التعليم في زمن الثورة

التعليم في زمن الثورة
  • 09 نوفمبر 2019
  • لا توجد تعليقات

يوسف السندي

قضايا السودان متعددة و متشابكة و ما يزيدها تعقيدا و تشابكا هو وضع التعليم المزري ، حيث ينتشر الجهل بصورة كثيفة ، و طبيعي ان يترافق الجهل مع أمراضه و أولها الفقر ، و بالتالي فان قضية الجهل هي قضية مركزية في مشاكل السودان ، و لا يبدو ان ثمة افق جيد لمستقبل مشرق لبلادنا مع جهل مستفحل ، كذلك مما يراكم هذه الازمة ان تعريف الجهل نفسه يصعد عالميا نحو الأعلى و لا يتوقف في مستوى واحد ، فان كان في وقت مضي تعريف الجهل هو عدم القراءة و الكتابة فانه اليوم عدم المعرفة بشكل عام ، و هذا التعريف ينطبق ايضا على الكثير من المتعلمين ، و ذلك ناتج عن كيفية تقبل البعض للتعليم و كيفية استعداده لتحويل التعليم نفسه الى وسيلة لاكتساب المعارف الضرورية التي تجعل الفرد يغادر مرحلة الجهل الى الابد ، اوربا القديمة حين كان الجهل فيها و الامية منتشرة كان هناك اندفاع علمي صارخ و شغف رهيب بالعلوم و البحث و الاكتشاف لدى المتعلمين من سكانها و هؤلاء بالضبط هم من صنعوا نهضة اوربا الراهنة و هؤلاء هم من جعلوا ذرية الاوربيين الجاهلين تؤمن بالعلوم و المعرفة ، و بالتالي تطور المجتمع علميا للدرجة التي وصلها الان ، و هي نفس الروح التي تملكت العرب و المسلمين في عصور النهضة الاسلامية ما صنع حضارة الإسلام التاريخية و سيطرته الحضارية على العالم لقرون متعددة . الخلاصة ان التعليم يصنع المعرفة و المعرفة تصنع الحضارة و الحضارة هي النهضة .

الى وقت قريب كان العلم في بلادنا يحظى بشيء من التقديس و هو تقديس اكتسب من الرجال الذين عاصروا الاستعمار و نقلوا عن البريطانيين حب العلم و شغف التعلم و الانتظام ، و لكن هذا الامر هبط مع السنين و كان كلما اختفى جيل هبطت جودة التعليم اكثر حتى وصلنا الى عهد الإنقاذ و التي مع ضعف التعليم اضعفته بالبخل حين لم تصرف على التعليم الا ما يقل عن 1% من جملة الميزانية العامة ، لذلك شهد عهد الإنقاذ اختفاء اخر صورة من صور جودة التعليم باختفاء معهد بخت الرضا لتدريب المعلمين ، و مع ان الإنقاذ فتحت عشرات الكليات للتربية و التي مهمتها تخريج الأساتذة الا انها في الحقيقة فشلت في تخريج الأستاذ المؤهل الذي كان يخرجه معهد بخت الرضا ، فالقضية لم تكن في ورقة التخريج و تجاوز امتحانات كلية التربية الواحد بعد الثاني حتى تصبح أستاذا بشهادة جامعية ، بقدر ما كانت متعلقة في الأساس بالاعداد الذهني و الفعلي و العملي للمعلم لكي يكون معلما ، و هذا الامر احدث فرقا جوهريا في عملية جودة التعليم و قيمته .

