آثارنا: من سرق؟ من اشترى؟ وكيف نستعيدها؟

آثارنا: من سرق؟ من اشترى؟ وكيف نستعيدها؟
  • 04 ديسمبر 2025
  • لا توجد تعليقات

د. وجدي كامل

لم يكن فقدان الأرواح وحده ما أصاب السودان في حربه الأخيرة. فبينما هرب الناس من بيوتهم وتركوا خلفهم ما تبقّى من متاعهم الشخصي، كانت هناك خسارة أعمق وأطول أثرًا — إنها خسارة الذاكرة نفسها.

غدًا، وعندما تهدأ طبول الحرب، سيجد السودانيون أنفسهم في مواجهة صدمة جديدة: أمةٌ بلا آثار. بلا شواهد مادية تروي تاريخها، بلا متاحف تحفظ سلالتها الممتدة من ممالك كوش ونبتا ومروي حتى السلطنة الزرقاء والممالك المسيحية والإسلامية. سيكتشف الناس أن المتحف القومي المطلّ على ضفة النيل في الخرطوم لم ينجُ، وأن قاعات العرض الواسعة التي كانت يوماً عامرة بالتماثيل والمومياوات والمجوهرات الذهبية صارت ركامًا من الزجاج المكسور والرفوف المحطمة.

في تقريرٍ لوكالة أسوشييتد برس (AP) بتاريخ 14 أبريل 2025، وصفت الصحفية فاطمة خالد المشهد داخل المتحف القومي بأنه «كارثة تراثية»: قاعات مهشّمة، خزائن مكسورة، مومياء مكشوفة في صندوق تخزين، وغرفة الذهب وقد نُهبت بالكامل.

قال جمال الدين زين العابدين، المسؤول البارز في الهيئة القومية للآثار والمتاحف: “الخسائر كبيرة ومؤلمة… قوات الدعم السريع دمّرت كل ما يتصل بحضارة الشعب السوداني”.

ما الذي سُرق؟ وكيف تمّ ذلك؟

بحسب بيانات الهيئة القومية وتقارير “سودان تريبيون” و”الغارديان”، كان المتحف القومي السوداني يحتفظ بأكثر من 100 ألف قطعة أثرية تمتد من العصر الحجري إلى العصور الإسلامية. لكنّ التقارير الدولية تتفق على أن عشرات الآلاف من القطع اختفت، من بينها:

كلّ القطع الذهبية والمجوهرات الملكية المعروضة في “غرفة الذهب”.

قطع حجرية وتماثيل صغيرة من مملكة مروي ونبتا.

مخطوطات ولقى مسيحية وإسلامية من القرون الوسطى.

مومياوات وتوابيت خشبية تعود إلى فترات مبكرة من التاريخ النوبي.

أدوات فخارية وأسلحة ومقتنيات من متاحف أخرى مثل متحف الإثنوغرافيا ومتحف الخليفة في أم درمان.

تُتهم قوات الدعم السريع (RSF) بأنها سيطرت على موقع المتحف لفترة طويلة خلال الحرب ونهبت محتوياته قبل انسحابها، بينما يقول سكان محليون إنهم شاهدوا شاحنات تُحمَّل بالقطع الأثرية وتتجه غربًا نحو دارفور ثم إلى الحدود مع دولة جنوب السودان.

وفي المقابل، يشير بعض التقارير إلى احتمال تورط تجار وسماسرة سودانيين في بيع بعض القطع عبر وسطاء إلى أسواق خارجية، خصوصاً بعد ظهور صور لقطع نوبية معروضة للبيع في مزادات إلكترونية مشبوهة. ومع أن السلطات السودانية في بورتسودان تتهم الدعم السريع مباشرة، إلا أن الحقيقة — كما تقول المنظمات الدولية — أعقد من مجرد طرف واحد.

ففي ظل الفوضى الأمنية وغياب الحماية المؤسسية، سُمح لنهبٍ منظم أن يتم على مراحل: اقتحام، نقل، تخزين مؤقت، ثم تهريب.

من اشترى؟

السؤال الثاني، والأكثر إيلامًا: من اشترى هذه الآثار؟

إن تاريخ النهب الأثري في العالم يؤكد أن كل سرقة تحتاج إلى مشتري. اليوم، سوق الفن العالمي مفتوح عبر الإنترنت، والمزادات الإلكترونية الكبرى لا تميّز أحيانًا بين قطعة أثرية مهربة وأخرى قانونية.

