عصبيات الدولة السودانية

عصبيات الدولة السودانية
  • 20 سبتمبر 2019
  • لا توجد تعليقات

د. يوسف السندي

(لا يمكن الحصول على الملك و الدولة الا بعصبية) ابن خلدون.

ظهرت اولى العصبيات التي وحدت الشعب السوداني مع الثورة المهدية ، حيث استطاعت الثورة المهدية في القرن قبل الماضي توحيد الشعب السوداني ضد المستعمر التركي و طرده من البلاد و إقامة دولة سودانية حرة ، و كانت عصبية الثورة المهدية تنبع من إذكاء الروح الدينية والوطنية في الشعب السوداني.

وجدت دعوة الإمام محمد أحمد المهدي تجاوباً سريعاً وهائلاً  من جميع فئات الشعب ورغم وجود بعض المشككين الا أن طبيعة عصبية الدين والدعوة للتحرر من ضيم الاستعمار لم تترك مجالاً منطقياً يدعم دعوات المناهضين للمهدية، لذلك حققت الثورة المهدية انتصارات كاسحة على المستعمر، و فداها الشعب السوداني بدمائه في ملاحم مازالت ترن في أذن التاريخ.

عاد الاستعمار مجدداً معتمداً على تفوقه العسكري وامتلاكه الآلة الحربية الفتاكة في مواجهة جيوش المهدية كثيرة العدد قليلة التسليح وغرق الوطن من جديد في ظلام الاستعمار.

ضد الاستعمار الجديد لم يستخدم السودانيون مجدداً القوة الدينية العسكرية التي استخدمها الإمام المهدي من أجل الثورة؛ وذلك لأن المستعمر فطن لهذه العصبية وعمل على محاربتها مبكراً في أوساط الجماهير من خلال اتباع وسائل التشكيك والتفرقة وإشانة سمعة المهدية، وبخاصة فترة حكم الخليفة عبدالله ود تورشين، ومحاربة الأنصار وكل من يساعدهم وقتل الرجال من أسرة الامام المهدي ونفي من وقع في الاسر من قادة المهدية، كل هذه الترتيبات كان القصد منها فصل الجماهير كلية عن أي امل او رمز للثورة وعن استعادة عصبية الدين والتحرر المشتركة.

نجح المستعمر في مخططه ذلك، إذ لم تشترك جماهير الشعب السوداني متحدة في أي نشاط ثوري ضد المستعمر يماثل عظمة الثورة المهدية، و كانت الحركات مثل ثورة اللواء الأبيض ثورة ود حبوبة أو غيرها ثورات صغيرة متقطعة حول السودان تنشط محدودة العدد والرقعة الجغرافية، وتنطفيء بدون أن تتمدد لتشمل كل جماهير الشعب السوداني.

مع غياب هذا النوع من العصبية الثورية بفعل وتخطيط استعماري لم يستكن الشعب وسعى إلى تطوير عصبية أخرى، و ترافق ذلك مع ظهور عصبة الأمم و تغلغل التعليم النظامي في السودان، إذ ولدت عصبية سودانية جديدة وهي العصبية التحررية السياسية، التي تعتمد على النضال السلمي السياسي من أجل انتزاع الحقوق والحريات ، ووصلت هذه العصبية إلى قمة نضجها بتكوين الأحزاب السياسية السودانية في أربعينيات القرن الماضي وبخاصة حزبي الأمة و الاتحادي.

 استطاع السودانيون من خلال هذه العصبية السياسية إدارة معركتهم ضد المستعمر بطريقة ممتازة توجت في الأول من يناير ١٩٥٦م بالاستقلال الكامل للسودان من الحكم الإنجليزي المصري عبر المفاوضات و بدون إطلاق طلقة واحدة وبعد حدوث إجماع كامل خلف شعار السودان للسودانيين.

بعد الاستقلال انتهت قيمة عصبية التحرير السياسي من المستعمر، وظهرت الحاجة لعصبية انتخابية من أجل حشد الجماهير لبرامج الأحزاب وصولا للسلطة، وقد كسب الجولة الاولى الحزب الاتحادي وكسب الثانية حزب الأمة، افرز النزاع حول السلطة بين الأحزاب السياسية في ذاك الوقت المبكر من عمر الاستقلال ثغرات كثيرة في الممارسة السياسة قادت إلى حدوث الانقلاب الاول بقيادة عبود، ومن النتائج الكارثية لهذا الانقلاب ظهور عصبية جديدة تمثلت في عقيدة الحق العسكري لضباط القوات المسلحة السودانية في توجيه السياسة والسياسيين ، وقد عاني الشعب السوداني من هذه العصبية كثيراً في تاريخه، ولم يستطع منها فكاكاً حتى اليوم، وربما يرجع ذلك الى فشل الشعب والنخب السياسية في تطوير عصبية جديدة تناهض فكرة الاستيلاء بالقوة على السلطة بواسطة الأحزاب السياسية مستخدمة في ذلك ضباطاً من الجيش السوداني.

ثورة ديسمبر المجيدة قدمت لأول مرة في تاريخ الشعب السوداني عصبية جديدة نحت نحو إقامة دولة مدنية، كأنها كانت دعوة صريحة ومباشرة في القضاء على العصبية العسكرية التي قامت عليها ٥٢ سنة من عمر استقلال السودان البالغ ٦٣ سنة.

هذا التحول المهم و الحاسم في العصبية السياسية للدولة السودانية لو واصل العمل بحيوية مثلما فعل أيام الثورة وحتى الآن فإن التاريخ يفتح ذراعيه لعصبية سياسية عظيمة سوف تنتج بلا شك وطن سوداني مدني سيكون له المكان والموقع المؤثر في خارطة الإقليم و المنطقة.

يوسف السندي
sondy25@gmail.com

التعليقات مغلقة.