فضل الله محمد .. سيرة صحافة وقامة إنسان وأمين ثورة🖋

فضل الله محمد .. سيرة صحافة وقامة  إنسان وأمين ثورة🖋
  • 01 يناير 2020
  • لا توجد تعليقات

حافظ الامين


لم يمارس الأستاذ فضل الله محمد في حياته أي مهنة أخرى سوى مهنة الصحافة والكتابة الصحفية فمنحته مجدا ومنحها مدرسة مهنية وأكسبها قيما انسانية. قال فضل الله انه ظل يتعاطى مع شؤون السياسة فقط من خلال مهنيته الصحافية وظل ملتزما بذلك حتى عندما كان يترأس تحرير جريدة “الصحافة” سنينا عددا في دولة ٢٥ مايو في النصف الثاني من السبعينات والى انقلاب ٦ ابريل ١٩٨٥.

كانت لصحف ذلك العهد دُورٌ ووظائف حكومية نعم ولكن الوثائق تقول عنها وبطريقة اجهلها حتى الآن انها كانت تتبع “للتنظيم” الذي عهد له دستور العام ١٩٧٣ بالحاكمية السياسية في البلاد دون غيره الا وهو (الاتحاد الاشتراكي السوداني). هذه الصيغة من العلاقة بين التنظيم السياسي وصحفه (مجازا) لم أجد يوما ما يشير لها او من يشير لها بالبحث أو حتى بالتعليق على الاطلاق، اذ لم يكن القراء يشعرون بأن تلك الصحف كانت تصدر عن ذلك “التنظيم السياسي” او أنها كانت تخضع بكيفية ما لاجهزة الدولة التنفيذية أو امنها ولما يتجاوز عددها آنذاك (٧٠-١٩٨٥) صحيفتين يوميتن فقط (من عائد تأميمات العام ١٩٧٠) وواحدة ثالثة اسبوعية إضافة إلى عدد قليل من المجلات الحكومية.

عُرف الراحل العظيم الذي غادر الدنيا قبل ساعات قليلة بأنه كان قائما على إحدى تلكم الصحيفتين (جريدة “الصحافة”). كان الرجل فيها رئيسا للتحرير وظل اثناءها وبعدها كاتبا صحفيا متماسك الرؤية، شجيع الرأي، جزِل العبارة، مباشرا وموجِزا فحاز على احترام نفسه والجميع، وفي مقدمة هؤلاء الجميع كان قراؤه ثم زملاؤه ومرؤوسوه ومخالفوه ثم أركان الدولة التي بوأته مكانته.

سأله التلفزيون مرة في قمة انفعال الابريلية المنقلبة ضد حقبة ٢٥ مايو وبناة هيكلها عن علاقته بدولة ٢٥ مايو (يقولونها نظام مايو) فأجاب بما عَناه أنه ينتمي ويتمسك “بالتيار الرئيسي” الذي دفع بثورة مايو وما زال يسري فيها وانه لا يتوقف كثيرا في شأن تطوراتها أو سياساتها المختلف عليها الا بما قام بالتعليق عليه في اوانه من ناحية صحفية مهنية، وعن كيف ينظر للرئيس نميري اثناء ولايته التي كانت، ردّ فضل الله بلا عناء قائلا “كان رجلا أصيلا ابن بلد”، وسأله ذات البرنامج عن علاقته بالدكتور منصور خالد، باعتبار أن منصورا كان يرأس مجلس إدارة دار الصحافة وهيئة تحرير مطبوعاتها في شرخٍ من السبعينات، فأجاب بلا تردد “علاقتي بالدكتور منصور لم تزد عن كونها علاقة مرؤوس برئيسه” قالها في انضباط ولم ينحُو لاستعرض أي “مسارات” او ادانات في سوق التهجم الابريلي على سدانة منصور لمايو بما لم يبلغه حتى وزير دفاعها المنقلب “هنيئا مريئا” الفريق سوار الدهب. انها أحوالنا حينما يمُسّها التردّي ويشوّه ويعاكس رَداه الحقائق.

