عرض كتاب

 “ما بعد العالم الأميركي” *

 “ما بعد العالم الأميركي” *
  • 11 أغسطس 2017
  • لا توجد تعليقات

د. صديق عبدالهادي

“The Post American World”

المؤلف: فريد زكريا  

الناشر: دبليو دبليو نورتون وشركاؤه _ نيويورك، الولايات المتحدة.

الطبعة الثانية 2012

(1)

يقع الكتاب في 314 صفحة من الحجم المتوسط. حظي الكتاب بعرض وباشاراتٍ من كبرى الصحف الأمريكية، مثل، الانكويرير بفلادلفيا، نيويورك تايمز، جريدة وول إستريت بنيويورك، بوسطن سنداي قللوب، الواشنطن بوست، الفورين آفيرز، سياتل تايم، البوست غازييت بستبيرج، جريدة الاندبيندت وكذلك الغارديان اللندنيتين، هذا بالاضافة إلى تناول عدد من الاقلام المشهورة لمثقفين واقتصاديين من أولئك المهتمين بالإنتاج الفكري على وجه الخصوص.

جاء الكتاب منطوياً على كثير من المعلومات، ثم ان عرضها وتحليلها كانا شيقين. وبرغمه غلب على الكتاب النفس الصحفي في بعض أجزائه، وقد يكون ذلك بحكم طبيعة عمل وخبرة المؤلف. وبالطبع، مما هو معلوم أن لفريد زكريا برنامج ناجح ومحضور عبر قناة الـ CNN، يقدمه في يوم الاحد من كل اسبوع. وهو البرنامج المعروف باسم GPS.

إن الملاحظة الأولى تجئ حول عنوان الكتاب، لا أقول أن لا علاقة له بمحتوى الكتاب، وإنما قد لم يكن دقيقاً. فالإثارة التي تتبدى من بين كلماته قد يكون لها منحى او مرمى تسويقي!، (وقد يكون ذلك مرتبط أيضاً بطبيعة عمل المؤلف)!. فمن الوهلة الاولى، وبالنظر للعنوان، يعتقد القارئ بان هناك تنبوءاً ما بانهيار أميركا!، ولكن المؤلف وكأنه يعلم، ومن ثم يستدرك، بانه بالفعل اعطى القارئ ذلك الانطباع، نجده ومن السطر الأول في مقدمة الكتاب يقول بأن هناك حوارا جاريا بين الناس حول تراجع وانهيار أميركا الا أن ذلك أمر باعتقاده صعب. فليس ذلك وحسب وانما يؤكد الكاتب في مطلع الفصل الاول وبالحرف الواحد قائلاً، “هذا الكتاب ليس عن إنهيار أميركا وإنما عن نهوض الآخرين”. وعبارة “نهوض الآخرين”، هي عنوان الفصل نفسه!، كما وأنها هي الفكرة الاساس التي تمثل مرتكز الكتاب. فلذلك لا يطول انطباع القارئ كثيراً، بل وقد يكون أقصر انطباعٍ لقارئ عن كتابٍ قط!

(2)

إنه، وكمدخل لطرح فكرته الأساس يشير المؤلف الى ان هناك ثلاثة تحولات جذرية في القوى تمت خلال الخمسمائة سنة الماضية، وكان ان اعادت تلك التحولات صياغة وتشكيل الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية في العالم. وهي، اولاً، نهوض العالم الغربي، والذي أنتج الحداثة، متمثلة في العلوم والتكنولوجيا والتجارة، و”الرسمالية”. ثانياً، التحول الذي تم على نهايات القرن التاسع عشر، وهو نهوض وبروز الولايات المتحدة الأميركية كأعظم قوى منذ عصر روما، وكأقوى أمه في التاريخ المعاصر، واما ثالثاً، فهو ما نشهده الآن من “نهوضٍ للآخرين”.

إن التحول الأول والثاني مفهومان، ولكن ما يحتاج للوقوف هو التحول الثالث، “نهوض الآخرين”.

