على مشارف المؤتمر الاقتصادي: ضرورة الإصلاح المؤسسي

على مشارف المؤتمر الاقتصادي: ضرورة الإصلاح المؤسسي
  • 13 سبتمبر 2020
  • لا توجد تعليقات

د. عبدالله محمد سليمان

يتطلع السودانيون، وقد أنهكهم الحال الاقتصادي المتردي، إلى ما سيتمخض عنه المؤتمر الإقتصادي القومي الذي سينعقد في الفترة 26-28/ 9/ 2020 م .وهو أول مؤتمر إقتصادي في أعقاب ثورة ديسمبر المجيدة، وينعقد حول شعار عريض (نحو الإصلاح الشامل والتنمية الاقتصادية المستدامة) وهذا الشعار بحد ذاته، وإن تجاوزنا عن ما يمكن أن يثور من جدل وإختلاف حول مفهومي “الإصلاح الشامل” و “التنمية المستدامة” يكفي للقول بأن المؤتمر يستهدف النظر في نطاق واسع من الإصلاح، وبديهي أن يكون الإصلاح المقصود على مستويات متعددة ليكون “شاملا”، كما أنه يستهدف النظر في التنمية الإقتصادية، وبديهي أن يستهدفها بصورة شاملة أيضا وفي مختلف قطاعاتها وجوانبها وأن ينظر في متطلبات التنفيذ التي تحقق “الاستدامة”. ويتزايد إهتمام المواطنين بالمؤتمر الاقتصادي ويرتفع سقف طموحاتهم وآمالهم فيما ستتمخض عنه توصياته بالنظر لتصريحات المسئولين الحكوميين وغيرهم من المتحدثين عن المؤتمر في القنوات والمنابر المختلفة، وكذلك في ضوء ما اتخذته الحكومة مؤخرا من إجراءات لمعالجة التدني المتسارع في قيمة العملة الوطنية مقابل الدولار والعملات الأجنبية وارتفاع اسعار السلع الضرورية وغيرها من مظاهر الضائقة المعيشية.

كما هو معلوم لم يتمكن السودان من تحقيق تنمية اقتصادية حقيقية على الرغم من الإمكانيات والموارد الطبيعية الضخمة التي يمتلكها وبعض مساعي الإصلاح الاقتصادي الهيكلي بشقيه النقدي والمالي خلال العهود الماضية. ويعزى ذلك لعدم وجود رؤية تنموية واضحة في إطار برنامج وطني متفق عليه بين القوى السياسية المختلفة وذلك لضعف تلك القوى وهشاشتها إبان حقب الحكم الديمقراطي القصيرة المضطربة، وكذلك لهيمنة النظم العسكرية التي طالت فترات حكمها وجنحت لاتخاذ قرارات إقتصادية زلزلت الإقتصاد السوداني وتمثلت في قرارات التأميم والمصادرة التي نفذها نظام مايو وسياسة التحرير الإقتصادي والخصخصة التي نفذها نظام الإنقاذ. كذلك لم تتحقق تنمية إقتصادية حقيقية نظرا لما عانت منه البلاد من الحروب والصراعات مما نتج عنه عدم الاستقرار السياسي وتوجيه موارد الدولة للصرف على الجيش والأجهزة الأمنية. وقد إنعكس ذلك في ضياع الموارد وتآكل وضعف هياكل الدولة وبنيتها المؤسسية. ويعتبر نظام الإنقاذ المباد من بين كل نظم الحكم التي تعاقبت على حكم البلاد وخلال فترة الثلاثين عاما التي قضاها في الحكم ،هو النظام الذي طبق سياسات إقتصادية عميقة الأثر وأحدث تعديلات جوهرية وتغييرات كبيرة في البنية المؤسسية للدولة أفضت للتدهور الإقتصادي والضعف في الأداء الإداري والمهني الذي نعايشه.

أشار أستاذنا البروف عبدالمحسن مصطفى صالح رئيس اللجنة المنظمة للمؤتمر الاقتصادي القومي في معرض حديثة لمنبر سونا في المؤتمر الصحفي الخاص بتدشين فعاليات المؤتمر إلى المعضلة المحيرة وهي “أن السودان بلد غني بالموارد الطبيعية والبشرية ولكنه فقير ويعاني من مشكلات وصعوبات إقتصادية كثيرة”! وأعاد إلى الأذهان مقولة اللورد جون ماينر كينز الاقتصادي الشهير” الفقر في خضم الوفرة Poverty in the midst of Plenty ” وذلك حين ضرب الكساد دول أوربا وأمريكا وتوقفت المصانع وقل الطلب وعانت تلك الدول من تدهور إقتصاداتها برغم توفر الموارد. وقد حفزتني إشارة البروف عبدالمحسن تلك للعودة لآراء عبر عنها دارون أسيموجلو وجيمس روبنسون في كتابهم القيم “لماذا تفشل الأمم” “?Why Nations Fail”. فبعد دراستهم للعديد من الأمثلة من مختلف دول العالم الغنية والفقيرة خلصا إلى أهمية دور مؤسسات الدولة، أي دولة، في تحقيق النهضة الإقتصادية. وقسما تلك المؤسسات إلى نوعين إثنين يمكن الإشارة لهما بالمؤسسات الشاملة Inclusive وغير الشاملة، Extractive وشرحا المقصود بهما بالقول:
Inclusive economic institutions stimulate economic success and are designed to encourage participation in economic activities. They also nurture economic freedom.
Extractive institutions are institutions which are set up to provide benefits to a select elite.
فالمؤسسات الشاملة كما تفيذ التجارب التي قاما بدراستها في عدد من البلدان التي حققت نجاحات إقتصادية حتى من دول العالم الثالث هي تلك التي تعني وتحفز النشاط الاقتصادي وتوسع نطاق المشاركة فيه وتوفر له مقومات النجاح. أما المؤسسات غير الشاملة فهي التي تعنى بمصالح فئات معينة فقط في المجتمع تفتح لها الباب لتهيمن على الموارد والنشاطات الاقتصادية وتحقق مصالحها الذاتية على حساب الشعوب وهذا في الغالب هو الحال في الدول التي تحكمها الأنظمة الشمولية. وهذا الوصف ينطبق على كثير من المؤسسات التي أورثنا إياها نظام الإنقاذ المباد. وفي رأيي وسواء أخذنا بوجهة النظر التي عبر عنها أسيموجلو وروبنسون أو غيرها فإن واقع حال مؤسسات وأجهزة الدولة السودانية تحتم الإصلاح المؤسسي Institutional Reform كأمر ضروري وهام لن يتأتى بغيره الإصلاح الإقتصادي والتنمية المستدامة التي سيبحث المؤتمر الإقتصادي في مختلف جوانبها وستتمخض عن ذلك توصياته لتعتمدها الحكومة الانتقالية وتسعى لتنفيذها.

