«ذهب السودان… الحقيقة التي تُسقِط سرديات الحرب وتعرّي جذور الأزمة الداخلية»

«ذهب السودان… الحقيقة التي تُسقِط سرديات الحرب وتعرّي جذور الأزمة الداخلية»
  • 26 نوفمبر 2025
  • لا توجد تعليقات

د. التوم حاج الصافي زين العابدين – خبير علاقات دولية

في كل صراع ينهار فيه مركزُ الدولة ويغيب القانون، تبحث الشعوب عن “فاعل خارجي” يبرر الفوضى. أما في السودان، فقد تجاوزت البلاد هذه القاعدة إلى صناعة خطاب كامل يحمّل الخارج مسؤولية الانهيار الاقتصادي والأمني. وفي قلب هذا الخطاب تُوضع United Arab Emirates تحت ضوء الاتهام، وتُقدَّم — خصوصاً لدى تيارات مرتبطة بـ Muslim Brotherhood — بوصفها المستفيد الأكبر من ذهب السودان وموانئه. لكن مراجعة دقيقة للمعطيات الدولية تُظهر أن الاتهام ليس سوى قناع سياسي يخفي حقيقة أكثر جذريّة: السودان ينهار من الداخل، وبأيدٍ سودانية.

تشير بيانات مستقلة صادرة عن International Crisis Group
(مرجع 1: https://www.crisisgroup.org/africa/horn-africa/sudan)
ولجنة خبراء الأمم المتحدة
(مرجع 2: https://www.undocs.org/S/2023/123)
إلى أن السودان ينتج بين 80 و100 طن من الذهب سنوياً، يدخل أقل من 40% منها القنوات الشرعية. أما بقية الذهب — وهو الأغلبية الساحقة — فيرتحل داخل دوامة سودانية صرفة:
مليشيات مسلحة تسيطر على المناجم، قادة عسكريون نافذون، شبكات تهريب محلية، ووسطاء اقتصاد ظل يستخدمون الذهب لتمويل الحرب وإدامتها.

وأكد تقرير الأمم المتحدة الأخير أن “الذهب السوداني يُنهَب داخل الحدود قبل خروجه إلى أي وجهة خارجية” (مرجع 2). هذه الجملة وحدها كافية لإسقاط خطاب “النهب الخارجي” من أساسه. فالذهب يُسرَق في مناطق الإنتاج، ويُهرَّب من مطارات سودانية، ويُباع عبر وسطاء سودانيين، ويُحرَّك بأموال سودانية، قبل أن يغادر السودان أصلاً.

وتدعّم هذه الحقيقة أيضاً دراسة بحثية أوسع لمجموعة الأزمات الدولية بعنوان Mining and Conflict in the Sudanese Peripheries
(مرجع 4: https://www.crisisgroup.org/africa/horn-africa/sudan/mining-and-conflict-sudanese-peripheries)
التي توثّق دور الفاعلين المحليين والمليشيات في السيطرة على المناجم واستخدام الذهب كوقود مباشر للصراع.

ورغم ذلك، تُتَّهَم الإمارات بأنها “تستحوذ على الذهب”. لكن تجارة الذهب العالمية تعمل مثل النفط والمواد الخام: العرض عالمي، والسوق مفتوحة، والمشترون شركات خاصة، وليس حكومات. الذهب الذي يصل إلى دبي يدخل عبر شركات تجارية تعمل في سوق عالمية مفتوحة، تماماً كما يصل الذهب إلى دول مثل Switzerland وBelgium وSingapore.

وتؤكد تقارير Global Initiative Against Transnational Organized Crime
(مرجع 3: https://globalinitiative.net/analysis/illicit-gold-markets-east-central-africa/)
أن شبكات تهريب الذهب في السودان هي شبكات سودانية بحتة، وتُدار من داخل البلاد حتى لحظة خروج الذهب عبر الحدود.

كما يدعم تقرير منظمة OECD حول سلسلة توريد الذهب في إفريقيا
Responsible Gold Supply Chains in Africa
(مرجع 5: https://mneguidelines.oecd.org/Responsible-Gold-Supply-Chains-Africa.pdf)
الخلاصة ذاتها: أن ضعف الدولة وتفكك مؤسساتها هو العامل الرئيسي لانتشار التهريب، وأن مراكز الذهب العالمية ليست أطرافاً في هذا التهريب.

