافية في كل قرية من قرى المشروع، اسس رياض الأطفال على طول المشروع وعرضه، وكذلك المؤسسات الصحية والتعليمية المجانية، والمؤسسات التعاونية الشعبية، والتي كانت الأكبر في عموم السودان. وهذه كلها خدمات اجتماعية، كان يستفيد بها الجميع وليس المزارعين، الذين انتخبوا ذلك الاتحاد، لوحدهم. هذا هو الدور الذي يكشف الطبيعة المختلفة لاتحاد مزارعي الجزيرة والمناقل كتنظيم نقابي، والذي ليس كمثله تنظيم من بين كافة النقابات!، لأن النقابة تقدم خدماتها وتصونها لأعضائها فحسب، اللهم إلا فيما يتعلق بالقضايا الوطنية الكبرى حين تكون مساهمة النقابات فيها جماعية.

ولكن ما هو اكثر أهمية ان قيام وانتشار المؤسسات التعليمية والصحية والرياضية والثقافية، هو في المرتبة الأولى كان يمثل دفعاً لعملية الحداثة التي ارتبطت بقيام المشروع، والتي انتقلت بالفعل بالمجتمع في منطقة الجزيرة انتقالا حداثياً نوعياً. ومسألة الحداثة هذه ارتبطت وترتبط جدلياً بممارسة الديمقراطية السائدة في مجتمع المزارعين. وهما يعضدان بعضهما، ثم ان كليهما يرتبطان وبنفس القدر بمسألةٍ أُخرى، وهي مسألة الاستنارة.

ثالثاً/

وكما هو معلومٌ، ان منطقة مشروع الجزيرة تعتبر واحدةٌ من حواضن الاستنارة في السودان، والتي هي وبالضرورة مرتبطة نظرياً وعملياً بممارسة الديمقراطية وبتأسيس الحداثة. إن رصيد مساهمة منطقة الجزيرة في دفع مسيرة الوعي في السودان يمثل رصيداً وافراً، في كل المناحي وعلى كل المستويات. وخاصة في منعرج التحولات الكبرى في تاريخ السودان.

إن فكرة تأسيس مؤتمر الخريجين كتنظيم، ظهرت للوجود ولأول مرة في مدينة ود مدني، عاصمة الجزيرة، (راجع خالد الكد، الأفندية ومفاهيم القومية في السودان، ترجمة محمد عثمان مكي العجيل، مسودة الترجمة، 2010، ص86).

قاد مزارعو الجزيرة “أكبر” تظاهرة حاشدة في تاريخ السودان بعد هزيمة ثورة 1924، وذلك في يوم 29 ديسمبر 1953، ” فأول تلك الاحداث قادته جمعية اللواء الابيض، وقد تجلى ذلك في انتفاضة 1924، التي وبالرغم من انكسارها اسهمت في نشر وعي نوعي جديد ومختلف. وعيٌ ترك تداعياته على مجمل تطور الحركة السياسية في السودان فيما بعد، كان أقلها شأناً في مجرى الصراع الذي خلَّفه هو القول بوضاعة المنبت الاجتماعي لقادتها!. وثاني تلك الأحداث هو ذلك الموكب الذي سيره عمال السكك الحديد بمدينة عطبرة لأجل اجبار السلطة الاستعمارية على الاعتراف بهيئة شؤون العمال، والذي كان في يوم 11 يوليو 1947. إشترك في ذلك الموكب حوالي 12 الف عامل، وقد كان ذلك ذي دلالة كبيرة.

واما الحدث الثالث، فهو الموكب الذي سيره المزارعون في 29 ديسمبر 1953 لاجل الاعتراف باتحاد مزارعي الجزيرة، كممثل شرعي للمزارعين. وكان قوامه حوالي 25 الف مشارك. مثَّلَ موكب المزارعين، بحجمه ذاك وفي ظرفه التاريخي ذلك، تحولاً وطفرةً جديدين في العمل المنظم ذي العمق الشعبي. وتلك كانت هي السمة الفارقة التي اهَّلتْ موكب المزارعين ليكون حدثاً فاصلاً في تاريخ السودان الحديث.”، (صديق عبد الهادي، مشروع الجزيرة وبؤس الحركة الإسلامية، فلادلفيا، يونيو 2016، ص 248).

هذه هي الحقائق التاريخية الثلاث التي خلقت الهوة المتسعة والعميقة بين حركة الاسلام السياسي وأهل الجزيرة. وهي هوة من الاتساع والعمق مما جعلها عصية على الردم والتجسير بالنسبة للحركة الإسلامية، مما حضها على التفكير في حلٍ واحدٍ لمعضلتها الكؤود هذه، وهو القضاء على مشروع الجزيرة جملةً وإقتلاع مواطنيه من الجذور!. وذلك لن يتثنى لها إلا بتبني الفكرة الباطلة العتيقة، اي فكرة “خصخصة مشروع الجزيرة”!. وبالفعل شرعتْ فيها!.