خلاصة القول، لم يكن فضل الله صحفيا “مرزوقا” أو ذي حظوة أو شلليا أو شخصا متلاطفا ومجاملا ومجالسا سعيا وراء مقربة، أو انه كان يظهر في الدواوين أو يؤجر قلمه لذي سطوة وسلطان أو يتدخل فيما لا يعنيه، ظل الرجل محافظا على سَمتِه الديموقراطي الاشتراكي هو ومجايليه الاكتوبريون (حسن عابدين، ع. سبدرات، مكاوي عوض المكاوي، علي محمد صديق، اسماعيل الحاج موسى … الخ) فاندمجوا جميعا في ركاب ثورة الشعب بعد ٢٥ مايو ٦٩ لانها مثلت لهم ما يخططون وما ظلوا يرجون، وعند مقدمها كانوا في فتوة نهاية العشرينات فأبلوا كل من موقعه بلاءً نصيحا صادقا وزادوا دولتها ألقا سياسيا على ألق.

كتب فضل الله متغنيا في مايو انشودتين، لحن إحداهما وأداها محمد الامين “مايو يا أكتوبر العائد” وانقلب محمد الامين من بعد آسفا عليها وغنى الأخرى ابو عركي البخيت “طريق الماضي” وانقلب عليها ابو عركي من بعد مستحٍ منها، ولكن فضل الله لا يعتذر ولا يجبُن ولا يدفن تاريخه او يداريه تزلفا ولم يذهب ما ذهب إليه صِنوه “محجوب شريف” من محاولات تنكرية لقصائده التي سطرها هياما في دولة الشعب والثورة ٢٥ مايو فتجاهلها وشطبها من دواوينه واعاق نشرها كما قال يوما في لقاء صحفي نشرته جريدة الخرطوم سنة ٩٧ إبان صدورها في القاهرة برئاسة تحرير فضل الله نفسه، قال محجوب ذلك معتقدا بأن أشعاره هي مما يملكه مُلكا حصريا بينما نحن والتاريخ المالكون.

ظل فضل الله ذي موقف ثابت واخترق برصانته هواج ابريل الطائفية العقائدية المشتعلة بكُره “مايو” ولم يركب مثلا الموجة التي ركبها “الكوز” الدعي حسن عبد الوهاب أو الشاعران الكاتبان مصطفى سند ومحمد المكي ابراهيم او الكاتبان الصحفيان بشير محمد سعيد وعبد الرحمن مختار و.. و ..و .. ممّن فجروا صحائف سنوات ابريل بمقالات لا حد لها في حب الديموقراطية وشنئنة حكم الفرد، وعندما أطلت دولة الإسلاميين بانقلابها العسكري في ٣٠ يونيو ٨٩ لم يجد اربعتهم حرجا في أن يكونوا أعضاء (بالتعيين) في برلمانٍ ترأسه عضو مجلس الانقلاب محمد الامين خليفة سنة ١٩٩٢ فارتحل فضل الله إلى مصر ليواصل عمله في معشوقته الصحافة رئيسا لتحرير صحيفة “الخرطوم” المعارضة التي نقلها ناشرها إلى هناك ليضمن لها حياة جديدة. قام فضل الله بدوره خير قيام يؤازره شبيبة ميامين دون أن يدفع ثمنا دفعه بالفعل من ذَكرنا فخاب ذِكرَهم.

اخترق فضل الله بوار وعُوار الصحافة الكثيف في السنوات الأربع التي تلت ابريل ١٩٨٥ بأكثر مما فعل منتفضيه الحيارى. في تلك السنوات كان معرفة ما يدور في خبايا الحكم الحِزبوي يلف الرأس ويلوّع الامعاء فيصبح الناس على جهالاتٍ وغموضٍ لا يعرفون له آخراً ولا يجدون بريقاً أو رواءً يجيبهم الا حينما يقرؤون كلمة “الخرطوم اليوم” لفضل الله وهي تتصدر يسار الصفحة الأولى بشكل يومي.

في تلك الأيام قرأت تعليقا لأحد السفراء العرب في الخرطوم ولعله “العراقي”، يقول فيه أنه وعدد ممن يعرف من السفراء في الخرطوم يترقبون كل يوم افتتاحية فضل الله محمد حول ما يحدث في الشان السياسي لبلادنا ويكتفون بها سندا راجحا لفهم ما يدور في سودان ٨٦ الذي كان قد استعاد وللمرة الثالثة دستور العام ٥٦ ليكون اساسا ومظلة للحكم (٨٦-١٩٨٩) وكما هي العادة، لم يحترمه الربّان، كل الربان.

ارى صادقا، أن على طلاب الإعلام والصحافة في جامعاتهم أن يعكفوا على ارشيف فضل الله محمد الذي سوف يجدونه اهلا لاكثر واكثر من ماجستير واحد او دكتوراه من أي زاوية يأتونه.

الوسوم حافظ-الامين

التعليقات مغلقة.