في الذكرى الـ140 لرحيل الإمام المهدي.. مقال تحليلي يستحضر السيرة والدلالة والتاريخ

في الذكرى الـ140 لرحيل الإمام المهدي.. مقال تحليلي يستحضر السيرة والدلالة والتاريخ
  • 03 يوليو 2025
  • لا توجد تعليقات

مساعد النويري

تمرّ علينا هذه الأيام ذكرى مرور مائة وأربعين عامًا على رحيل الإمام محمد أحمد المهدي، قائد الثورة المهدية، ومؤسس أول كيان وطني سوداني مستقل في العصر الحديث. وفي هذه المناسبة التاريخية الخالدة، اقدّم لكم هذا الجهد والاجتهاد الذي يستعرض قبس من سيرة الإمام المهدي عليه السلام، ويحلل أبعاد تجربته الروحية والسياسية، ويستعرض مواقف الأصدقاء والخصوم على حد سواء، مستصحبًا شهادات الغزاة، ومذكرات سلاطين، وتقارير ونجت، وآراء المؤرخين والوطنيين. أنه اجتهاد يسلط الضوء على رمزية الإمام ومكانته في ذاكرة الوطن، ويعالج بعض محاولات التشكيك والانحراف عن جوهر الحقيقة.

مرّت مائة وأربعون عامًا على رحيل الرجل الذي لم تزل خطاه تصطخب في وجدان هذه الأرض، والذي لم تزل خطبه تطرق أبواب الزمن، وتدق طبول الوعي في أذهان الأحرار. الإمام محمد أحمد المهدي، ذاك الافريقي الطيف، السودانيُّ الجذر، الروحيُّ الأثر، الذي أشرقت شمس دعوته في وقتٍ تلبدت فيه سماء الوطن بعجاج الاستعمار، وتغشّى وجه الحق بغبار الطغيان.

ليس المهم إن كان من دنقلا أو مروي أو من أشراف الحجاز، فالبلاد لم تسأل أهلها عن أنسابهم حين دافعوا عنها، ولم تفرّق بين لهجاتهم حين صاحوا في وجه الغزاة أخرجوا منها، فإنها لا تقبل إلا أحرارًا . أما نسبه، فذاك أمر في ذيل منشوراته، لا لأن فيه شكًّا، بل لأن الحق لا يحتاج إلى عكاز النسب إن كان قائماً على ساق العمل والصدق والإخلاص.

رحل الإمام في مثل هذا التوقيت، بعد أن وحّد القلوب قبل الأجساد، وجعل للسودان معنى غير معنى الخنوع، وصبغ النيل بلون الكرامة لا بلون الدم. يوم فتح الخرطوم، ،كان ابن الغرب يحمل بندقية وحده، وابن الشمال يقرع الطبول، وابن الوسط يمد الصفوف، وابن الشرق يدعو بالنصر، وابن الجنوب ينشد للحُرية على ضفاف النيل. لم تكن المهدية حكرًا على جهة، ولا إمامها ظلًّا لعِرق، بل كانت كما قال شاعرها

أما ما يُشيعه البعض من أن الفتح كان خرابًا، فهو ترديد لصوت الأجنبي الذي بكى على أطلال قصر غردون ولم يذرف دمعة على دماء السودانيين. وهل يُلام قوم إذا زلّت أيديهم في لحظة نشوة النصر؟ وهل تحجب شمس الإنجاز بغيمة عابرة؟ إن ما حدث يوم الفتح، كما ترويه الوثائق غير المسيسة، كان تعبيرًا عن غضب تاريخيٍ تراكم عبر عقود، فاندفع كالسيل حين أزيحت السدود.

لكن عبد الله علي إبراهيم،  ذلك المثقف المتعدد المشارب، فقد خذلنا بالأمس حين كتب وكأنه يمشي على جمر الشك لا على طريق الحق. لم يقل باطلاً صريحًا، لكنه رقص حول الحمى، وأشار إشارة فيها اللمز والهمز والغمز وكأنة لا يريد أن يبوح، وربما نسي – أو تناسى – أن التاريخ لا يُروى بالهمس، بل يُكتب بالصرامة والوضوح. فهل نطلب من المؤرخ أن يكون شاعرًا في الكلمات، أم نطلب منه أن يكون عادلًا في الموازين؟ وهل يُعقل أن تمر ذكرى الإمام دون ذكر ما هدمته المهدية من جدران العبودية، وما شيدته من قواعد الهوية؟