وفقًا لتقارير منظمات حماية التراث الثقافي، فإن قطعًا يُعتقد أنها من أصل سوداني شوهدت في قوائم بيع على مواقع دولية، قبل أن تُزال بعد تحذيرات من ناشطين وخبراء آثار. وتشير تقارير “Cultural Property News” و”Art Newspaper” إلى أن تهريب الآثار السودانية اتّبع نفس مسار تهريب الآثار الليبية واليمنية والسورية:
تبدأ من تجار محليين صغار، ثم تمر عبر وسطاء في دول الجوار (تشاد، جنوب السودان، مصر)، لتصل إلى شبكات دولية تمتلك خبرة في تزييف شهادات المنشأ.

اليونسكو بدورها أصدرت تحذيرًا صارمًا في سبتمبر 2024 قالت فيه إن أي بيع أو إخراج لآثار السودان “سيعني اختفاء جزء من الهوية الثقافية السودانية ويعرّض تعافي البلاد للخطر”، داعية الأسواق الفنية العالمية إلى رفض التعامل مع أي قطع يشتبه أنها من السودان. لكن الواقع أن السوق لا تتوقف.

فكل قطعة تُباع — حتى وإن عبرت يدين مجهولتين — تُضيف جرحًا جديدًا في جسد الهوية السودانية.

الآن، الخرطوم… مدينة بلا متاحف.

ولا يقتصر الخراب على المتحف القومي وحده. ثمة تقارير ميدانية تشير إلى أن متحف الإثنوغرافيا في وسط الخرطوم تعرض لتدمير جزئي وحريق في عدد من القاعات والمكاتب، فيما تضرر متحف الخليفة في أم درمان وسُرقت بعض مقتنياته النادرة من أسلحة وثياب وأدوات ثورية تعود لعصر المهدي. وفي دارفور والجزيرة، نُهبت متاحف محلية ومواقع أثرية بالكامل.

هذه ليست مصادفة. فالحروب لا تكتفي بتدمير الإنسان، بل تسعى لمحو ذاكرته أيضًا. ففي لحظات الفوضى، تتعرض رموز الهوية الجمعية — المتاحف، الجامعات، الأرشيفات — للضرب المقصود، وكأن محو التاريخ شرط لبناء واقع جديد بلا ذاكرة ولا رواية مضادة.

يقول الباحث الإيطالي في التراث جيوفاني بيروزي (الذي شارك سابقًا في بعثات مروي):
“تدمير المتحف القومي في الخرطوم ليس حادثًا عرضيًا؛ هو جريمة تستهدف محو التسلسل التاريخي للحضارة النوبية… لأن التاريخ يمنح الشعوب حقّها في الوجود.”

السرقة جريمة حرب:

وفقًا للقانون الدولي (اتفاقية لاهاي 1954 واتفاقية اليونسكو 1970)، فإن نهب الممتلكات الثقافية أثناء النزاعات المسلحة يُعد جريمة حرب. وقد صنّفت الهيئة القومية للآثار والمتاحف في بيانٍ صدر عن بورتسودان في سبتمبر 2024 ما جرى بأنه “أكبر كارثة تراثية في تاريخ السودان الحديث”، وطالبت المجتمع الدولي باعتباره جريمة ضد الهوية الإنسانية.

لكن هل تكفي الإدانة؟

من دون أدلة موثقة وسجلات دقيقة بالقطع المفقودة، يصعب رفع قضايا استرداد أمام المحاكم الدولية. ولهذا السبب، بدأت منظمات مدنية سودانية بالتعاون مع خبراء من “تحالف حماية التراث العالمي” في إعداد قاعدة بيانات رقمية توثق كل ما يُعرف عن القطع المفقودة بالصور والوصف.

هذه الخطوة قد تكون المفتاح الأول في معركة الاسترداد الطويلة.

الطريق إلى الاسترداد:

إن معظم عمليات استرداد الآثار في العالم بدأت بعد كوارث مشابهة.
إيطاليا استردت قطعًا مسروقة من متاحفها بعد عقود من ظهورها في مزادات بوسطن ولندن.
مصر استعادت تمثال “سخم كا” من متحف اللوفر بعد معركة قانونية طويلة.

ويمكن للسودان أن يسير في المسار ذاته — إذا توافرت الإرادة والإدارة.