اشار زكريا الى حقيقة الاقتصادات الناهضة والمتسارعة في تطورها، وهي البرازيل، روسيا، الهند، الصين وجنوب افريقيا، والمعروفة اختصارا بـ “بريكس”، “BRICS” . وحسب اطروحته فهو يرشح دولتين لمواكبة أميركا في نهوضها الحادث. والدولتان هما الهند والصين. وفي سبيل الاقتراب من فرضيته يشير الكاتب الى ثلاثةٍ من حقائق الاقتصاد السياسي الكبرى، الأولى هي التحرك التاريخي الاول لرأس المال من أوربا الى الأراضي الجديدة، حيث تمت “مصنعة” الولايات المتحدة أو تصنيعها، وبالمثل المانيا في أوربا. الحقيقة الثانية، التحرك العكسي لرأس المال من الولايات المتحدة إلى اوروبا وشرق آسيا، حيث تم استنهاض اوروبا من تحت رماد الحرب العالمية الثانية. ونهضت كذلك اليابان كدولة صناعية غير غربية، حققت نسبة نمو 9% سنوياً ولمدة 23 عاماً على التوالي! واما الحقيقة الثالثة، فهي تحرك وتنقل رأس المال الغربي عموماً عبر العالم وخاصة تجاه آسيا، حيث انه وبالنتيجة نما إقتصاد العالم في ما بين 1990 و2010 من 22,1 تريليون دولار إلى 62 ترليون دولار، وزادت التجارة العالمية بنسبة 267%. وأن الاقتصادات الناهضة المشار اليها سلفاً اسهمت بما يقارب النصف في ذلك النمو، وهي الان تساهم بما يعادل 47% منه. وهي مساهمة فعلية وليست ظاهرة عابرة، وكما صاغها الكاتب:                                                                                 “Which means that this is not an ephemeral phenomenon”P21.

وفي تلميحة ذكية إلى أن الحراك هو صنو التطور وبأن العلاقة جدلية بينهما قال، بأنه بقدوم السفن في القرن الخامس عشر اصبحت البضائع والسلع في حراك، وبظهور البنوك الحديثة والمصارف في القرن السابع عشر اضحى رأس المال متحركاً ايضاً، واما في عصرنا الراهن فقد اصبح العمل هو المتحرك. وفي ذلك اشار الى ظاهرة “تهجير” أو “نقل” الاعمال التجارية بمصانعها وخدماتها حيت توجد العمالة الرخيصة، وهو مما يعرف بــــــ “Outsourcing of work opportunities” ، اي هجرة او نقل فرص العمل من البلدان الصناعية إلى البلدان الفقيرة!. بالطبع في هذا المقام تبرز الكثير من قضايا الاقتصاد السياسي المتعلقة بالاستغلال والتي تحتاج التشريح والفحص والتقويم. ولكن مما يلاحظه القارئ ان تلك القضايا بالتحديد لم تكن جزءاً من اهتمام الكاتب، او على الاقل لم يعبأ بالوقوف الواجب عندها!.

(3)

يرى الكاتب أن دولة الهند، وباعتبارها احدى الدول الناهضة، تمثل الدولة الأقرب لأميركا وذلك لاعتبار مشتركات عدة، منها رسوخ النظام الديمقراطي والتنوع العرقي والثقافي الذي يسم الدولتين، الهند وامريكا. وفي معرض التقارب بين البلدين أشار الكاتب الى مسحٍ لقياس الانطباع تجاه امريكا تم إجراؤه في ستة عشر دولة في العام 2005، فكانت النتيجة ان 71% من المشاركين في الهند ابدوا انطباعاً ايجابياً تجاه امريكا.

