المشروع الوطنى لليوم التالى: البرنامج الإسعافي لإعادة الإعمار  والإنتقال النهضوي

المشروع الوطنى لليوم التالى: البرنامج الإسعافي لإعادة الإعمار  والإنتقال النهضوي
  • 01 ديسمبر 2025
  • لا توجد تعليقات

بروفيسور إبراهيم أحمد البدوى

مقدمة
تشكل الحرب الأهلية الدائرة منذ ما يقارب ثلاث سنوات أكبر كارثة تواجه بلادنا في تاريخها الحديث؛ إذ لم تكتفِ بتقويض مؤسسات الدولة، بل مزّقت نسيج المجتمع، ودمّرت البنية التحتية، وأغرقت الاقتصاد في ركود عميق. وفي ظل هذا الدمار، يغدو الحديث عن برنامج إسعافي وإعادة الإعمار ليس ترفاً فكرياً، بل ضرورة وجودية لبقاء الدولة والمجتمع، واستعادة المسار المدني الديمقراطي النهضوي، وبناء سلام مستدام يُنهي “المتلازمة السودانية” الناتجة عن الفشل المزدوج في إدارة التنوع الهوياتي-الجهوي من جهة، وتحقيق الانتقال التنموي النهضوي من جهة أخرى، بما يعالج جذور التخلف والنزاعات وعدم الاستقرار السياسي.

فى مقالنا السابق (الموسوم “دروس وعِبَر من تجربة الإصلاح الاقتصادي الانتقالي: نحو صياغة مشروع وطني للإصلاح بعد الحرب في السودان”) قدمنا تقييماً لتجربة الإصلاح الاقتصادي للحكومة الانتقالية عقب ثورة ديسمبر المجيدة، وأستعرضنا الدروس والعِبَر للبرنامج الإسعافى لإعادة الإعمار بعد الحرب. سنعرض فى هذا المقال لملامح عامة لهذا البرنامج وفى المقالات القادمة سنأخد أهم مكوناته كلاً على حده بتفصيل أكثر.
أولاً: مكوّنات البرنامج الإسعافي لما بعد الحرب

1. استعادة الأمن و العون الإنسانى: لا يمكن لأي مشروع وازن لتقديم العون الإنسانى وإعادة الإعمار أن يبدأ من دون وقف شامل للحرب وإطلاق عملية إعادة بناء القوات النظامية والمؤسسات العدلية بحسب المعايير الدولية تحت قيادة وإشراف السلطة المدنية الانتقالية. فهذه الخطوة هي المدخل الضروري لاستعادة الثقة، وانسياب الحركة التجارية، وعودة النازحين واللاجئين، واستئناف النشاط الاقتصادي. وبحسب التقديرات الحديثة الصادرة من مكتبى الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية و المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين(1)، يُقدَّر العون الإنساني العاجل المطلوب للسودان بنحو 6 مليارات دولار سنوياً (4.2 مليار داخل السودان و1.8 مليار للاجئين في دول الجوار)، موجّهة لمكافحة الجوع ودعم النازحين واللاجئين والخدمات الأساسية الطارئة، أما ترميم مرافق الصحة والتعليم والمياه بشكل في مرحلة ما بعد وقف الحرب فيحتاج، فوق ذلك، إلى ما لا يقل عن 2-3 مليار دولار إضافية خلال الثلاث إلى خمس سنوات الأولى كحجم مبدئي للتعافي المبكر، بينما ستتطلب إعادة الإعمار الشاملة للاقتصاد والبنية التحتية أرقاماً أكبر بكثير على المدى الطويل.

2. تعبئة الموارد الذاتية والدولية المجمّدة: يتطلب تمويل الجانب الإنساني وبرامج إعادة تأهيل مرافق التعليم والصحة والمياه والكهرباء وغيرها من الخدمات الحيوية موارد ضخمة تفوق قدرة الدولة الذاتية التى انهارت تماماً – أو تكاد – بفعل الحرب. ومع ذلك، تبقى تعبئة الإيرادات الوطنية أولوية قصوى، بدءاً بالشروع فوراً فى إنشاء الجهاز القومي للإيرادات الذى أُعد نظامه الأساسى وهيكله وأهدافه بواسطة لجنة مختصة خلال حكومة الفترة الانتقالية(2). ويهدف هذا الجهاز إلى إنهاء الازدواجية بين ديوان الضرائب وإدارة الجمارك، وتعزيز الحوكمة المالية والتخطيط المالي، وتفعيل التقسيم العادل للموارد في إطار الحكم الفيدرالي، إضافة إلى مأسسة الرقمنة، وصولاً إلى رفع الحصيلة الضريبية إلى 20% من الناتج المحلي (3).

