ذكريات على جدار الزمن مع صلاح وأبو قطاطي

أجمل كؤوس الذكريات مذاقًا، تلك التي عشتها وتعرفت عبرها على من صاغوا وصنعوا جمالياتها في الفن، لأكتشف معهم مناطق العتمة في دواخل الفنان أو الشاعر. أتحدث هنا عن علاقة خاصة ربطتني باثنين من عمالقة الشعر، ولطف الله بهما أنهما غادرا الفانية قبل أن يجتاح سماء السودان هذا الظلام المخيف، الكفيف البصر كما وصفه الحسين الحسن في رائعته “حبيبة عمري”.
(2)
أول هذين العملاقين هو الشاعر الرقيق صلاح حاج سعيد، الذي جمعني به حوش العمل في مؤسسة التأمينات الاجتماعية. كان يعمل في الإدارة القانونية، بينما كنتُ مديرًا لمكتب بحري، وكان بيننا تواصل دائم تطوّر إلى علاقة إنسانية خاصة. لكن الأعذب من كل ذلك كانت ثنائيته الخالدة مع مصطفى سيد أحمد، الحزن النبيل:
بقيت أغني عليك غناوي الحسرة والأسف الطويل
عشان أجيب ليك الفرح رضيان مشيت للمستحيل
ومعاكِ لي آخر المدى
فتّيني يا هجعة مواعيدي القبيل
بعتّيني لي حضن الأسى
سيّبتيني للحزن النبيل
(3)
أما الثاني، فقد جاءني ضيفًا مجهول الهوية في البداية. رفض عديلي عصام أن يفصح عن اسمه، وكنت وقتها مقيمًا بحي الصفا. اتصل بي وقال إنه في الطريق ومعه ضيف غامض، فتركني حائرًا. فتحت الباب، فإذا بالضيف الذي كان خارج كل حساباتي… إنه الشاعر الفذ محمد علي أبو قطاطي، بشحمه ولحمه. جاء لأداء العمرة، ومكث معي أسبوعين. كان طيبًا، بشوشًا، خفيف الظل، صاحب طرفة وسيرة.
(4)
تعلّق به ابني عمر (مهندس الاتصالات الآن)، وكان وقتها في الخامسة من عمره. كان أبو قطاطي يحكي له قصص مكر الثعلب ودهاء الغراب، ويحدثني أنا عن رحلته إلى كوريا الشمالية بدعوة من رئيسها آنذاك كيم إيل سونغ.
قال لي ذات مرة إنه ينوي زيارة رجل الأعمال صلاح إدريس، وحين عاد سألته إن كان زاره، فأجابني:
“كيف ما شُفتني؟ مشيت طوالي باب شريف!”
وكان يقصد بذلك باب شريف، السوق الشهير في جدة لبيع الهدايا والحاجيات.
(5)
بعد أسبوعين، شكرني وشكر أسرتي على الضيافة، وطلب مني أن أوصله إلى السفارة السودانية. أوقفت السيارة أمام المدخل، فنزل برجله اليمنى استعدادًا لإنزال اليسرى، وهنا سأله ابني الصغير سؤالًا بريئًا:
“عمي محمد… إنت تاني ما جاي؟”
فتوقف عن النزول، تأملته فإذا بدمعتين حارتين تنهمران من عيني شاعر “الفينا مشهودة والحارة بنخوضا”.
رحم الله أبو قطاطي، وسأظل نادمًا على فقداني لتلك القصيدة التي سلّمني إياها شكرًا وامتنانًا، وكانت عرفانًا بكرم الضيافة. لو احتفظت بها، لربما خلدت اسمي واسم أسرتي… وربما انتهت إلى حنجرة فنان، ينقلها للعالم.