أين أنت يا أبو سليم، لترى كيف أن القلم قد يميل بغير عمد، وكيف أن الذاكرة قد تغفل، أو تُغفَل، عن أعظم صفحة في تاريخ هذه البلاد؟ هل نسي الناس  أن المهدية كانت صرخة في وجه احتلالين خارجيّ بغيض، وداخليّ خنوع؟

وإن كان بعضهم يسأل : لماذا لم يركّز الإمام المهدي على نسبه الشريف؟ فليُعلم أن الكبار لا يتكئون على وسائد الأنساب، بل يبنون مجدهم بكدّهم، كما قال شاعر الحكمة:
إذا افتخرتَ بآبائك العظام، فأرِني ماذا صنعتَ من مقام! .

رحل الإمام، لكنه ترك بين ظهرانينا قضية لم تمت: كيف نبني الوطن على أساس العدل والمساواة؟ كيف نصون الوحدة ونحن نلوك السرديات الجهوية كأنها طعام يومي؟ كيف نرتقي بفكرنا ونحن نحاكم الماضي بعين الحاضر ونُقزّمه بقِصر فهمنا؟

إن الإمام المهدي لم يكن ملاكًا، لكنه كان مشروع أمة، وكان صوتًا سماويًا في أرضٍ عطشى للكرامة، وكان مرآةً تعكس أشواق الناس في الريف والمدن، في الجبال والسواحل، في  دنقلا  كما في دارفور ، في الجزيرة  كما في القضارف .

ومهما حاول البعض أن يعيد قراءة المهدية بمنظار الخصومة، ستظل الحقيقة تتراءى مثل جبلٍ لا يحجبه دخان
أن الرجل الذي جاء من جزيرة لبب، حمل على كتفيه حلم شعبٍ بأكمله، ومشى به إلى عتبات المجد، قبل أن يسلمه للتاريخ، ناصعًا كبياض ثوبه، صادقًا ككلمته، خالدًا كقضيته

لقد شهد الأعداء قبل الأحباب أنّ الإمام المهدي كان زلزالًا قلب الموازين، وعاصفة اقتلعت أعمدة الاستكانة، وأنه بسط بساط التغيير على أرضٍ كانت تغطّ في نوم الاستعمار والتبعية والفساد. سلاطين باشا، ذلك النمساويّ الذي خَبِر المهدية أسيرًا ثم موظفًا ثم خصمًا، لم يملك – رغم خصومته – إلا أن يُقر في كتابه السيف والنار بأنّ الإمام المهدي كان  رجلًا فذًا، ذو قدرةٍ خارقة على التأثير في الناس، وأنه بسط سلطانه الروحي على أتباعه كما يُبسط الغيم ظلاله على الأرض العطشى”. ورغم أن سلاطين أراد أن يحطّ من المهدية في مجمل كتابه، إلا أن شهادته تلك تسلّلت من بين سطور التحامل كزفرة صدقٍ وسط دخان التحيز.

أما اللورد وينجت، الحاكم العام للسودان، فقد كتب في تقريره الشهير : إنّ محمد أحمد المهدي، وإن خالفنا في الدين، فقد وحّد السودان بطريقة لم يسبقه إليها أحد، وأقام دولة من لا دولة، ومدّ يده إلى أعماق إفريقيا بدعوة دينية وسياسية قلّ أن تجتمع في رجل واحد .
أما تشرشل فكتب في حرب النهر:
«لقد كانوا أشجع من مشى على وجه الأرض، لقد حطمناهم بالنيران، ولكننا لم نهزمهم».

وكتب فيليب وارنر قائلا  : ربما وجدنا إذا نقّبنا في تاريخ الإنسان جماعة ماثلت في شجاعتها الأنصار ، ولكننا قطعًا لن نجد مهما بحثنا جماعة فاقتهم شجاعة .

أولئك الذين جاؤوا على ظهر المدافع، من أمثال غردون وسلاطين وونجت قلم مخابرات الغزاة وتشرشل وغيرهم، لم يكن في مقدورهم أن يُنكروا عظمة الرجل الذي واجههم بعباءة من قطن، وبقلبٍ كالجبل، وبتسليم لله أعجز الحديد. لقد وصفه بعض القناصل الأوروبيين في مراسلاتهم بعبارات مثل : النبي الأسود، والزعيم الساحر ، والشيخ الذي قلب ميزان القوى في وادي النيل .