أما على صعيد الموارد الخارجية، فقد حصل السودان قبل انقلاب أكتوبر 2021 على التزامات تمويلية تتجاوز 10.5 مليارات دولار من الشركاء الدوليين، وقد جُمِّدت لكنها تظل متاحة في حال استعادة مسار التحول المدني. وتشمل هذه الموارد:
منح ثنائية: 2.5 مليار دولار
تمويل من المؤسسة الدولية للتنمية (البنك الدولي): أكثر من 1.5 مليار دولار

موارد من صندوق النقد الدولي: 2.5 مليار دولار
تمويلات إنمائية أخرى: 1-2 مليار دولار
استثمارات أجنبية مباشرة محتملة: 1-4 مليار دولار في الزراعة واللوجستيات
وتمثّل هذه الموارد القاعدة المالية الأساسية لإعادة تشغيل الخدمات وإصلاح الشبكات الحيوية وتمويل البرنامج الإسعافي.
3. تشغيل الشباب وبرامج “النقد مقابل العمل”: يتطلب مشروع إعادة الإعمار إطلاق برامج واسعة لتشغيل الشباب في مجالات تشمل:

إدارة برامج العون الإنساني ومكافحة المجاعة
بناء القواعد البيانية الرقمية وإكمال مشروع الرقم الوطني الموحد
دعم عودة اللاجئين وإعادة توطين النازحين
صيانة الطرق والمباني العامة، وإزالة الأنقاض، وإعادة بناء المرافق الخدمية
كما يمكن إعادة تنفيذ مشروع دعم الأسر عبر الهاتف النقّال بعد إعادة تصميمه في إطار انتقال مدني جديد، مع مخاطبة البنك الدولي والشركاء الدوليين لإعادة بناء برنامج حماية اجتماعية بحجم لا يقل عن التمويل السابق (800 مليون دولار، صُرف منه 180 مليوناً فقط قبل الانقلاب والحرب).

وقد أثبت نهج تدريب وتوظيف الشباب بعد الحروب والكوارث نجاحه في رواندا ولبنان وإثيوبيا، حيث ساهم في إحياء الاقتصادات المحلية وتوفير فرص عمل واسعة وتعزيز الملكية المجتمعية لعملية الإعمار.
4. إعادة بناء الخدمة المدنية عبر “التشبيب” والمصافحة الذهبية: يتطلب الإعمار وجود جهاز دولة مهنيٍّ وفعّال. نقترح فى هذا السياق برنامجاً واسعاً لتدريب وتأهيل الشباب لقيادة الخدمة المدنية، حيث يتم توظيف جيل أو جيلين من فئة الشباب المؤهل لقيادة مشروع التحول الرقمي وبناء حكومة إلكترونية لتطوير كفاءة تقديم الخدمات وقفل منافذ الفساد. إعادة تأهيل الخدمة المدنية ومؤسسات الدولة بهذا الشكل الجذرى تتطلب إنشاء صندوق للحماية الاجتماعية لتمويل “مصافحة ذهبية” للمسرحين (بالتراضى) من منسوبى الخدمة المدنية، إضافة إلى تمويل برنامج إعادة بناء القوات النظامية (سنعود لموضوع تمويل هذا الصندوق أدناه).

ثانياً: الأسس الاقتصادية لإعادة الإعمار
1. الانتقال من التقشف إلى النمو: بعد الحرب، لا يمكن للدولة أن تبقى رهينة التقشف. المطلوب هو تحفيز النمو من خلال زيادة الاستثمار العام، خصوصاً في الزراعة، والبنية التحتية، والطاقة، والتعليم، ورأس المال البشري. هذا النهج يشبه ما قامت به كوريا الجنوبية في ستينيات القرن الماضي، وما نفّذته إثيوبيا خلال الفترة 2004-2015 حين راهنت على “الشرعية الاقتصادية” عبر برامج تنموية واسعة.

