غربا باتجاه الشرق

العمارة والجزالة في تكريم منصور

العمارة والجزالة في تكريم منصور
  • 29 يونيو 2017
  • لا توجد تعليقات

مصطفى عبد العزيز البطل

في مناسبة مرور عام على تكريم الدكتور منصور خالد، والحلقات التي تبثها قناة الجزيرة هذه الأيام حول تاريخه السياسي، نعيد نشرهذا المقال:

****
(1)
تحت شعار عامر بالوضاءة، وبتوفيق من عند الله في اختزان المعاني واختزالها والتعبير عنها (منصور خالد: عمارة العقل وجزالة المواهب) شهدت الخرطوم مساء السبت الماضي احتفالية تكريم رمزنا الوطني والثقافي ونجمنا الثاقب الدكتور منصور خالد. وقد كان ذلك، وبحق، حدثاً زهت به المدينة وازدهت.
ومن بركات الله أن تلك الفعالية بلغت من الفلاح والنجاح ذروة الغاية. آية ذلك أن شارك في التكريم، بالحضور المشهود، حبيبنا الدكتور عبد الله على ابراهيم، إسماً وذاتاً وعينا! وكنت قد رجوت من صديقي، الخال الرئاسي، الاستاذ الطيب مصطفى ان يستهدي بالله فيشارك هو ايضا في يوم التكريم، فيكتمل البهاء. ولكنه غاب. والسوادنة يقولون: “الغائب عذره معاهو”!
كنت قبلها قد وقفت على خطة وتفصيلات برنامج الفعالية من خلال وثيقة الكترونية برّني بها العالم والمؤرخ والوزير السابق، الدكتور حسن عابدين، أحد القائمين على شأن الاحتفال. بارك الله فيه وفي رفقته. تلك الثريا الماجدة من خيار مثقفينا الذين نهضوا الى مهمة التكريم فبلغوا بها المرام، وأنجزوها كأفضل ما تُنجز المهام. وقد طوّفت في تلك الوثيقة على مسميات الأوراق المطروحة في جلسات الاحتفالية، وأسماء مقدميها، ورؤساء الجلسات والمعقبين، فاستغرقتني حسرة من تلك الحسرات التي تغمر أمثالي من المهاجرة وأهل الشتات، حين يذكرون فداحة ما يفتقدون من طيّبات وخيرات. وحدثت نفسي: ماذا جنيت يا درش من مجاورة هؤلاء الفرنجة غير وقر الرطين وعجمة البنين، وقومك هناك جلوس في باحة النادي الدبلوماسي، على مقربة من النيل الخالد، يشنفون آذانهم بحصائل الأعمار من فيوض الثقافة وعصارات الحكمة، تأتيهم مدراراً من فوق منصات تشخص من ورائها عشرات السنون من التجارب والانجازات. ذلك سنخ العماليق الذين رأيت اسماءهم في برنامج التكريم.
(2)
اطلعت على ورقة واحدة فقط، من ضمن الأوراق التي قدمت في المؤتمر ، تحمل عنوان (منصور خالد .. السلام ووحدة البلاد: الفرص المهدرة). وهي الورقة التي كتبها وقدمها حبيبنا الدكتور الواثق كمير، الذي نأمل الا يمضى وقتٌ طويل قبل ان يجد هو نفسه التكريم اللائق به. فلقد والله بذل الواثق لوطنه وشعبه من علمه وفكره بذلاناً جاوز المدى. وظل يمحضهم النصح، فتبينوا بعضه في غدوات أيامهم، وانتظروا ببعضه ضحى الغد.
الواثق من قلة ظلت تحمل هموم هذا الوطن  وهناً على وهن. وقد راقبت مسيرة هذا الحبيب عبر السنوات، فعرفته متجرداً بلا أجندة شخصية ولا طموحات فردية. من أبرز خصاله أصالة الرأى واستقلال الفكر. واكثرها شخوصاً وتمظهراً في خويصة أمره أنه لا يتسلق ولا يتملق، ولا يداهن الأدعياء. ولا يتبذّل ولا يتسفّل الى الغوغاء طلباً للتصفيق. هو فقط اكاديميٌ محترف ومثقف وطني. مثله لا يكون قط من مطربي “ما يطلبه المستمعون”، الذين يترخصون للعامة، ويقدمون لهم ما يُطربهم ويشجيهم، حتى ينالوا الاستحسان. ذلك ليس دور المثقف الوطني. بل هو شغل المتطلعين الى الشهرة والباحثين عن مكان تحت الشمس، وما اكثرهم بين ظهرانينا.
(3)
اتبع الدكتور الواثق كمير في ورقته التي قدمها في اليوم الثاني للاحتفالية منهجاً جليّاً أبانه في المقدمة، ألا وهو استعراض اطروحات الدكتور منصور خالد وأفكاره وآرائه، في شأن السلام، منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى اليوم، كما هي، من واقع دوره، اي منصور، كمؤرخ سياسي. وتعرض من ثم الى مواقفه وحركاته وسكناته داخل المواقع السياسية والتنفيذية التي اضطلع بها، لاسيما عقيب توقيع اتفاقية نيفاشا.
الواثق إذن لا يتبنى وجهات نظر المنصور، ولا يدافع عنها، ولا يحاكمها ايضا. وهو بالضرورة لا يعرض ولا يتبني وجهات النظر المخالفة لها، إذ ان ذلك مما لا يجوز منهجياً. وانما يعرض مواقف الرجل وحدها عرضاً محايداً. وقد وجدت ان الورقة في جملتها تشكل بلغة الفرنجة Synthesis  لكل ما قدمه منصور مكتوباً وموثقاً، وبصفة أخص في كتابه الشهير (أهوال الحرب وطموحات السلام: قصة بلدين) الصادر في العام 2003. وهذا في حد ذاته عمل نافع، سيفيد منه على أقل تقدير الباحثون الاكاديميون والصحافيون.
