كلمات في نعي الإمام
(كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر فليس لعين لم يفض ماؤها عذر).
• ما أضيق العبارات حين نحاول وصف الإمام الصادق المهدي وفجيعتنا برحيله.. أقله افتقدنا مفكرا وزعيما ووالدا وصديقا.
• تعرف به في مسيرته مئات الألوف من الناس، ويمكن القول بضمير مرتاح إنه بنى علاقة شخصية مباشرة مع الآلاف منهم، كل له معه ذكرى بإشارة محبة وإعزاز، وأنا واحد من بينهم. تتزاحم في ذاكرتي عشرات الصور والمواقف، لا تكفي مساحة بهذا الحيز لإيرادها، لكن ملخصها أنه كان إنسانا سمحا، تمسك بالإنسانية رؤية ومسلكا فلم تحد إنسانيته قيود عقائدية أو عنصرية أو أيديولوجية أو حزبية.
• ارتوى من أفضل مواريث إنسانيات السودانيين، خصوصا نبعها الصوفي، ثم فاض وبلغ في إنسانيته الاستثنائية إنه لا ييأس أبدا من الخير في أي شخص بالغا ما بلغ من الشر والإجرام.
• كان مفكرا عبقريا. يقول الشائنون إنه ظل يراوح بين قبة المهدي وأكسفورد، لكن في هذا سر عبقريته ومأثرته، حيث كان همه الرئيسي التوفيق بين الأصل والعصر. والعبقرية في أصلها اللاتيني تعني المزج، والعباقرة هم الذين يمزجون بين أشياء تبدو وكأنها غير قابلة للمزج، على هذا تأسس العلم الحديث، حين مزج نيوتن بين دراسة الطبيعة والرياضيات فتأسست الفيزياء الحديثة. وكذلك كان باعث الإمام الصادق الرئيسي أن يعيش المسلم المعاصر بدون شيزوفرنيا -الفصام النكد- بين الإيمان والحداثة. وعبر معاناة معرفية ووجدانية ممتدة لعقود وفى ما يزيد عن المائة مؤلف أثمر الإمام الصادق مزيجا تقدميا يقوم على توطين أهم ثمار الحداثة في الثقافة الإسلامية، توطين الديمقراطية وحقوق الإنسان خصوصا حرية الضمير: حيث عارض وجود عقوبة دنيوية لتغيير المعتقد؛ وحقوق النساء كشقائق للرجال ما أكرمهن إلا كريم وما أهانهن إلا لئيم، وحقوق غير المسلمين، في الدولة المدنية الحديثة التي تتأسس فيها الحقوق على أساس المساواة في الكرامة الإنسانية غض النظر عن الدين أو الأصل العنصري أو النوع. ثم جعل حقوق الإنسان أحد ركائز بيعة كيان الأنصار، وبذلك ينتصب الإمام الصادق كأحد أعمدة الاستنارة السودانية ورمزا من رموزها البارزين في العالم الإسلامي.
ومن دلائل العبقرية الفكرية كما يقول العقاد المشاعر الطاغية تجاه العبقري، إما محبة غامرة أو كرهاً شديداً، ونال الإمام الصادق من كليهما، وحق له أن يفخر أنه حظي بمحبة غالب السودانيين، في حين كرهه سدنة وأزلام النظم الاستبدادية ومقاولو أنفار الكراهية والتوحش.
وتتجلى إنسانيته الاستثنائية أيضا في إنه ورغم الإيذاء والتوحش اللذين واجههما بحجم ربما يفوق أي سوداني آخر، لم يتلوث وجدانه بالمرارة أو القسوة أو الرغبة في الإيذاء المضاد وإنما ظل (جمل شيل)، صبورا، نبيلا، عفوا وسمحا.
