انهيار الجنيه والدولار(عد” وفات) ال 3 ألف جنيه.. كابوس الدولار ووداعة وديع….!!

*استفاق(وديع) للتو على وقع زلزال الدولار الأمريكي وهو يخترق بقوة حاجز ال 3 ألف جنيه لأول مرة في تاريخه. لأول مرة يستشعر كمواطن بسيط الخطر الذي يهدم له ما تبقى من فتات أحلام، مستفيقا” من سباته العميق. هزات متتالية خلال الأسبوع الحالي. أربكت حساباته تجاه مدخراته التي عكف على جمعها لسنوات طويلة قبل أن تصبح مجرد أوراق تذروها الرياح. فالدولار منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023، ارتفع (من 560 إلى 3000 جنيها”) وصولا” إلى 3200 وزيادة، مرتفعا بما يقارب 600%، وما زال الطريق ممهدا للمزيد.*
*تألم وديع كثيرا حين علم أن ضجيج السوق هذه المرة، يخصه أيضا”، ويزيح عنه وهم تلك الطمأنينة الكذوبة التي أحاط بها نفسه طويلا”، باعتبار أنه يعيش(على هامش الحياة)*.
*حتى لو كنت على الهامش سيلتهمك الطوفان.. هذا ما حدثته به نفسه الأمارة بالأوهام. إلى وقت قريب كان الظن بالنسبة لوديع أن ما يحدث في سوق (الدولار) هو شأن الأثرياء والتجار وحدهم. لكن إحساسه بما يدور من همس هذه المرة، كان مختلفا”، ولسان حاله يقول: (بل بس).*
حتى حدوث هذا الزلزال لم يكن (وديع ) يعير الأمر أدنى اهتمام. لكنه مع الارتفاع الجنوني لأسعار السلع بدأ يستشعر تبعات الزلزال، وربما ببعض وخز وحيرة، مستخلصا” لنفسه تجربة جديدة، مفادها أن مد وجزر الدولار هو ما يصنع الفارق، ويعيد خلط الأوراق وبخاصة في المجتمعات الهشة.. ويخلق واقعا جديدا على الأرض. واقع يزيد الأغنياء غنى والفقراء فقرا”.
يذهب وديع في كل مكان ويجد أن الأشياء تتغير حوله. أصبح عليه اليوم أن يدفع أكثر مقابل نفس ما اعتاد على شرائه بالأمس. إنه يتعلم ولكن بعد فوات الأوان على ما يبدو…!!
ظل (وديع)، مرتاحا” زمن الحرب، متوهما” أنه بتلك الوريقات النقدية التي بحوزته أو في حسابه، قد أصبح في مأمن، بعيدا” عن ما يتهيب منه الناس. بلمسة على هاتفه، بدأ(وديع) يستعرض ميزانيته الشخصية التي لم يتوقف رفدها بالسيولة، معززا ثقته تجاه وضعه المالي المتنامي حسب ظنه. هو ما زال يتلقى دخلا راتبا” بحدود 450 ألف جنيه شهريا. هذا على الرغم من انقطاعه عن الذهاب إلى مقر عمله منذ اندلاع الحرب.
ما لا يعلمه وديع أن دخله الشهري قبيل انهيار الجنيه الحالي كان يعادل ما يزيد عن 800 دولار، مقابل 150 دولار حاليا…أصبح يخسر (مع بقاء الأشياء الأخرى دون تغيير) نحو 650 دولار شهريا”، والخسارة في ازدياد مع كل تراجع للجنيه..!!
بدا(وديع) على غفلته، أكثر ثقة وهو يستعرض رصيده المتراكم البالغ 15 مليون من الجنيهات (15 مليار بالقديم) أي ما يقارب وفقا” لحساباته 27 ألف دولار بالتمام والكمال. ما يعزز ثقته أنه لم يعد ينفق منه الكثير، وبخاصة بعد نزوحه إلى قرية نائية لم تصل إليها نيران الحرب بعد. لكن على أرض الواقع، لا يعد كل ذاك، سوى رصيد أكل عليه التضخم وشرب، وقد تأكلت قيمته تماما (هبوطا حتى 5 ألف دولار) بحسابات ما بعد زلزال الدولار الأخير. هو اليوم يدفع قسرا ثمن عجز السلطات الاقتصادية عن حمايته في مواجهة التحديات. الحرب تلتهم حتى مدخرات الناس في البنوك..!!
قبيل اجتياح كابوس الدولار الأسواق، ظل (وديع) يفرط في التفاؤل والأحلام ويلوح بقدرته على تجربة اقتحام عالم التجارة من خلال بزينس صغير ينمي من خلاله (ثروته) التي بدت تزداد على الورق، فيما غيره يغوص في وحل البطالة وفقدان الأمل. فوديع على الرغم من بساطته يتوق إلى الانضمام إلى نادي الأثرياء متسلحا” بتلك المليارات المتوهمة، وتزايد هذا الإحساس لديه بعد الحرب حيث أنه من قلة تتقاضى راتبا” شهريا كاملا” بلا نقصان.