2. التحول الهيكلي في الزراعة وبناء ممرات النمو حول المدن المنتجة (development corridors): السودان يمتلك أحد أكبر القطاعات الزراعية في إفريقيا والشرق الأوسط. إلا أن تحويل الموارد الزراعية الكامنة إلى روافع للنمو الاقتصادى السريع والمستدام يتطلب استراتيجية تنمية زراعية متكاملة، كما فى تجارب فيتنام والهند في التحول الزراعي، حيث قادت الزراعة الحديثة عملية اللحاق التنموي بفضل:
الإستثمار فى بناء القاعدة الرأسمالية (البذور، البنية التحتية، الري، السلع الرأسمالية)
تمكين المجتمعات الزراعية (التعاونيات، اتحادات المزارعين، الخدمات الأساسية)
سياسات كلية داعمة للأسعار، وسعر صرف منافس، واستقرار مالي
أيضاً، نقترح تبنى رؤية “جعل الزراعة كالصناعة” بإعتماد بناء “محاور النمو حول المدن المنتجة”، والربط اللوجستي بينها وبين الأرياف. هذه الرؤية تشبه نموذج الممرات التنموية في كينيا وإثيوبيا، حيث أصبحت المدن الكبرى حواضن للنمو الزراعي والصناعي والخدمات عالية الانتاجية عن طريق تشبيك القطاع الزراعى بالتصنيع والخدمات اللوجستية والمالية وغيرها.
3. الصناديق الاجتماعية والتحويلات النقدية: لضمان نجاح الإعمار ووضع لبنات الانطلاق نحو الإنتقال الإستثمارى النهضوى، لا بد من بناء منظومة لتمويل إعادة بناء الخدمة المدنية والقوات النظامية فى سياق البرنامج الإسعافى وكذلك الحماية الاجتماعية المستدامة لما بعد حقبة تعافى الاقتصاد وإعادة الإعمار:
إنشاء صندوق للحماية الاجتماعية الشاملة لتمويل “المصافحة الذهبية” وكذلك برنامج “إعادة بناء القوات النظامية” – تمويل هذا الصندوق يتطلب الحصول على قرض طويل الأجل قد يتراوح بين 3.5-4.5 مليار دولار (سنعود لهذا الموضوع بالتفصيل فى مقال قادم، بإذن الله)
إنشاء صناديق مخصصة لتمويل قطاعى التعليم والصحة، إضافة إلى إعتمادات الموازنة الجارية
إعادة إطلاق برنامج “دعم الأسر” عن طريق التحويلات النقدية بواسطة الهاتف النقال بإستخدام معلومات الرقم الوطنى الموحد كما أشرنا سابقاً: وفى هذا السياق فإن برنامج ” Bolsa Família” البرازيلى قد لعب دوراً مركزياً في تخفيف الفقر بعد الأزمات ويمكن النظر فى الإهتداء به لإعادة إطلاق صيغة سودانية لهذا البرنامج (سنخصص مقالاً لهذا الموضوع بإذن الله).
ثالثاً: الأساس السياسي والمؤسسي لإعادة الإعمار والانتقال النهضوى
تناولنا فى مقالات سابقة خمس مرتكزات سياسية ومؤسسية : الشرعية الاقتصادية؛ النظام الرئاسى- البرلمانى الهجين؛ الإنتقال من نظام الولايات إلى الأقاليم والمحليات حول المدن الكبرى؛ حكومات الوحدة الوطنية؛ والسردية الوطنية الجامعة. تأسيساً على هذه المرتكزات علينا تحديد البرامج القمينة بإنجاز مرحلة تعافى الاقتصاد وإعادة الإعمار وصولاً إلى آفاق الانتقال الاقتصادى النهضوى. فى هذا السياق نزمع إفراد عدة مقالات لمكونات المشروع الاقتصادى التالية:
تدريب وتوظيف الشباب لدعم العون الانسانى، إعادة الإعمار وإعادة بناء الخدمة المدنية والقوات النظامية
تمويل “المصافحة الذهبية” وصناديق الحماية الاجتماعية
النسخة الثانية من برنامج “دعم الأسر”