وعلى الجانب الاخر يأتي نهوض الصين، وهو نهوض مقلق. إذ تمددت الصين وخاصة في الجانب الاقتصادي عبر العالم، وكادت ان تأخذ الريادة في اختراقها بعض المناطق في العالم، كأفريقيا مثلاً. وفي سبيل ذلك فهي لا ترعى أي قيود، وذلك هو ما يجعل نهوضها “مقلقاً”. ويشير زكريا إلى ما كتبه “موسيير ناييم” المحرر السابق في مجلة “السياسة الخارجية”، وذلك حول التفاوض الذي كان يجري بين الحكومة النيجيرية والبنك الدولي، في عام 2007، بخصوص قرض قيمته 5 مليون دولار لأجل تطوير مرفق السكك الحديدية. اشترط البنك الدولي أن تقوم الحكومة النيجيرية بخطوات لأجل القضاء على الفساد البيروقراطي في هذا المرفق قبل إجازة القرض. وكاد ان يتم التوقيع على الاتفاق غير ان تدخل الصين حال دون توقيعه، بل واوقفه، حيث انها اعطت، أي الصين، الحكومة النيجيرية قرضاً بمبلغ 9 بليون دولار لاعادة بناء كافة مرافق السكك الحديدية وبدون اي شروط مسبقة، او إجراء اي اصلاحٍ فيما يخص الفساد البيروقراطي المشار اليه!

للكاتب زكريا قناعة كبيرة بأنه ليس هناك ما يهدد سيادة أميركا على العالم. ولو وُجِدَ، فانه ليس بكبير. وتمثله، على اية حال، ثلاثة دول، وهي إيران في منطقة الخليج والشرق الاوسط، فنزويلا في أميركا اللاتينية وروسيا في منطقة اوروبا واسيا. أشار الى السودان والى ما يخلقه من مشاكل في دارفور ولكنه اسقط أهميته في ان يكون مهدداً، وذلك بسبب فقدان السودان لعائدات البترول. وفي حقيقة الامر وفيما يخص السودان فقد أصبح الامر على العكس تماماً حيث انه قد تمَّ تدجين السودان الآن، واضحى ملحقاً بالمشروع الأميركي وبهيمنته!.

من أكثر النقاط المثيرة للانتباه هي ان أجرى فريد زكريا مقارنة تاريخية ذكية بين حالتين مهمتين في التاريخ المعاصر، وهما وضع بريطانيا حينما كانت تسود العالم كإمبراطورية لا تغيب عنها الشمس وبين حالة أميركا الان كأكبر قوى اقتصادية وسياسية وعسكرية في هذا العصر. عاشت بريطانيا عظمتها إلى ما قبل نهايات القرن التاسع عشر، حيث كانت تنتج 30% من اجمالي الانتاج المحلي العالمي وتقوم بــإدارة 20% من تجارة العالم، و بتصنيع 40% من البضائع التجارية وتستهلك من الطاقة ما يعادل 5 مرات مما تستهلكه أميركا وبروسيا وقتها! أنجزت بريطانيا كل ذلك بعدد سكان يساوي 2% من سكان العالم حينها! بدأ تدهور الامبراطورية البريطانية مع خوضها لحرب البوير في جنوب افريقيا والتي انتهت في العام 1902، والتي لم تستطع بريطانيا ان تحقق فيها نصراً حاسماً كما فعلت في معركة كرري بامدرمان، وكما كانت تتوقع! كان ذلك هو الوقت الذي بدأت فيه امريكا تخطو عملياً نحو ان تكون قوى مؤثره.

(4)