ومع ذلك فقد وجدت الواثق يحاكي منصور في منهجه كمؤرخ سياسي فيرصد في خاتمة بحثه بعض الاحداث المحورية، ويوثقها بالأدلة والشواهد، ثم يتعرض لبعض قصور يحسب أنه شاب اطروحة منصور حول الحرب والسلام. ولعله قصور يتصل بالفرضيات الأساس للاطروحة. كما يتعرض لموقعه من الأحداث كونه، اي منصور، مؤرخاً سياسيا احتل في ذات الوقت مواقع قيادية في الحركة التي كانت شريكاً أساسياً في حكم السودان طوال الفترة الانتقالية منذ العام 2005 وحتى انفصال الجنوب وتأسيس دولته المستقلة في العام 2011. ومن تلك موقعه كعضو قيادي في المكتب السياسي للحزب الثاني في الحكومة، وموقعه كمستشار لرئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان، ثم مستشاراً لرئيس الجمهورية. وتلك فترات زمانية بالغة الحساسية، ليس هناك من هو افضل من حبيبنا الواثق لتوثيقها ومدارستها، إذ كان شاهداً على عصرها.
وفي ظني ان ورقة الدكتور الواثق ستجد طريقها الى النشر في صحف الخرطوم  فلينهض اليها إذن اهل القراءات الجادة. أما بقية الاوراق، ثم خطبة الدكتور منصور نفسه في الجلسة الختامية، فربما اجتهدت اللجنة المنظمة، ولها من الله الاجر والثواب، فوضعتها جميعا في موقع الكتروني موحد يتيح لسوادنة الدياسبورا ان يصلوا اليها، فيكتسبون ويستزيدون من الثقافة والعلم ما يستعينون به على رهق الدنيا وجفاف أيامها.
(4)
برغم انني أزعم عن نفسي، كمتابع وراصد، يهتم اجمالاً بالتاريخ السياسي للسودان، أنني اطلعت على كثير من ادبيات الحرب والسلام في جنوبي السودان عبر الحقب، وأنني أحطت بالصورة العامة للأحداث والتطورات عبر التاريخ المرصود، إلا انني فوجئت وانا اطالع ورقة الدكتور الواثق ببعض الوقائع التي يبدو لي انها ربما اندرجت عند البعض تحت بند “ما هو معلوم من تاريخ السودان السياسي بالضرورة”. ومع ذلك، ومع كثرة مراجعاتي، فقد اخطأها راداري، فلم أقع عليها قط!  ولا عجب، فكثير من المهتمين بالتاريخ يظنون انهم احاطوا بكل شئ، ثم يفاجأون في مطالعاتهم أحياناً، ببعض الصفحات تمد اليهم ألسنتها، وكأنها تخاطبهم غائظةً ومغيظة: من قال لكم ذلك؟!
من ذلك انني كنت أعلم عن العقيد جون قرنق دي مابيور انه التحق لفترة ما بحركة انيانيا في ستينيات القرن الماضي، وربما حارب في صفوفها برتبة ومقام متواضعين. ولكنني عرفت، وللمرة الاولى، من ورقة الدكتور الواثق ان جون قرنق عمل في واقع الأمر في موقع حساس داخل تلك الحركة، هو ضابط استخبارات. وأنه شارك في المفاوضات التي سبقت، ثم أسست لاتفاقية أديس أبابا عام 1972 بين حركة أنيانيا المتمردة وحكومة الخرطوم. ثم علمت انه كان قد عارض بعض بنود الاتفاقية عندما كانت في طور التباحث، فأزعج رؤساءه في التنظيم المتمرد المسلح ولاحقهم بالمذكرات الرافضة والمعارضة لبعض مسارات التفاوض حتى ملّ رؤساؤه اللجاج. وبلغ من ذلك ان قادته داخل حركة أنيانيا استصدروا قراراً  بعزله من موقعه في جهاز الاستخبارات، وتبديل صفته التي خولت له المشاركة في حوار السلام، فقاموا بنقله الى موقع حربي بعيد في أعالي النيل.
(5)
قالت الموسوعة العالمية (ويكيبيديا) عن الدكتور منصور خالد انه (سياسي ومفكر، ويُعد من اكثر الشخصيات السودانية إثارة للجدل).  قلنا ومالو؟ وهو كذلك. ومن الحق ان بلادنا لم تعرف في عهدها الحديث شخصية ظلت تثير الجدل على مدى نصف قرن منذ (حوار مع الصفوة) وحتى يوم الناس هذا بخلاف هذا الحبيب.
أطال الله عمرك، يا شيخنا المنصور، وبارك فيه، ونفع بك هذا الوطن الغالي، وأبقاك ذخراً له.

توضيح: نشر هذا المقال في عدد الخميس 29  يونيو من صحيفة (السوداني) تحت عنوان (العمالة والجزالة في تكريم منصور). ولا يخفى عن فطنة القارئ ان الكلمة الصحيحة هي (العمارة) وليس (العمالة). وكما هو وارد في متن المقال فإن العنوان مشتق من شعار التكريم وهو (عمارة العقل وجزالة المواهب). التصحيف الذي ورد في رسم الكلمة في النسخة الورقية لا يعدو ان يكون مجرد خطأ مطبعي.

mustafabatal@msn.com

التعليقات مغلقة.