التحول الهيكلى فى القطاع الزراعى والإنتقال التنموى النهضوى – مشروع المدن المنتجة وممرات النمو
خاتمة
إن البرنامج الإسعافي وإعادة الإعمار الذي نقترحه ليس وصفة تقنية معزولة، بل هو جزء لا يتجزأ من مشروع وطني أشمل يهدف إلى إنقاذ الدولة السودانية من براثن الانهيار، واستعادة قدرتها على بسط الأمن، وتقديم الخدمات، وتعبئة الموارد، وتحريك عجلة النمو، وتعزيز رأس المال البشري، وفتح الطريق نحو الانتقال النهضوي المنشود. ولئن كانت الحرب الحالية قد عمّقت جراح البلاد ومزّقت أوصال مؤسساتها، فإنها في الوقت ذاته كشفت، بوضوح لا لبس فيه، أن السودان لا يمكن أن ينهض من جديد إلا عبر رؤية مدنية وطنية تعالج جذور أزماته البنيوية، وتُعيد تأسيس عقد اجتماعي جديد يقوم على الشرعية الاقتصادية، والعدالة الاجتماعية، والحوكمة الرشيدة، وسيادة القانون.
ويمثّل هذا البرنامج الإسعافي – بما يتضمنه من أولويات عاجلة في الأمن والعون الإنساني، وإعادة الخدمات العامة، وتشغيل الشباب، وإصلاح الخدمة المدنية، وتنمية القطاعات الإنتاجية، وتطوير شبكات الأمان الاجتماعي – الجسر الضروري الذي يربط بين حالة الطوارئ الإنسانية وبين آفاق التحول التنموي على المدى المتوسط والبعيد. غير أنّ نجاحه مشروط بإرادة سياسية جادة، وبحاضنة مدنية واسعة، وبانفتاح فاعل على المجتمع الدولي، واقتناع الشركاء بأن السودان، إذا ما استعاد مسار التحول المدني الديمقراطي، قادر على تحويل هذا الدعم إلى قفزة نوعية تعيد إدماجه في الاقتصاد الإقليمي والعالمي.
إن السودان يقف اليوم على مفترق طرق تاريخي؛ فإما أن ينقاد إلى منطق الانهيار المُتسلسل، أو أن يختار – بإرادة جماعية – مسار شعار الثورة المجيدة – “حرية، سلام وعدالة” – المفضى إلى قيامة السودان ونهضته. وما نطرحه في هذا المقال ليس سوى الخطوط العريضة لهذا المشروع، على أن نفصّل – في مقالاتنا القادمة – البرامج العملية اللازمة لتنفيذ هذه الرؤية: من تمويل المصافحة الذهبية، إلى إعادة بناء القوات النظامية والخدمة المدنية، وإحياء برنامج دعم الأسر، وانتهاءً باستراتيجية التحول الزراعي وممرات النمو حول المدن الكبرى وأريافها.
—————————
أنظر الرابط: https://press.un.org/en/2025/sgsm22555.doc.htm?utm_source=chatgpt.com
كوزير مالية فى الحكومة الانتقالية قد أصدرت القرار الوزاري رقم (23) بتاريخ 9/12/2019م بتشكيل لجنة برئاسة الأستاذ فتح الرحمن جاويش، الأمين العام الأسبق لديوان الضرائب بوضع خطة إنشاء الجهاز القومي للإيرادات في السودان وذلك استناداً على قرار مجلس الوزراء في الاجتماع رقم (10) بتاريخ 19/11/2019م.
هناك توافقاً بين خبراء السياسة المالية العامة بأن الحد الأدنى للإيرادات الضريبية لكى تتمكن الدولة من الإيفاء بمسئولياتها المالية يقدر بحوالي 15% من الناتج المحلى الإجمالى، بينما الدولة التي لا تستطيع توفير هذا الحد الأدنى توصم بأنها دولة رخوة: fragile state – الجدير بالذكر أن هذه النسبة لم تتعدى 6% فى ظل نظام الإنقاذ البائد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*