لكن ما لم يدركه (وديع)، أن كل أحلامه تلك، كانت مجرد ظنون لا وجود لها على أرض الواقع. فللحرب أوجه متعددة قد تكون أحيانا أشد قسوة من دوي المدفع وقعقعات الرصاص… ومن لم يمت بالرصاص أننهكه الفقر وانضم إلى زمرة الجائعين والفقراء. صناعة الفقر متلازمة الحروب أينما اندلعت، ناهيك من اقتران الحرب بالفساد…!!
على الرغم من زلزال الدولار الذي ضرب الاقتصاد السوداني بقوة 11 ريختر هذا الأسبوع، إلا أن وديع ومعه كثيرين، لم يتعلموا بعد، أن قوة النقود لا تكمن في كميتها، بل في قوتها الشرائية. وأن ما يراه من مال وفير أنمامه، قد يكون مجرد فقاعة أنو وهم لا يعكس الحقيقية. وأن مثل هذه الحرب أول ما تفعله بعد حصد الأنفس، هو حصد الثروات وإفقار المواطن وسرقته. إنها الشفشفة للمواطن بطريقة مختلفة، وسرقته على غفلة منه، ومن دون أن يعلم من الذي سرقه؟ كيف؟ ولماذا؟؟.
التحلي بقليل من الوعي الاقتصادي يكتسب أهمية في زمن الحرب. فمن مهام الحروب إعادة صياغة المجتمعات من نقطة الصفر أي بعد تصفير العداد للجميع.
(وديع) يسمع مثل غيره عن ارتفاع الدولار وانخفاض الجنيه، لكن كل ما يعرفه هو أن الأسواق ترتفع مع ارتفاع الدولار. ذهب إلى السوق فوجد أننه يدفع 100% زيادة في تعرفة المواصلات، كما وجد ارتفاعا اكثر في أسعار حاجياته من السلع مثل الزيت والسكر. أما رغيف الخبز فقد صار شبه معدوم على الرغم من ارتفاعه لمستويات قياسية.
بدأ القلق ينتاب(وديع)، لأن عليه الآن أن يدفع أكثر وأكثر في شراء نفس حاجياته السابقة، مع ثبات دخله الشهري، ما يعني أنه لن يعد قادرا على الإدخار، هذا إذا لم يكن مضطرا إلى الاستدانة. بدأ يشعر بما يحدث حوله، ولكنه غير قادر على الوصول إلى حقيقة أنه يتم سرقته بطريقة رسمية!!. ونفس السارق سيطل عليه عبر القنوات الرسمية مؤكدا سعيه الحثيث لتخفيف وطاة ارتفاع الدولار على المواطن.
خلال الأسبوع الحالي تراجع الجنيه السوداني وانهار بصورة غير مسبوقة أمام الدولار. العملة الأمريكية هي المفضلة حتى الآن لدى السودانيين. ويلعب هذا المزاج السوداني دورا مهمة في تغذية سوق الدولار وزيادة الطلب عليه وبالتالي ارتفاعه.
وديع ليس حالة وحيدة في الاستغراق في ذلك السبات العميق وحالة اللاوعي التي تجعله يخسر القيمة الحقيقية لمدخراته، ليستفيق على وقع خسارته الصادمة في الزمن الضايع. عامة الناس يقعون دائما فيما يسميه الاقتصاديون بمصيدة وهم النقد (money illusion). أي الاهتمام فقط بالقيمة الاسمية للنقد المتوفر لديهم، مع تجاهل القيمة الفعلية والتي تعني القوة الشرائية. الأموال تتآكل من خلال التضخم الذي يدمر القوة الشرائية.
وديع خسر معظم مدخراته، دون أن يعلم ما فعل به القاتل الصامت للثروة ( ارتفاع الدولار وتابعه التضخم)، لكنه اليوم استوعب الدرس وتعلم بعض الدروس مقابل ثمن غال. أصبح يفهم أن انهيار العملة عامل من عدة عوامل مسببة للتضخم التي تلتهم ثروته. من بين تلك العوامل زيادة السيولة في الأسواق. ومن أسباب التضخم ارتفاع الطلب أو تراجع العرض.وفي زمن الحرب تعمل كل هذه العوامل مجتمعة في نهش أصول المواطن المسكين وتزيده فقرا”.
الأسعار سوف تواصل الارتفاع، كما فهم وديع لسبب بسيط هو أن عجلة الإنتاج في البلاد متوقفة تماما، كما لا تصدر الدولة سوى القليل مقابل واردات تزيد عن ال 10 مليارات دولار سنويا. فوديع اليوم أصبح مستعدا لتجاوز محنة الحرب، لينطلق مجددا من الصفر متسلحا” بالوعي. كما سيتحوط بالأصول غير النقدية في مواجهة حروب الدولار المقبلة حيث (المجد للدولار).
2025/7/23