الإثنين - 26 ذو الحجة 1446 هـ , 23 يونيو 2025 م

” حميدتي”: لا مشكلة لنا مع دول الجوار ومشكلتنا مع مصر سنحلها بالحوار

ليلة سمر في نيوجيرسي

ليلة سمر في نيوجيرسي
خالد عبدالحميد عثمان محجوب

(شكراً صلاح شُعيب، إبراهيم سوناتا، أحمد طراوة
وبقية السُمَّار)

  ليلة كانت وكأنّها من أزمنة العباسيين، حديث العارفين بالأغاني والمعازف، كنّا في بدايات الشتاء، برودة خفيفة عمّت المكان والسماءُ صافية والكلُ آذانٌ صاغية، الجمعُ في مدينة تضج بالحياة والتنوّع وبها ثُلّةٌ من السودانيين الرائعين اسمها جيرسي سيتي تقع في الطرف الشمالي الشرقي لولاية نيوجيرسي وداخل محيط نيويورك الكبرى. توافرت كل العوامل لندوة أو ليلة سمر عن الغناء السوداني، تم تنظيمها برعاية الجمعية السودانية الأمريكية بجيرسي سيتي. ويْكأنَّ كل ما يتشكّل منه هذا السودان يكفي أن يكون مُحرّكاً للحنين وكفى به حدثاً في ذاته.

