العزل السياسي: من تفكيك الشرعية الزائفة إلى تقنين الوضعية الراشدة

يجب أن لا يقتصر تفكيك الشرعية الزائفة للأخوان المسلمين في السودان على العزل السياسي. بل أن يقترن ذلك بإزاحة الرموز الثقافية والقيم المزيّفة التي زرعوها في نسيج اللغة والذاكرة والمؤسسات، كى لا يعدو العزل أن يكون عمليةً مبتورة، تُبقي على جذور الاستبداد حيّةً تنتظر موسمًا آخر للإنبات. هنا تكمن وجاهة ما أثاره الأستاذ إبراهيم برسي تعقيبًا على مقالي السابق “حول العزل السياسي وقرار استبعاد الإسلاميين”: أن العزل السياسي وحده لا يكفي، ما لم يتبعه *تفكيكٌ رمزي وثقافي يطهّر المخيال الجمعي من الأوهام التي نُسجت باسم الدين*.
يُدرك أنطونيو غرامشي أن “الهيمنة لا تقوم على القسر وحده، بل على التراضي المصنوع ثقافيًا”. وهذا ما فعله الإسلاميون ببراعة: *سيطروا على المخيلة أكثر مما سيطروا على مؤسسات الدولة*. صاغوا لغةً مشبعةً بالشعارات الدينية حتى صار الوعي الجمعي عاجزًا عن التمييز بين المطلق الإلهي والمصالح السياسية الضيقة. لا غرو، أنهم نجحوا في سوق القطيع متأرجحين بين الفاشية الدينية والفاشية الوطنية، ومتسببين في خلق حالة من التوهان. لذلك، فإن تفكيك هيمنتهم يقتضي إعادة اللغة إلى معناها الأول: تحريرًا لا تقييدًا، عدلًا لا استبدادًا.
إنهم –كما يقول ميلان كونديرا– لم يكتفوا بقتل الناس، بل حاولوا قتل ذاكرتهم، اجتثاث تلك الروح النقدية التي تجعل المرء يقف أمام الطاغية عاريًا من الخوف. لقد *أرادوا أن يطفئوا مصباح “المعري” الذي جعل من العقل قبلةً وميزانًا*. بل سعوا إلى طمس ذلك الأفق الصوفي لجلال الدين الرومي والسهروردي وبن عربي وبن الفارض الذي يرى في الحرية نفَسًا من أنفاس الروح، وفي مقاومة الظلم عبادةً لا تقلّ قداسة عن الصلاة. أرادوا ذاكرة بلا تاريخ، ووعيًا بلا يقظة، وإنسانًا مقطوع الجذور، لا يسند جبهته سوى تراب الخضوع.
إنَّ *التدافع الحيوي هو الضمانة الوحيدة لصون الشخصية السودانية* من الإسفاف أو الاضمحلال والانحلال؛ غير أنّ هذا التدافع لا يثمر إلّا إذا استند إلى بنية مؤسسية ترعى الثقافة وتطوّر المناهج، لا بالارتهان إلى مرجعياتٍ شرقيّة أو غربية وحسب، بل بالعودة إلى تربة السودان نفسها: إلى مكوّناتها المتعددة، وأرومتها الحضارية، وما اختزنته من طاقات خلاّقة لم تُستخرج بعد.
إنَّ هذا الوعي بشخصيتنا الثقافية، وبكيفية الإفادة من رصيدنا الإنساني، هو ما يمنحنا القدرة على الإبداع والإنتاج، مستلهمين بالأساس *الإرث الإفريقي النوبي*، الذي يشكّل امتدادًا طبيعيًا لكياننا، ومستنيرين –في الوقت ذاته– بالتجربة المغاربية التي استطاعت أن تستوعب القيم الليبرالية والعقلانية ضمن إطار الثقافة العربية والإسلامية.
لقد كانت حقبة الإسلاميين نقيضًا لهذا المسار؛ إذ نبشوا في أرشيف الاستبداد الموروث عن الثقافات كافة، *ولم يسعوا إلى التنقيب عن الجواهر الروحية والفكرية في التراث الإنساني*. وبفعل ذلك، أضعفوا مناعة المجتمع، فباتت الأجيال نهبًا لمخلّفات سطحية شوهاء، بدلًا من أن تتغذى بجواهر الفكر الإنساني المليئة بدرر الحرية والتنوير.
لا عجب إذن أن الأخلاق قد انحدرت إلى دركٍ غير مسبوق، وأنَّ بعض الأفراد -من مجتمعهم خاصة- قد زلّوا إلى الإلحاد، بعدما عجزوا عن التمييز بين دين الإله الجليل الكبير؛ ودين “الأخوان المسلمين” ذاك المصنوع على مقاس السلطة، لا على أقيسة السماء الخالدة.
استلهم المسلمون قيمة التكافل يوم أن نجحوا -وكان ذلك في فترات قصيرة ومحدودة جدًّا- في رسم حدود التماهي النسبي بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية، الأمر الذي يتطلب قدرة على التجريب العملي والتصويب النظري، إذ *لا يوجد نموذج يمكن اسقاطه على واقع بعينه دون النظر إلى خصائص ذلك الواقع السياسية والثقافية والمجتمعية*. من هذا المنطلق، فإن فكرة “الإسلام هو الحل” هي فكرة مضللة إلى كونها جاحدة وجاهلة —تجحد البشر حقهم في الاستنباط والقياس وتجهل الاستدلال بحقائق التاريخ.
أفادت الحضارات كافة من الدين الذي خصّب المخيال الجمعي، فألهم الأوروبيين براعة الاختراع في المعمار، فلا تتيه عين الزائر لفيينا أو لندن عن مشاهد الكنائس العملاقة ولا تُصم أذنه عن صوت الأجراس الجذابة والأناشيد الخلابة. كما *طبع سجيتهم بروح الإبتكار التي أفاضت عبقرية على الموسيقى والفنون والأداب*، فاستُحدثت النظم الإدارية والمصرفية التي مكنت الساسة من التخطيط للإقتصاد الذي أطرت له فيما بعد قيم الكفاية والعدل. ذلك أن الفلسفة وعلم الاجتماع هما اللتان مهدتا للنهضة الصناعية وليس العكس، بما حققتا من فتوحات معرفية حررت الأنسان من الخرافة وهيئته لاكتشاف المجاهل.
يمكني أن أقول بأن الغرب تقدم محتفيًا بالدين، وليست معرضًا عنه. وكان ذلك في حقبة ما بعد التنوير، ولن يحدث إصلاحًا أو تنويرًا في بلاد المسلمين طالما قادة هذه البلاد يستثمرون في الجهل ويحرصون على رعاية التخلف، تارة بإبعاد الدين وتارة بالتعسف في إقحامه خدمة لأغراضهم البئيسة!
ختامًا، إننا لا نكتب هذا لنثأر من خصم سياسي، بل لنُعفي أبناءنا من لعنة التكرار. فالتاريخ –كما قال جورج سانتايانا– “من لا يتذكّره محكومٌ عليه أن يعيشه من جديد”. ولأننا لا نحتمل أن تُعاد المأساة في دوراتٍ متكررة، وجب أن نخلع الشرعية الرمزية عن تلك التجربة، ونفضح بنيتها الخطابية، ونسترد الدين من براثن التوظيف السياسي، ونردّ السياسة إلى مجالها الأخلاقي الذي يُقاس بمعيار العدالة لا بمعيار الغلبة.
ذلك هو *العزل الحقيقي*: عزلٌ يحمي الروح قبل أن يحمي السلطة، ويصون المعنى قبل أن يصون المؤسسات.