• وكان الإمام زعيماً سياسياً، والسياسة بطبيعتها محل الاختلاف، لا تتحدد بالمثاليات وحدها وإنما كذلك بإكراهات الواقع والسياقات، ومسيرة أي سياسي لا تقيم بهذا الموقف أو ذاك إلا لدى متربص أو حقود، تقيم موضوعيا بالاتجاه العام الرئيسي، والإمام الصادق رغم أنه حكم وعارض وقاتل وصالح وتحالف وتباعد، في مسيرة امتدت لعقود، إلا أنه لم يفقد إنسانيته، ولم ينتهب مالا عاما، ولم يأمر مطلقا بقتل مدني أو اعتقال أو إخراس معارض، كما لم يستسلم أبدا للطغيان العسكري الذي أضاع غالب سنوات ما بعد الاستقلال، فكان الأنصار وبقيادته شخصيا مخرزا في أعين الديكتاتوريات المتعاقبة.
• والأنصار ميراث ومأثرة الإمام الصادق الكبرى قادهم بالمحبة، وأشاع بينهم المحبة، جدد رؤاهم، ثم بقيادته الفكرية والسياسية رغم أنهم واجهوا لثلاثة عقود متصلة مكراً تزول منه الجبال، إلا انهم لا يزالوا طوداً متماسكاً وفتياً، ورقماً عصياً على تجاهل أي شخص جاد.
• الجهلاء لا يتحفظون ولا يستدركون ويجزمون ويشتطون، في حين كلما تعمقت المعرفة كلما تكاثفت الألوان والظلال فتنتصب دوما إمام العارفين: (ولكن). ومعرفة الإمام العميقة في أساس تحفظاته واستدراكاته، وكذلك سر اعتداله، فهو لا يذهب أبدا إلى الأقصى. كان على استعداد ليرى أية بذرة حقيقة عند أى طرف، سواء كان من حركات الهامش أو ماركسيا أو قومياً او سلفياً، وبهذا شكل قاسماً مشتركاً أعظما وكان صادقاً متسقاً فى دعواه للسودان العريض الذي يسع كافة بنيه.
وكنت شخصيا ولسنوات وسيطا بينه وبين الحركة الشعبية لتحرير السودان – قبل وبعد الانفصال، وأشهد أنه لم يكن يدخر وسعا في البحث عن المشتركات.
• ومع اعتداله الذي شكل نسيج شخصيته لم تعزه الشجاعة المعنوية أبدا، جعلته إكراهات السياسة حليفا للقذافي لفترة وكان يعرف نرجسيته التي تصل إلى تأليهه لذاته لكن مع ذلك لم يتردد في نقد هراء الكتاب الأخضر، وكان ضيفا على مصر مبارك ويصرح علنا باعتراضاته وانتقاداته، وصادق الإيرانيين في فترة لحد ما لكنه لم يخف اشمئزازه من دولة الملالى الكهنوتية، ثم حالف مؤخرا الخليجيين ويعرف حساسيتهم تجاه النقد ومع ذلك لم يتحرج من نقدهم ونصحهم. وتتفق أو تختلف مع موقفه الأخير من التطبيع مع إسرائيل، فلا بد أن تقدر شجاعته المعنوية، فهو تحديدا ليس زرزوراً محليا، ولا غرا مندفعا، ولذا يعرف المترتبات العملية لموقفه، ومع ذلك لم يبال. وفي هذا وذاك لم ينتصر الامام للمفكر على السياسي وحسب، وانما كذلك لجينات العزة السودانية العصية على الاستتباع.
• في إحدى أقواله البليغة وهي كثيرة، قال الإمام الصادق إن غياب الاعتدال اختلال يؤدي إلى الاحتلال – الاحتلال الداخلي أو الخارجي. وإذ تشهد البلاد حاليا تطرفا وتوحشا هائلين، ما أحوجنا إلى اعتدال الإمام، إلى قبول اختلافاتنا بسعة وسماحة، وإلى احتضان تعدديتنا في إطار التوافق على القاسم المشترك الأعظم – دولة الديمقراطية وحقوق الانسان. والخوف كل الخوف أن يكون رحيل الإمام الصادق نذيرا برحيل الاعتدال عن بلادنا!
• تعازي لأسرة الإمام الصادق وللأنصار وحزب الأمة في فقدهم وفقدنا العظيم. وإنا لله وإنا إليه راجعون.
الديمقراطي، 27 نوفمبر 2020