في ليلتنا هذه أتانا -قاطعاً السهول الفسيحات- محدّثنا الأستاذ الباحث متشعّب المعارف صلاح شعيب، أتى وفِي حافظته كنوزُ موسيقى وفنون، وهو علمٌ من أعلام الإعلام. طوّف في بلاد الدنيا ما طوّف ثمّ استقر به المقام في أمريكا.، واكتملت الصُحبةُ ببهاء حضورِ الفنّان الأشمل إبراهيم سوناتا، الَّذِي أتته جلُّ الآلات الموسيقية طائعة منقادة، درس الموسيقى ودرّسها، يوزّع ويلحّن ويعزف ويغنّي، وهو في كل هذا من البارعين، وهو أيضاً استقر مؤخراً في أمريكا، حقٌ أن يحتفي السودانيون بوجوده بينهم أَيْنما حلْ كما حق أن تتلفّح أرضٌ غادرها السّوادَ في حِداد.
أتى الرجلان ليحدّثا الحضور في دار السودان بجيرسي سيتي عن الغِناء في ديار السودان مصحوباً بنماذج عمليّة عزفاً وغِناءً.
الحديث كان للدِقّة عمّا وراء الغِناء! عجبي وما ذاك؟ والإجابة تطول بل حقّاً طالت واستطالت لتغطّي سويعات الندوة التي ما شعرنا لتصرُّمِها وقعاً.
وكل ذلك كان مسامرة وملامسة لمواضيع ماوراء الغِناء، خذ بعضاً من حديث شعيب الَّذِي تشعّب وهو يسكب المعرفة بثقةِ المتمكّن من حديثه ويتنقّل برشاقة في ما وراء الأغنيّة السودانية وتقاطعاتها العديدة مع التاريخ والجغرافيا والسياسة والاجتماع.
حديثٌ مُشوّق ويفتح أبواب للدراسات والاستزادة عن: أثر الأفرقة والعروبة في سلّم الغِناء مع إضاءات للشريط الممتد من السنغال إلى أثيوبيا مروراً بما بينهما. القوميّات السودانية المتعدًدة وإيقاعاتها المتفرّدة وتوحُّد كل هذا في الأغنيّة الّتي هي مرتكز السودانوية بامتياز، رغم كل ما يفرِّق السودانيين، حيث أنّه في زمان الناس هذا تبقى الأغنيّة هي المُوَحِّد المشترَك الأعظم. كانت له وقفات مع قضية اللحن والمُلحِّن واستعرض أسماء شامخات في التاريخ وعرّج على غياب أسماء كبرى في عالم التلحين اليوم محاولاً تحليل الأسباب ومُجرياً مقارناتٍ علمية إحصائية لِكمِّ الألحان في أجيال سبقت (برعي مثالاً)، وتعريجاً على المُلحِّن المُؤدّي، الظاهرة الّتي كانت سائدة، مع وقفة مستحقة مع (مصطفي) ومشروعه الخارق، أمّا انحدار الغِناء اليوم فقد أخذ حظّاً من التحليل غير قليل.
لا أستطع في هذه الأسطر إِلَّا محاولة حصر لبعض من جوانب الحديث، فأيّاً منها وكلَّ نقطة أُثيرت تحتاج لندوة منفصلة، مثال ذلك، أغنية أمدرمان، أغنية الحقيبة، السيريالية في الغِناء، الأغنيّة الفصحى، أوجه الشبه مع الأغنيّة العالمية، الثلاثيات ومن ثَم الثنائيات، الأصوات النسائية، الأغنيّة الوطنية، وغير ذلك كثير. أما رأيت أنّ أبا الفرج الأصفهاني قضي نحو خمسين عاماً لإتمام مؤلّفهُ المعروف (كتابُ الأغاني) في أزمنة ازدهار الفنون .
ثمّ إنّ الحديث تمدّد لما وراء أغنيتنا السودانية بتذكير الحضور بواقعة ذات دلالة، وهي أنّ الفنّان الأمريكي المعروف جيمي كلِف (Jimmy Cliff) زار الخرطوم أيام كانت الخرطوم تستقبل المبدعين بحفاوة وشغف، و كيف كانت ردّة فعلِه حين رأى أثناء تجواله بمتحفنا القومي، آلة نفخ موسيقية (ترمبيت) تعود لمملكة مروي ويزيد عمرها على ثلاثة آلاف عام أو نحو ذاك. هل نحن من أثّرَ في الموسيقى العالمية؟ أم نحن من تأثّر؟ فتفكّر!
واستمعنا في ليلتنا تلك من السوداني الوحيد الَّذِي كان شاهد عيان في ولاية ميسيسبي حين اعتلى المسرح آخر أفراد فرقة البي جيز ( BEE GEES ) الشهيرة في مناسبة تكريم للفرقة الّتي طافت العالم. سُئل الرجل عن أين كانت أجمل حفلات فرقتهم، كان الرد، خرطوم سودان… فيا لارتعاش القلب حين تسمع هذا، ويسألنا الآخرون في المنافي، لِمَ نتشبّث وتبقى قلوبنا مُعلّقة بهاتيك البلاد، (الكل ما طايبتها فتحت على جرحك جرح) بعض الإجابة هو ذا، تلك الأشياء الصغيرة والمفاخر الكبيرات في وجدان الأُمَّة.
أدار الندوة بحنكة خبير ذو إلمام واسع بالإرث الفنّي البروفيسور ميرغني الحاج فأبحر بها بسلاسة، وعقّب عليها رصداً وتعليقاً أحد أقمار ولاية نيوجيرسي الدكتور أحمد طراوة المُثَقَّف الضخم والموسوعي المعرفة فكان خير إضافة لخير ضيوف.
محدّثنا الأستاذ صلاح شعيب الَّذِي خبِرتْهُ وعرِفتهُ دروب السياسة مصادماً من درجة فارس وصاحب رأي سديد، تحدّث عن الغِناء السوداني بدراية حُجَّة ومعرفة عالِم. شارك الموسيقار الموهوب إبراهيم سوناتا بالتحليل والعزف والغناء فأبهر الحضور بالحضور المدهش والمعرفة العميقة بعوالم الغِناء السوداني.
شكرنا الغزير لكل من جعل هذا ممكناً، والكلمات كعهدها لا تكفي وتعجز عن الامتنان لكم وللعِلم والفن الَّذِي سكبتموه ذات ليلة في مدينة تضج بالحياة والتنوّع وبها ثُلّةٌ من السودانيين الرائعين اسمها جيرسي سيتي.

لا توجد تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

حجز اسمكم المستعار سيحفظ لكم شخصيتكم الاعتبارية ويمنع الآخرين من انتحاله في التعليقات
دخول سجل اسمك المستعار
حجز اسمكم المستعار سيحفظ لكم شخصيتكم الاعتبارية ويمنع الآخرين من انتحاله في التعليقات
التعليق كزائر سجل اسمك المستعار نسيت كلمة المرور
حجز اسمكم المستعار سيحفظ لكم شخصيتكم الاعتبارية ويمنع الآخرين من انتحاله في التعليقات
التعليق كزائر سجل اسمك المستعار نسيت كلمة المرور