الخطوات العملية الممكنة حاليًا:

تشكيل لجنة وطنية مستقلة لاسترداد الآثار تضم ممثلين من الهيئة القومية، محامين دوليين، وصحفيين استقصائيين.

توحيد السجلات القديمة: حصر وتصوير القطع التي كانت محفوظة في المتحف القومي والمتاحف الإقليمية.

التواصل مع الإنتربول واليونسكو لرفع بلاغ رسمي دولي وتعميم صور القطع المفقودة على مكاتب الشرطة الدولية والمزادات الكبرى.

مراقبة الأسواق الإلكترونية والمزادات عبر فرق تطوع رقمية ترصد أي قطعة ذات منشأ سوداني.

إطلاق حملة إعلامية دولية تحمل وسمًا موحدًا مثل:
SudanHeritageLost
آثار_السودان_المسروقة
وتضم صورًا مقارنة (قبل وبعد الحرب) لجذب الانتباه العالمي.

من المسؤول؟

السؤال الحيوي الأكبر لا يتعلق فقط بـ”من سرق”، بل أيضًا بـ”من سمح بالسرقة”.
إذ لم تكن المتاحف السودانية محصّنة ولا مؤمنة ضد الطوارئ، ولم توجد أنظمة إنذار أو حماية رقمية كافية.

لقد كانت مؤشرات الإهمال منذ سنوات واضحة، في غياب التمويل، وضعف الكوادر، وانقطاع برامج التعاون مع البعثات الأجنبية بعد 2019. وهكذا دخلت الحرب على بلدٍ بلا مظلة حماية تراثية حقيقية.

إن المسؤولية هنا مضاعفة:
على القوى العسكرية التي احتلت المواقع، وعلى الحكومة التي لم تضع خططاً للحماية المسبقة، وعلى المجتمع الدولي الذي تجاهل إشارات الخطر رغم التحذيرات المبكرة من اليونسكو في 2023.

ما الذي يمكن أن نفعله نحن؟

لن يُعيد المقال ولا البكاء ما سُرق، لكن يمكن أن يوقظ وعيًا وطنيًا متجددًا.
المعركة الآن ليست في الميدان العسكري فقط، بل في ميدان الذاكرة.

إن الآثار إذا ضاعت، ضاع سرد التاريخ نفسه، وسيتحدث الآخرون نيابة عنّا.

على الجامعات السودانية أن تُدرّس ما حدث كحالة بحثية، وعلى الإعلام أن يتابع استقصائيًا، وعلى المواطنين أن يوثقوا كل صورة أو وثيقة يمكن أن تُفيد في إعادة البناء. ففي كل منزلٍ صورة، وفي كل هاتف شاهد، وفي كل ذاكرة حكاية يمكن أن تكون خيطًا لاستعادة ما فُقد.

إن استرداد آثار السودان ليس ترفًا ثقافيًا، كما قد يصوّره العقل السياسي التقليدي غدًا، بل هو معركة من أجل الكرامة والهوية.
فكل قطعة تُستعاد هي دليل على أن هذه الأرض ما زالت تتذكر نفسها، وأن التاريخ مهما سُرق لا يُمحى.

أخيرًا، لا تُشتروا صمتنا بالتجاهل، فقد تباع القطع الذهبية في أسواق لندن أو باريس أو دبي أو إسطنبول، وقد يتفاخر مقتنوها بأنهم اشتروا “تحفًا نوبية نادرة”. لكن ما لا يدركه هؤلاء أن ما يشترونه ليس قطعة فنية، بل جزء من ذاكرة شعبٍ جُرّد من ماضيه بالقوة.

سيكتب التاريخ يومًا أن السودان لم يخسر حربًا فقط، بل خسر متحفًا يضمّ قصة الإنسانية في أبهى صورها.
ولكنه، وكما في كل مرة، سيُعيد بناء ذاته، حجرًا فوق حجر، وقطعة فوق قطعة، لأن الحضارات الحقيقية لا تُسرق إلى الأبد.

المراجع المعتمدة في المقال:
وكالة أسوشييتد برس، 14 أبريل 2025
Sudan Tribune، سبتمبر 2024
The Guardian، سبتمبر 2024
UNESCO Statements on Sudan Heritage, 2024
Cultural Property News.

الوسوم د.-وجدي-كامل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*