وحتى الادعاء بأن “الإمارات تطمع في ذهب السودان” يتناقض مع الحقائق الاقتصادية:
اقتصاد الإمارات يتجاوز 500 مليار دولار، وصناديقها السيادية تملك أصولاً تفوق 1.5 تريليون دولار. أما ذهب السودان كله فلا تتجاوز قيمته — في أحسن الظروف — 3 إلى 6 مليارات. لا منطق اقتصادياً يحكم رواية “الطمع”. الذهب السوداني لا يُغني ولا يُفقر دولة بحجم الإمارات، لكنه يُغني ويفقر مليشيات داخل السودان.

وبلغة الارقام الموثقة
فالذهب السوداني  في عام 2024، بحسب تقرير SWISSAID، استوردت الإمارات — ذاتها تضم دبي مركزًا رئيسيًا لتجارة الذهب — حوالي 29 طناً من ذهب السودان.

في 2023 كان الرقم  نحو 17 طناً — ما يدل على زيادة كبيرة في واردات السودان إلى الإمارات. كانت تحديدا في العام 24

بيانات من 2025 (النصف الأول) تشير إلى أن الإمارات استوردت نحو 8.8 طن من الذهب السوداني.

وفقًا لتقارير أخرى، واردات الإمارات من أفريقيا (ولاسيما للدول التي يُعاد تصدير أو “ترانزيت” ذهب منها) بلغت 748 طناً عام 2024 من دول أفريقية مختلفة.

إذن: الذهب السوداني يُشكل جزءًا — ربما صغيرًا — من واردات الذهب الأفريقية إلى الإمارات، ويُظهر أن السودان يبقى مصدر ولكنه بنسبة ضئيلة جدا مقانة بمجموع ماهو قادم من بقية الدول الافريقية الاخرى

حيث  تستورد الشركات في الامارات ذهبًا من عشرات دول حول العالم (أفريقيا، أمريكا الجنوبية، آسيا…) — ليس فقط من السودان. لذلك معطى “29 طن من السودان” في سنة ما لا يعكس إلا جزءًا ضئيلاً جدًا مما يدخل السوق.

أما في ملف الموانئ، الذي يُستخدم شعبوياً كأداة لإحياء سردية “الاحتلال الاقتصادي”، فالحقيقة مختلفة تماماً.
شركة DP World تُدير أكثر من 75 ميناءً حول العالم، وفي جميع الدول التي تعمل فيها — من Egypt إلى Senegal وRwanda — ارتفعت الكفاءة، وتراجعت تكاليف الشحن، ونمت حركة التجارة. لم تُسجَّل حالة واحدة لاستحواذ سياسي أو تدخل سيادي.

بل إن السودان — حين كان مستقراً نسبياً قبل عقد — سعى بنفسه لجذب مشغلين عالميين لتحسين موانئه التي تتراجع إنتاجيتها سنوياً. فمن الذي دمّر الموانئ اليوم؟ من الذي دمّر خطوط السكة الحديد؟ من الذي نهب هيئة الموانئ البحرية؟
ليس الإمارات.
بل قوى داخلية سودانية حوّلت الموانئ إلى “إقطاعيات مالية” لتمويل الصراع السياسي.

إن السودان لا يخسر ذهبَه بسبب أطماع الآخرين، بل لأنه فقد الدولة. لا يخسر موانئه لأن دولاً تتآمر عليه، بل لأن أجهزة الحكم تفككت وتحوّلت موارد الدولة إلى غنائم حرب. إن تحويل كل إخفاق إلى “مؤامرة خارجية” ليس سوى وسيلة للهروب من مواجهة المسؤولية التاريخية.

الحقيقة التي يريد البعض دفنها هي أن:
الذهب يُنهَب بأيدٍ سودانية، والموانئ تُدمَّر بقرارات سودانية، والدولة تتفكك بصراع سوداني–سوداني.

وإذا كان السودان يريد حماية موارده واستعادة اقتصاده، فلن يفعل ذلك بمهاجمة دول أخرى ولا بصنع أعداء وهميين، بل بإعادة بناء مؤسسات الدولة، وتثبيت سيادة القانون، وتحويل الذهب والموانئ إلى أدوات للتنمية لا ساحات نفوذ للمليشيات.
والحقيقة ان علاقات الدول تقوم على المصالح المتبادلة ولن تلام دولة عن البحث عن مصالحها ومصالح شعوبها بل يمكن ان توضع في خانة الذكاء والاستفادة القصوى من كل ماهو متاح

وهذه ليست “رواية سياسية”، بل تشخيص دولي وحقائق ميدانية.
والرأي العام المحلي والدولي لن يلتفت إلى خطاب يحمّل الآخرين مسؤولية أزمة داخلية صِرفة.
أما السودان، فسيظل يدفع ثمن تجاهل الحقيقة:
أن خلاصه يبدأ من الداخل… لا من اتهام الخارج.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*