يقول المؤلف بأن المصير الذي واجه الامبراطورية البريطانية والذي انعكس في انكماشها وزوالها كإمبراطورية، ولأن تصبح بعد ذلك مجرد دولة كبرى من ضمن عدد من الدول الكبرى الأخرى، إن هذا المصير، حسب رأيه، لا ينتظر امريكا. وذلك لجملة اسباب، منها ان الريادة الاقتصادية لأميركا استمرت اكثر من البريطانية، فأميركا تقود العالم اقتصادياً لأكثر من 130 عام حتى الآن، فقد كان نصيبها من إجمالي الإنتاج المحلي للعالم يكاد ان يكون كما هو وظل الأعلى في العالم، 32% في عام 1913، 26% في عام 1960، 22% في 1988، 27% في عام 2000،و 26% في العام 2007 (ص198).هذا اولاً، ثم ثانياً ان أميركا تنفق 50% من انفاق العالم في مجال الدفاع، وخاصة في مجال البحث. وثالثاً، قيادتها للعالم في مجال العلم والتقدم التكنولوجي، مثلاً ظلت أميركا تتحصل على براءات إختراع في مجال النانوتكنولوجي بقدرٍ يفوق ما تتحصل عليه بقية الامم مجتمعةً! وذلك مما اعطاها القدرة في تحويل المعرفة المجردة إلى منتجات مادية. وعند هذا المقام اقتطف زكريا قول البروفسير “بياترا ريفولي”استاذ التجارة الدولية في جامعة جورج تاون حيث قال للنيويورك تايمز، “تذهب القيمة إلى حيث توجد المعرفة”. ولهذا السبب افرد الكاتب في الفصل السادس جزءاً خاصاً بالتعليم باعتبار انه اهم قطاع بالنسبة لأميركا، وفي هذا الصدد جاء بمعلومات وإحصائيات مذهلة وفي غاية الاهمية. وفي حقيقة الامر يعرض الفصل السادس لمكامن قوة أميركا. وهو من اهم فصول الكتاب. ولكن وبرغمه، يظل الجزء الذي كتبه تحت العنوان الجانبي، “الغربنة” ، “Westernization”، من اجمل ما كتب من إضاءات تاريخية ضرورية.

بالرغم من ثراء ما عرضه فريد زكريا في كتابه الا أن القارئ قد يلاحظ بانه لم يتوقف وبحس نقدي عند حقيقة استخدام أميركا لهذا التفوق لأجل تسبيب كثير من الكوارث والآلام  للبشرية جمعاء. إذ انها وبقدر ما تقف جمعياتها الشعبية والأهلية على رأس العالم في مجال العون الانساني إلا ان إداراتها الحاكمة لا تُنافس في مجال إدارة الشر وقيادته، ونشر الخراب، وإحالة حياة شعوب بأكملها إلى جحيم.

في معرض كتابته عن ظاهرة وجود القطب الاحادي على مستوى العالم، والذي تكرر في التاريخ المعاصر، إذا كان في حالة الامبراطورية البريطانية او حالة “العالم الأميركي” الآن، كاد ان ينزلق الكاتب للدعوة المبطنة بــ”ضرورة” وجود “دكتاتورية ما” على مستوى العالم، وهو ما اراد ان يبرر له بقوله:

“Although both made many mistakes, the stability of the system and the success of the world economy and the open societies it created are an extraordinary legacy of Anglo American hegemony”(P267).

(5)

ومما قد يستوقف القارئ ايضاً قولٌ عابرٌ للكاتب، صاغه وبجرأة غير مسنودة، حول المفكر كارل ماركس، إذ وصفه بأنه “اقتصادي ضبابي” او “مفكر آيديولوجي غير دقيق” مع الإقرار له بانه، اي ماركس، عالم إجتماع موهوب!.

إنه، ومن الإنصاف المعرفي، لا يستقيم الزج برأي مقتضب كهذا في حق مفكرين كبار من امثال ماركس. الذي جاءت جل مساهماته، وكما هو معلوم، لأجل اجلاء الضباب عن الفكر، وخاصة على صعيد الإقتصاد! يعتبر كارل ماركس، إذا كان من باب الاتفاق او الاختلاف معه، واحداً من مفكرين قلائل يصعب القول بضبابية ما انجزوه في مجال الفكر عموماً، هذا إن لم يكن من الاستحالة بدءاً.

وفي الختام، أعتقد ان فريد زكريا كتب كتاباً مهماً وذا قيمة، يستحق الاطلاع عليه. جاء فيه بكثير من المعلومات، التي تمكن من توظيفها وبشكل موفق في ان تجعل افكاره واطروحاته أكثر تماسكاً.

(*) كنت اود ترجمة عنوان الكتاب بـ “ما بعد العصر الأميركي”، ولكني تراجعت الى ما هو حرفي، حتى لا يكون هناك تجني على العنوان وعلى ما أراده المؤلف. ورأى الاخ عبد الله ميرغني، الذي اطلع على المقال، بإمكانية ترجمة العنوان بـ”ما بعد الحقبة الأميركية”، وهي في اعتقادي ترجمة اكثر جذباً من غيرها.

التعليقات مغلقة.