المعلمون لم تظلمهم الإنقاذ فقط بالجامعات الضعيفة الأداء بل ظلمتهم اكثر حين جعلت رواتبهم هي الأقل ، اذ كان راتب المعلم لا يتخطى ربع احتياجه الشهري ، فكيف سينتج معلما بهذا الاختلال الحياتي و الاقتصادي طالبا متماسكا علميا و معرفيا ، عملية التعليم تعتمد بصورة أساسية على عملية الانغماس الثنائي للطالب و الأستاذ في العلم و على التركيز الثنائي من الطرفين على الوصول الى جوهر المادة لا مظهرها ، اذ لا يعني التعليم اطلاقا اعداد الطالب للمرور في الامتحان نهاية السنة ثم يمضى الى السنة المقبلة خاليا من كل ما تعلمه في السنة الماضية ، و انما يعني الوصول الى لب العلم الى جوهره و قيمته في تنوير ذات الطالب و تحويره من طالب فارغ عند دخوله المدرسة الى طالب مليء بالاجابات و الخيارات ، مليء بالشغف و الأسئلة الجديدة التي يتوق مع السنين المتلاحقة من الدراسة للإجابة عليها و هو بالطبع ما لا يمكن الوصول اليه طيلة الحياة اذ ان العلم أبواب خلف أبواب كلما فتحت بابا تظنه النهاية واجهك اخر و هكذا سوف يواصل المتعلم فتح الأبواب بقدر شغفه و بقدر تعلقه بجوهر العلم و بقدر احتشاده بالاسئلة و بقدر تبصره و سعيه للتنور ، و هذه هي فلسفة العلم ، فالعلم في جوهره أسئلة لا تنتهي ، و لا يمكن لاي من كان ان يحوز على كل شيء في العلم ، و هذا بالضبط ما يجعل العلم مادة متاحة للكل لا فرق بين دولة غنية و فقيرة و انما الفرق هو في الاليات و في الوسائل و الشغف و الطرق التي تتبعها كل دولة عن الأخرى .

لم يكن هناك التزام بتطوير العملية التعليمية في ظل نظام البشير فهذه طبيعة الدول الدكتاتورية تتراجع فيها مشاعر البعث و الانطلاق نحو القمة المرتبطة بتحرير العقول و بفتح الافاق للطلاب ، لذلك كان الناتج التعليمي بائسا . بعد قيام ثورة ديسمبر تم استعدال الازمة السياسية بالاطاحة بالبشير و حان اوان استعدال الوضع التعليمي ، لن يكون مفيدا إعادة البلاد الى الوضع السابق حيث معهد بخت الرضا فزيادة عدد المعلمين و زيادة عدد المدارس و الطلاب يجعل الامر عسيرا و يحتاج الامر في حال العزم على تنفيذه الى إقامة معهد في كل محلية او على الأقل في كل ولاية و قد يعجز بعد هذا عن الإيفاء بالدور المطلوب مما يظهر الحوجة لمقاربة جديدة تبدا من إعادة التقديس للعلم و التعلم و إشاعة روح البحث العلمي و انتاج مناهج تحفز الطالب على الوصول الى جوهر العلم لا مظهره ، و هذا يجب ان يترافق أيضا مع رفع المستوى الاقتصادي للمعلمين مما يجعلهم اكثر استعدادا للتركيز بالكامل في المهنة و بالتالي مساعدة التلاميذ على الاندماج في العلم . و هنا يجب ان نشير الى ان الاسر لها دور مؤثر كذلك في عملية جودة التعليم ، الاسر التي تقدس العلم و جوهره ستكون اكثر فائدة في رفد الوطن بالمتعلمين المتنورين و المحتشدين بالمعرفة ، بينما الاسر التي لا تولي التعليم اهتماما سوف يؤثر انحيازها ضد التعليم على عملية اندماج ابناءها في التعلم مما يقود الى انتاج أجيال متعلمة و لكن بلا جوهر . و الفرق هنا كبير فاذا كنا نستهدف نهضة الامة فنحن في حاجة لمتعلمين متنورين ، لمواطنين محتشدين بالمعارف و لاعداد لا تقل عن ثلثي السكان من المتنورين الذين لا يملون طرق و فتح أبواب العلم المتلاحقة .

