من النهود إلى الخوي خيوط النار تمتد إلى دارفور 

النهود، تلك الحاضرة الوادعة التي طالما ظلت على حافة الصمت، وقفت اليوم شاهدة على مشهد يعيد للأذهان سقوط مدني؛ سقوط لم يكن سقوط مدينة، بل انكسار روح، وانكشاف نوايا، وفتح جبهة أخرى في رقعة الشطرنج الدامية التي يُلعب فيها الوطن كبيدق، وتُستباح فيها الجغرافيا كغنيمة. ما حدث في النهود ليس عملاً معزولًا، بل صفحة أخرى من كتاب الفوضى المرسوم بعناية، إذ الغرض بيِّن: فك الطوق عن الفاشر، واستدراج الحمر كما استُدرج أهل الجزيرة، لا دعوةً للحرب، بل استفزازًا إليها، ودفعًا مُمنهجًا نحوها.
في أعقاب كل مدينة تسقط، لا تُقام دولة، بل تُعلَّق أرواح على مشاجب الغنائم، يُقتحم فيها العرض، ويُسرق فيها المال، وتُحرق فيها الأرض. الدعم السريع لا يدخل مدينة دخول الضيوف، بل اجتياح المغول، يجلب معه ما لا عين رأت من مجازر، ولا أذن سمعت من صرخات، ولا خطر على قلب بشر من إذلال، ونهب، واغتصاب، وتعذيب، حتى تغدو المدينة وكأنها ساحة من سقر. وإن كان الإنسان السوداني قد طُبع على الصبر، فقد قيل في الأثر: “الفش غبينتو حرّب مدينتو”، وإن لم يكن السلاح خيار الحمر، فستحملهم الإهانة إليه على أجنحة الغضب، كما حملت من قبل سكان الجزيرة.
ولأن الكلمة عند السودانيين إن لم تقترن بالكرامة فهي هواء، فإن أبناء الحمر في الدعم السريع، حين يرون النهب يطال أهلهم، والذل يُسقى لنسائهم، سينفضون أيديهم من بيعة الذل، كما فعل كيكل، وسينزعون عنهم ثوب العار ويلبسون درع الرجولة، ويعودون إلى الصف الوطني وقد غسلوا عن وجوههم غبار الخيانة. فالذي يعجز عن الدفاع عن أهله لا يستحق أن يحمل سلاحًا، ومن ينهب أهله لا يُسمى مقاتلًا بل خائنًا، قال أحد حكماء البادية: “الود الكان راجل بيبكي لو أمُّو انداست”، فكيف بمن يرى عرضه يُنتهك، وسكينه في غمده؟
جغرافيا دار الحمر ليست رفاهية حياد، بل ضرورة موقف، فالجيش الذي يسعى للتحرك غربًا نحو دارفور، لا يمكنه أن يترك خلفه جبهة رخوة، أو صمتًا مريبًا. كل شبر من هذه الأرض الواسعة، إن لم يكن لك، فهو عليك. وإن كانت الخوي على بعد مئة وعشرة كيلومترات من الأبيض، فإنها على بُعد نبضة من قلب المعركة، وإن انسحب الجيش منها، فذلك يعني سقوط الأبيض في مرمى الفوضى، وتحول النيل الأبيض إلى مستنقع من دم.
تمدد الدعم السريع في ديار الحمر أشبه بمن يخطو على جمر بلا نعال، تحرك غير محسوب، اضطراري، وليس اختيارًا، فالدعم السريع لا يجهل العواقب، ولكنه يخشى الأقدار. يريد أن يمنع الجيش من الدخول إلى دارفور، لأن دارفور ليست كما يظنها البعض، حاضنته الأزلية، بل مخزن غضب عليه، ومرجل ثأر يغلي تحت رماد الهدوء. فالقبائل الدارفورية التي ذاقت ويلات الدعم السريع، لا تنام على ضيم، و”الجمرة بتحرق الواطيها”، وقد آن الأوان لأن تُرد المظالم وتُغلق حسابات الدم.
إن الحمر، قومٌ إذا ما اشتد أوار المعركة، لا يفرّون، وإذا استُثيرت نخوتهم، لا يُهادنون. ومتى ما قرروا الدفاع عن ديارهم، فإن الرصاصة تتحول في أيديهم إلى شرف، والمدفع إلى عهد. تسليحهم وإن كان خفيفًا، إلا أن العزائم الثقيلة تسحق الحديد. فإن أُمدّوا بدعم عسكري حقيقي، فالنصر لهم أقرب من حبل الوريد، والدعم السريع إلى زوال، والجيش إلى دارفور سالكًا لا يخشى ظهراً مكشوفاً، ولا خاصرة رخوة.
في الأمثال السودانية، يُقال: “الما بيغلبك بيجري قدامك”، وها هو الدعم السريع يتوسّع في رقعة لا يحسن فنون القتال فيها، ولا يعرف تضاريسها السياسية ولا مفاتيحها الاجتماعية. وما أسرع ما ينقلب السحر على الساحر حين يظن أن الصمت رضى، والحياد جبن، والكرم خنوع. إن دار الحمر، بتاريخها، وكرامتها، وحمولتها القيمية، لا يمكن أن تكون حصان طروادة للغزاة، ولا ساحة عبور للمليشيات.
حين كتب الطيب صالح: “من أين جاء هؤلاء؟”، كان يقصد غُربة الفكر وغرابة السلوك، ونحن اليوم نعيد سؤاله أمام مشهدٍ يشبه الأساطير السوداء: من أين جاء هؤلاء الذين لا يعرفون حرمة دار، ولا كرامة امرأة، ولا معنى الوطن؟ وهل يدوم احتلالٌ بلا أساس؟ وهل يُبنى مشروع سياسي على جثث الأبرياء؟
المنطقة الآن على مفترق الطرق، وإن لم ينهض أهلها للدفاع عنها، فستتحول إلى ضيعة يُقتسمها الطامعون. لكن التاريخ لا يرحم، والذاكرة لا تموت، وإن خُذل الإنسان في وطنه، فإنه يخرج منه وحشًا لا يُروّض.
نختم بما قاله أحد الحكماء: “البحر إن هدَر غطى”، وإن ثارت دار الحمر، فستغمر هديرها الرمال والجبال، ولن تبقي للدعم السريع موضع قدم ولا غطاء من نار.