الوطنيون، من المفكرين والأدباء ،  أسبغوا على الإمام المهدي أوصاف المجد. فقال عنه الدكتور محمد سعيد القدال :  إن المهدية لم تكن مجرّد ثورة دينية، بل كانت إعادة تشكيل للوعي الوطني، واستردادًا لزمام المبادرة من يد الغريب . ووصفه الأديب الطيب صالح علي مااعتقد حين تطرّق إليه في أحد مقالاته بأنه رجل الزمن النادر، الذي ظهر في وقتٍ كانت الأمة أحوج ما تكون إلى صوت هادر، يهتف في المدى: قمْ، فقد طال سباتك .
أما البروفيسور عبدالمحمود أبو شامة فقد لخّصها في كنابه القيم من أبا إلي تسلهاي قائلاً :
كتب تاريخنا عدوٌ امتلك عُدّة الثقافة، والقارئ النهم، واللغة الواسعة الانتشار، حتى أن الإنجليز قد فاقوا العالم في مناحي كثيرة من ضمنها تزوير التاريخ .
وقال الإمام الصادق المهدي :
لا أحد يدّعي العصمة الكاملة للمهدية، ونحن معشر البشر نعلم أن الخطأ والتصويب وارد في جميع أعمال البشر. ولكن الذي راج عن تاريخ المهدية وعن عقيدتها وفكرها ونظامها هو ما كتبه خصومها الدخلاء الذين استلموا أمر البلاد على بحر من الدم، وكانوا قد مهدوا للغزو بدعاية حربية واسعة جدًا، وبعد الغزو واجهتهم مقاومة عنيفة ، استشهد فيها الكثير من أبناء الأنصار في النخيلة وأم دبيكرات وأخيرًا في كرري التي طوت صفحه عظيمة من تاريخ النضال الوطني .

والمؤرخون كأبي سليم، أفردوا فصولًا في بيان عدالة الإمام المهدي وزهده، ودقته في تنظيم الدولة، حتى قال أحدهم لو امتد به العمر لأسس أول دولة سودانية مدنية ذات مؤسسات حقيقية في تاريخنا الحديث ،

ويكفيه شرفًا أنه صهر الطين بالسجود، وجعل من الثورة صلاة، ومن الحرف دعوة، ومن التراب دولة، وكتب في دفتر الزمان أن الإنسان السوداني ليس أقل شأنًا من غيره، وأنه إذا آمن بقضيته، يُحدث الزلزلة، ويغير مجرى النهر.

إن الذين يهمزون ويلمزون في نسبه الشريف أو ينسبونه لجهة دون أُخرى، هم إما جُهّال أو أغراضهم محجوبة بسحب الكراهية. فالمهدية ليست حفلة جهوية، ولا وليمة قبلية، بل كانت وثبة قومية، نادت في الناس أن هبّوا للدين والوطن، واتركوا وراءكم ضغائن القرى والفرقان.

وها نحن بعد مائة وأربعين عامًا، لا نزال نخطو على دربه، ولا تزال حروفه تضيء مناشير الثورة في وجدان الأمة. أما الذين ينكرون شمس المهدية في رابعة التاريخ، فهم كمن يحاول أن يحجب ضوء النهار براحة كفه!

رحل الإمام، لكن بقيت رؤيته، وصدقه، وعباءته التي حاكها من أقمشة الناس، فلبسوها وجدانًا وهوية. بقيت كلماته تُقال في المحافل، ورايته تُرفع حين تُنكّس الرايات. لقد بقي الإمام المهدي، لا لأننا نعيش على أطلاله، بل لأن مشروعه ما زال حيًّا، ينتظر من يعيد له الحياة بفكر نقي وسواعد صادقة.

إذا مات الزعيم، فإن الفكرة لا تُدفن، بل تُبعث. وإذا مات الجسد، فإن التاريخ لا يشيّع الجثمان، بل يحتفظ به حيًا في ضمير الأمة. والإمام المهدي لم يكن عابر حلم، بل كان حلم أمة بأكملها، تحوّل إلى يقظة ما زالت تهزّ جدران الغفلة!

: Email
tahtadoun@hotmail.com
tahtadoun@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*