في تاريخ الإسلام الأول هناك من كتب اكثر من الف كتاب من علماء ذلك الزمان ، كتبوا هذه الكتب في ظل ظروف صعبة حيث لا كهرباء و لا أقلام و لا أوراق و لا كمبيوتر و لا مصادر معرفة كالتي بين أيدينا اليوم ، كانوا يكتبون لانهم تنوروا بالعلم و نفذوا الى الجوهر و كانت الكتابة نفسها بالنسبة اليهم فتحا لابواب جديدة في العلم و المعرفة ، قد يندهش الكثيرون اذا علموا ان الكتابة ليست هي استخراج أفكار مسبقة فقط و انما هي في الأصل اكتشاف أفكار جديدة ، جوهر العلم ليس موجودا في طرف اللسان و ليس في ما تؤديه من اعمال مكتبية يومية روتينية في الوظيفة فقط بل هو في الأصل وجودك الكامل ، بعضه مريء و بعضه خفي ، و لكل شخص وجود ضخم غير مريء ، و الكتابة هي الطريقة الوحيدة للوصول الى ذلك العالم المخفي ، لذلك أولئك الذين كتبوا هذه الكتب المتعددة اكتشفوا عبر الكتابة أفكارا كثيرة لم يتحدثوا بها من قبل و لم يصدف ان قراءوا عنها بشكل محدد و لم يفكروا يوما فيها ، هكذا وضعهم القلم و الورق امام أفكارهم التي لم يروها من قبل ، لذلك فالكتابة الحرة هي عمليا اكتشاف التنور الداخلي و اكتشاف المعارف الكامنة في النفس . و هذا هو جوهر العلم ، صياغة الكوامن و صناعة التنور و اثراء الانفس بما لا تعلم حتى يأتي اليوم الذي تعلم فيه ما انطوت عليه عوالمها .

بالطبع يحتاج العلم للقوة الدافعة ، و لا يوجد شيء مثل الحرية يفيء بهذا الغرض ، المسلمون القدماء عاشوا في ظل نظام حر ، لذلك كان انتاج المعرفة ضخم و كان الشغف للعلم و التعلم هائلا لذلك بنى العرب المسلمون حضارة عظيمة ، و يمكن لكل قاريء للتاريخ ان يلاحظ ان لحظة اضمحلال الحرية عبر التاريخ في سياق الامة الإسلامية ترافق معها أيضا اضمحلالا معرفيا و علميا ، و هذا الامر يوضح للجميع حالة انهيار العلم و المعرفة في عهد نظام الإنقاذ و يجعلها نتيجة منطقية لانعدام الحرية ، و هذا بالضبط ما يواجه حكومة الثورة الجديدة بحقيقة ان التطور العلمي لن يحدث اذا لم تظلل بلادنا الحرية .

اوربا في العهود الوسطى و التي اتسمت بالظلام و تضييع الحريات غرقت في ظلام معرفي دامس و حين بدات شمس الحرية تسطع بدات معها المعرفة و النهضة و التي تستمر حتى اليوم ، و هذا دليل اخر على ان الحرية هي البيئة المناسبة للتعلم و المعرفة .

الحرية المقصودة ليست هي الحرية في السياسة فقط و انما الحرية في المناهج و الاليات التعليمية ، العالم من حولنا ذهب بعيدا جدا في ايجاد طرق مبتكرة تساعد على تحرير الطالب من القيود التي تحول بينه و بين اكتساب جوهر العلم ، و هذا بالضبط هو هدف العملية التعليمة ان يصل الطالب الى المعارف الكاملة في العلم . التعليم في زمن الثورة يتطلع ان يوضع في مساره الصحيح ، تعليما من أجل تغذية الروح بالمعارف، من أجل تنوير النفس و ليس من أجل الوظائف و الماديات، فهذا هو التعليم الذي يقود إلى المعرفة و الحضارة ، فهل سيتحقق المنى ؟


sondy25@gmail.com

التعليقات مغلقة.