مكي علي إدريس بلال: صوت النوبة الصامد في وجه الغزاة… الجسد والهوية بين الأب والابن

مقدمة
في قلب بلاد النوبة، حيث تمتد الجذور آلاف السنين في الأرض واللسان والوجدان، نشأ الفنان النوبي الكبير مكي علي إدريس بلال، حاملًا صوتًا لا يصدأ، وهوية لا تتغير. لم يكن مجرد مغنٍ، بل صوت جماعة، ومرآة لذاكرة مقاومة.
وراءه أبٌ يعتز بجسده الأسمر، وأمٌ غرست الكرامة، وقريةٌ تصنع الرجال من الطمي والنيل. بين الجسد واللغة والأنين والعود، تتجسد سيرة نوبية لم تُكتب فقط في الكتب، بل في الأغنية والوقفة والموقف.
السحنة والاعتزاز: إرث من الأب
“أنا أسود بطول والدي…”
بهذه العبارة من مذكرات والده، علي إدريس بلال، نسمع اعترافًا عنيدًا بهوية كانت تُحتقر في بعض دوائر الثقافة الرسمية.
في مجتمعات تُمجّد البياض وتنكر جذورها الأفريقية، جاء هذا التصريح بمثابة إعلان انتساب فخور للسواد، والطول، والوقار النوبي.
انتقل هذا الاعتزاز من الأب إلى الابن — إلى مكي، الذي لم يغنِّ بلغة القوم، بل بلغة النوبة، ومن قلبها.
التلاقح القسري… ولكن الهوية النوبيّة باقية
مرت النوبة بموجات من الغزو والتداخل، لكن هويتها بقيت حاضنة لا مذوِّبة، تمتص الغريب وتعيد تشكيله دون أن تفقد ذاتها:
جيش المهدية وود النجومي مارس التجنيد القسري والنهب والاغتصاب، خصوصًا في أراضي الجعليين والشايقية، وألحق أذىً جسيمًا بالمجتمعات النوبية التي لم تكن طرفًا في تلك الحرب.
عرب وادي حلفا تنوبوا في اللغة والعادات، ولم يفرضوا قوميتهم بل ذابوا في البيئة النوبية.
مك الناصر وأحمد خيري (أوندي): بعد التهجير القسري، رفض أوندي مغادرة الأرض، وبقي وحيدًا على الضفة المقابلة لقريته، فأعاد بناءها وسقاها وزرعها واستعاد أهلها. واليوم أصبحت مك الناصر قرية عامرة بالأمل، وبخريجي الجامعات، والنشاط الزراعي المتجدد.
الولياب (أتراك البوسنة) والداوداب (أتراك الصرب): دخلوا النوبة في عصور العثمانيين، لكنهم لم ينجحوا في فرض ثقافتهم، بل ذابوا في النسيج النوبي، وتعلّموا لغته، وتزوّجوا من نسائه.
المجراب (ذوو الأصول الهنغارية): اختلطت الدماء، تغيرت السحنة، لكن الروح النوبية ظلّت حية بلغةٍ لم تمُت، وبفنٍ لا يختفي.
مكي علي إدريس: حامل الذاكرة والمقاومة الثقافية
أ. عديلة: قصيدة حب وحنين وهوية
من أشهر أغانيه: “عديلة”، التي كتبها ولحنها عام 1973، وغناها على مسرح نادي عبري. غنتها أجيال بعده، بأصوات مثل الشفيع كيخه وأمجد صابر:
“عديلة أو ولا إن فجلى بلدتا
فاين موقيكا جلى نورِن
موقوكَن جوابا فايي ديقتا”
(ترجمة تقريبية: عديلة، يا من أنارت بلدتنا… أين اختفيتِ؟ وأين جوابكِ؟)
ليست أغنية عاطفية فحسب، بل مفتاح نوبي للحنين والمكان والهوية.
ب. شهادة من صحيفة التحرير
“لم يكن مكي على إدريس مجرد مغنٍ، بقدر ما كان وعاءً للذاكرة الجماعية واللغة والهوية… عبرت أعماله عن روح الثقافة النوبية وصمودها في أحلك فترة في تاريخهم.” — صحيفة التحرير، 2023
ج. محمد وردي: النداء والوفاء
كانت لمكي علاقة وجدانية خاصة مع الفنان النوبي القومي محمد وردي.
حين نُفي وردي إلى لوس أنجلس، كتب له مكي نداءً يدعوه فيه للعودة، واصفًا الوطن بأنه “الأم الكبرى”.
وعندما رحل وردي، وقف مكي في تأبينه قائلاً:
“ودّعنا صوت إفريقيا… من غنّى للنخيل والسلاح وللحبيبة، ولم يتنكر للنوبة لحظة واحدة.”
من الجسد إلى الفن: تجويد الإرث
ورث مكي من والده:
السحنة السوداء،
الانضباط والموقف،
الإيمان بأن الجسد النوبي حقيقة لا خجل منها.
وورث من والدته:
الكرامة النوبية ضد الاستلاب،
الحنان المقاوم،
اللغة بوصفها جذرًا للحياة لا لهجة قابلة للاستبدال.
. الحضور النسوي النوبي: من الكنداكة إلى والدة مكي
المرأة في النوبة ليست تابعًا بل محورًا:
من الكنداكات اللواتي حكمن كوش،
إلى الجدّات اللواتي حكمن البيت والمجتمع والوجدان.
كما تُنسب اليهودية للأم، فإن النوبة تنسب الهوية للأم.
وفي المروية القرآنية، يظهر موسى عليه السلام بوصفه ابن امرأة لا رجل، ويتكرر اسمها أكثر من اسم فرعون.
وفي الوعي النوبي، موسى هو ابن نوبية، صوتٌ في الماء، ابنُ أمّ لا تستسلم.
خاتمة: النوبة لا تذوب
رغم الهجرات والتهجير، والغزاة والغُربة، لم تذُب النوبة في أحد.
بل امتصّت كل من دخلها، وأبقت على نفسها حيّة في الجسد، والصوت، والزراعة، والأغنية.
وها هو مكي علي إدريس بلال، لا يُذكر كفنان فحسب، بل كأغنية مستمرة… بين الأب والابن، بين الأرض والهوية.
المراجع
. صحيفة التحرير: مكى على إدريس.. إنقطع خيط حيوى فى الهوية النوبية – https://www.alttahrer.com/archives/104338
. تسجيلات وأداء “عديلة”:
فيسبوك – https://www.facebook.com/WadiHalfa64/videos/1768431033167040/
يوتيوب – https://www.youtube.com/watch?v=ES_yb3F0NrY
. مذكرات وأقوال شفوية لعلي إدريس بلال — من صفحات الأسرة، منتديات أوربي، ومرويات محلية.
د. احمد التيجاني سيد احمد
عضو تحالف تاسيس
١٢ يوليو ٢٠٢٥ هلسنكي فنلندا
ahmedsidahmed.contacts@gmail.com