الناظر مامون هباني… حكم اهتزّ له وجدان الوطن
تلقّى السودانيون خلال الأيام الماضية نبأ صدور حكم بالإعدام على الناظر مامون ود هباني،ناظر الحسانية والحسنات/ الكواهلة بمحلية أم رمتة، بصدمة كبيرة امتزجت بالدهشة والأسى. فالحكم مع كامل التقدير ، لم ينظر لمقتضى الحال السوداني ولهذا لم يُنظر إليه شعبياً باعتباره حكماً قضائياً عادياً، بل رأى فيه الناس مساساً برمز اجتماعي ظل لعقود ركناً أساسياً من أركان السلم الأهلي في منطقة تتسم بتداخلها القبلي وتعقيداتها الاجتماعية، بقدر ما تتصف بحساسيتها وضعف مؤسسات الدولة فيها. فضلاً عن أن الناظر مامون، تجاوز السبعين من العمر، وهو ليس شخصية عابرة في محيطه؛ بل يجسد امتداد لتاريخ ولإرث اجتماعي ضارب الجذور في تاريخ الوطن والإدارة الأهلية بالسودان، وهو نفسه يرمز للحكمة والاتزان والقدرة على جمع الفرقاء. والمفارقة المؤلمة أنّ الرجل كان من أبرز ضحايا الفوضى الأمنية التي ضربت ولاية النيل الأبيض، إذ تعرّض منزله للنهب والسرقة، واقتادته قوات الدعم السريع معصوب العينين إلى أم درمان، ولم يُطلق سراحه إلا بعد دفع فدية. فكيف يتحول الضحية بين عشية وضحاها إلى متهم؟
ورغم هذه الخلفيات وملابساتها المؤلمة، وجد الناظر نفسه في عين العاصفة وفي قلب قضية تتداخل فيها السياسة بالأمن، مما جعل الكثير يرى في الحكم نموذجاً لاختلاط المعايير وانزلاق العدالة إلى مساحات لا تخدم الاستقرار العام.
فالإدارة الأهلية ركيزة لا يجوز التفريط فيها في الظرف الراهن. بل ما ينبغي التأكيد عليه أن الإدارة الأهلية، مهما اختلفت الآراء حولها، تمثل جسراً أساسياً بين الدولة ومواطن الريف، خاصة في المناطق التي تفتقر إلى حضور مؤسسي فعّال. ولطالما قامت هذه المؤسسة التاريخية بسد فجوات الدولة مجانا، فحافظت على الحد الأدنى من الانسجام الاجتماعي. لقد حاول الانجليز تقويض الدور الاجتماعي للإدارة الاهلية عندما أنشأوا الحزب الجمهوري الاشتراكي ورغم أن زعماء الادارة الاهلية اضطروا إلى مصانعة الإنجليز إلا أن البريطانيين تاكدوا أن دور هذه المؤسسة ينبغي أن يكون اجتماعياً. وعندما سطا السفاح نميري على السلطة ومعه الشيوعية حل الادارة الاهلية ولكنه اكتشف خطأ قراره فتخلى عنه وبقيت الادارة الاهلية. وتحضر هنا القصة الشهيرة ان الناظر بابو نمر جاءه احدهم متهكماً بعد حل الادارة الاهلية. وقال له يا (ابوي عثمان) حسع بعد حل النظارة نقول لك شنو؟ ادرك مقصده. فأشار الناظر بعصاه إلى وادي . وسال الوادي دا إذا فيه مويه اسمه الوادي وكان بلا مويه اسمه الوادي. ومن الجدير ذكره ان الناظر بابو نمر ومحمد تمساح سيماوي تمردا على قرار ديزموند الانجليزي عندما طلب منهما الانضمام الى الحزب الجمهوري الاشتراكي.
ولهذا فإن استهداف أحد أعمدة الادارة الاهلية الكبار لا يُقرأ إلا باعتباره مساساً برأس مال اجتماعي تعتمد عليه الدولة السودانية في أحلك الظروف. وما يؤكد صحة هذا الاستنتاج حجم التعاطف الواسع وردود الأفعال على سماع الحكم الذي انتشر كالنار في الهشيم داخل ولاية النيل الأبيض وخارجها. وقد أبدت العديد من القبائل ورموزها تعاطفاً وجدانياً واسعاً، بل أنعش الحكم ذاكرة قبيلة دار حامد – فزارة، فأبدت تعاطفاً مستحقاً اشار إلى عمق الروابط التاريخية بل والرحمية بين آل الناظر محمد تمساح وآل هباني.
فالناظر مامون هباني كما اشارت بعض الكتابات يعود – من جهة حبوبته – السيدة روزا بنت تمساح ود أمبدا أبو كندي بصلة قرابة تجعله (حامدي )، فالسيدة روزا تزوجها الناظر ود هباني وأنجبت له من الابناء:ناصر، وأحمد، وأمبدا، ومن البنات: فاطمة (المعروفة بالشاقة )، وحليمة، والقبلي بكسر القاف وتكسين الباء.
ما يعني أن النظار الهبانية هم أحفاد الناظر تمساح. ولهذا قالت تعليقات في الوسائط بان الناظر : “مامون ود خالتنا”، وان هذه صلة رحم لا يفصلها الزمن، ولا الجغرافية ومكانها في الوجدان قبل النسب. هذا التعاطف الشعبي الواسع تفسره حالة القلق والترقب التي عمّت النيل الأبيض وخارجه.
ومن جهة أخرى فإن الحكم قد صدر في ظرف وطني بالغ الحساسية؛ فالسودان اليوم أحوج ما يكون إلى أصوات العقلاء الذين يُطفئون الحرائق لا الذين يُضافون إلى لائحة الخسائر. وإصدار حكم بالإعدام على رجل في هذا العمر – وهو رمز اجتماعي لا سياسي – يرسل رسالة تُفهم في الريف بأنها استهداف لبنية اجتماعية كاملة، لا لشخص واحد.
إن قضية الناظر مامون هباني برمتها ليست قضية قبيلة أو قضية منطقة محدودة، بل قضية وطن يبحث عن توازنه المفقود. وإذا كان السودان قد صمد عبر التاريخ بفضل تماسكه الاجتماعي أكثر من صموده بالمؤسسات الرسمية، فإن المساس بمثل هذه الرموز يشبه العبث بأعصاب الجسد الوطني.
العدالة في مقاصدها الجوهرية لا تهدم ما تبقى من متاريس المجتمع، بل ترممه وتعيد إليه ثباته. وقضية الناظر هباني بالتالي تحتاج إلى قراءة جديدة تدرك وزنه ودوره وتاريخه، وتضعه في سياقه الصحيح. ان لم يكن لسبب فلأن الوطن اليوم لا يحتمل مزيداً من النزيف.
قال عكير الدامر في سياق سابق:
مصباح القبيلة البدري طيب السيرة
سيرتو حميدة بالأشعار وجب تفسيرا
فرج ضيق السنين الجاتنا عسيرة
ود هباني يوسف نعمتا وتيسيرا.