(2)

إنه، لابد من ان نشير إلى حقيقة مهمة، وهي ان حركة الإسلام السياسي عانتْ من عطالة فكرية ماحقة فيما يتعلق بقضايا الاقتصاد السياسي لمشروع الجزيرة، وحيث لا تذكر مساهمات فكرية ونظرية بارزة للإسلاميين حوله، وإنما اول تعامل فكري لهم فيما يخصه كان من خلال لجان السلطة. والتي عملتْ على ان تكون صياغة القوانين لتصفية المشروع، هي ملاذها الوحيد والأخير.

اوكلت رئاسة لجنة في العام 1998 للمصفي الأول للمشروع، د. تاج السر مصطفى. وهي، كما ذكرنا آنفاً، اللجنة التي دفعت بفكرة خصخصة المشروع بشكل واضح وفاقع لم تتجرأ على فعله ايٍ من اللجان السابقة وفي كل تاريخ المشروع، ” وقد كانت التوصية الاولى للجنة دكتور تاج السر، هي أن يصبح المشروع شركة مساهمة خاصة تطرح اسهمها للجمهور، وان تكون النسبة في الاصول والتي تملكها الدولة هي نصيبها في شركة المساهمة هذه. وكذلك يدخلها المزارعون وموظفو المشروع كمساهمين.”(صديق عبد الهادي، سابق، ص 89).

على إثر هذه التوصية إنفتحت ابواب الفوضى، وتخلت سلطة الإنقاذ عن مسئوليتها العقدية تجاه المشروع كحكومة وكطرف ثالث في عقد الشراكة الذي يضمها إلى جانب المزارعين وإدارة المشروع، ومن ثم أطلقت يد الرأسمالية الطفيلية لتقضي على مراكز الخدمات في المشروع، من سكك حديدية وهندسة زراعية ومحالج وبنيات اساسية، وحتى أنه لم تنج من النهب مؤسسات المزارعين التعاونية التي انشأوها من حر مالهم. ولإكمال الفوضى اصدرت السلطة قانونها الذميم المعروف بقانون سنة 2005، لأجل اكمال وتقنين “خصخصة المشروع”!.

(3)

فوفقاً لهذا القانون تم إنشاء شركات طفيلية إسلامية سميت او عُرِفتْ بشركات الخدمات المتكاملة. وذلك لأجل ان تقوم بما كانت تقوم به وحدة “الهندسة الزراعية”، ولكن هيهات!. فالهندسة الزراعية كانت تقف على قمة خبرة امتدت الى نحو 70 عام بالتمام والكمال. استولت شركات الخدمات المتكاملة، دون وجه حق، على جزء كبير من اصول الهندسة الزراعية، والتي هي في الاصل جزء من اصول المشروع. واشهر شركتين من هذه الشركات “المُنبتة”، هما، شركة صراصر للخدمات وملكيتها تعود لأسرة الرئيس البشير، وشركة “روينا” وتعود ملكيتها للشريف بدر، الرئيس السابق لمجلس إدارة مشروع الجزيرة!. وقد اتسم أداء هذه الشركات بصفتين أساسيتين الا وهما الفساد والضعف المهني والفني، وذلك للحد الذي جعل د. تاج السر مصطفى نفسه ليقول عنها في تقرير لجنته الثانية في عام 2013، بحياء وباعتراف جاء حتف الأنف،” أنيطت بهذه الشركات مهام تطهير وتأهيل وصيانة و إدارة قنوات الري ومنشآتها، تحضير وتسطيح الأرض، توفير المدخلات، وإدارة أصول المشروع بالموقع، وخدمات الانتاج الحيواني، التمويل والتسويق، وأي خدمات إنتاجية أخرى يحتاجها المنتجون، وكان التعاقد على تقديم الخدمات مع روابط مستخدمي المياه.

عجزت معظم هذه الشركات عن الاضطلاع بالمهام الموكلة لها إلا القليل منها التي لها بعض القدرات والتجارب السابقة في عمل المشروع، وذلك لأن معظمها يفتقر للمقومات الفنية والمالية والإدارية والتجهيزات الهندسية. وقد واجهتها صعوبات مثل قلة الآليات، ونمطها التقليدي، وعدم سداد مستحقاتها المالية، وعدم تناسب المساحات التي خصصت لها مع تباين في إمكانياتها.”،(تقرير لجنة مراجعة الاداء بمشروع الجزيرة، 2013). كانت هذه الشركات هي الاداة الفاعلة في إنهيار المشروع، وفيما وصل اليه من تردي جعله يخرج من حالة كونه مشروعاً يعتمد الري المنظم إلى مشروع يكاد ان يعتمد وبشكل اساس على الري المطري التقليدي!.

فهذا هو واقع المشروع الذي تحاول ان تفرضه الرأسمالية الطفيلية الاسلامية (رطاس) لتبرر به فرية الخصخصة، وذلك ببيعه لرأس المال الطفيلي المحلي والإقليمي والعالمي. ولكن ذلك سيكون امراً صعب المنال، سيما وان المزارعين وملاك الأرض، وكذلك كل القوى الوطنية يقفون بصلابة في وجهة هذه الهجمة الرأسمالية الطفيلية، وهم اكثر ثقة في الانتصار لانهم اصحاب حق، واصحاب قضية عادلة.

*خبير اقتصادي

Siddiq01@sudaneseeconomist.com

 

 

 

التعليقات مغلقة.