وكما وردت الإشارة أعلاه عمد نظام الإنقاذ المباد لإحداث تغييرات عميقة الأثر في بنية الدولة المؤسسية أدى إلى تدهور واضح في الخدمة المدنية وتمثلت في التسيب وعدم التقيد بتطبيق السياسات والإجراءات والضوابط التي تحكم أدائها في جوانبه المالية والإدارية. وطبق نظام الإنقاذ سياسة التمكين التي أدت إلى تشريد الكوادر والكفاءات العاملة في الوزارات والمؤسسات والهيئات. وأزدادت وتيرة التسيب الإداري والمالي أيضا كنتيجة لسياسة التحرير الإقتصادي وخروج الدولة من بعض النشاطات الهامة جراء الخصخصة التي تمت دون ضوابط مهنية لتقييم نشاطاتها واصولها وبيعت بقرارات متسارعة. وفي إطار سياسة التحرير الاقتصادي فتح نظام الإنقاذ الباب واسعا لكوادره والعناصر الموالية له للولوج بمؤسسات وهمية أحيانا لممارسة النشاط الاقتصادي المالي والتجاري والصناعي والخدمي بأساليب متعددة تجاوزت رقابة الدولة والأسس والضوابط المألوفة لدى الأجهزة المختصة.

وإضافة لما تقدم أحدث نظام الإنقاذ المباد تغييرا واسعا في البنية المؤسسية للدولة جراء تطبيق نظام فيدرالي “هلامي” باهظ الكلفة في المركز والولايات بدعوى تحقيق “اللامركزية” ولم يراعي في تأسيسه وتطبيقه معايير الفعالية والكفاءة وتم توظيفه بشكل كبير لمهام في غالبها سياسية وأمنية. وقد أتاح نظام الإنقاذ الفيدرالي فرصا واسعة لهدر المال العام والفساد وصاحبته ممارسات ضارة تمثلت في اعتماد المحاصصات السياسة كأساس لاختيار الكوادر وفتحت الباب للمحسوبية وكرست القبلية والجهوية في التوظيف في أجهزة الخدمة العامة وهمشت دور كوادر الحكم المحلي والمهنيين من الضباط الإداريين. وفي ضوء ذلك فإن إي مساعٍ للإصلاح الاقتصادي لابد أن تأخذ بالحسبان ضرورة إعادة النظر في هياكل الحكم الفيدرالي الحالية لتقليصها وتقليل كلفتها وتحويلها إلى أجهزة تتميز بالكفاءة والفعالية وتعني بشكل أساس بتطوير الخدمات ودعم جهود الانتاج وتشجيع الاستثمار في ضوء الخصائص والمميزات الاقتصادية لكل إقليم من أقاليم السودان المختلفة. وحسنا فعل المتفاوضون لتحقيق السلام في منبر جوبا بالاتفاق للعودة ل “نظام الأقاليم” والمأمول أن يعاد النظر في جميع هياكل ومؤسسات الحكم الفيدرالي الموروثة من نظام الإنقاذ (الولايات والمحليات والوحدات الإدارية) وتقليصها ما أمكن وتطويرها لتدعم جهود تحقيق التنمية الاقتصادية المتوازنة التي تستهدفها اتفاقيات السلام وتقديم الخدمات للمواطنين بكفاءة وفعالية.

يرتبط بالتغيير والتدهور الذي حدث في البني المؤسسية للدولة ضعف الأداء الإداري ونقصد به ما يتعلق بممارسة الإدارة وأداء وظائفها التقليدية على مختلف المستويات المتمثلة بشكل رئيس في التخطيط والتنظيم والرقابة وغيرها من مهام ووظائف الإدارة المعروفة، إضافة إلى ضعف الأداء المهني ونقصد به تدني ممارسة المهن ذات العلاقة بالأداء الإداري في مجالات مختلفة كتخصصات لها معاييرها وضوابطها ومنها على سبيل المثال المحاسبة والمراجعة والحوكمة إلخ.

ومن أبرز أسباب الضعف الإداري والمهني عدم الاهتمام بالتدريب والتطوير المهني الداخلي والخارجي، وتغيير إهتمامات النقابات والاتحادات المهنية وتحويلها لواجهات سياسية لنظام الإنقاذ وحزب المؤتمر الوطني وصرفها عن دورها الأساس المتمثل في ترقية وتطوير المهن. وقد عمد النظام المباد إلى خلق الصراعات داخل التنظيمات والنقابات المهنية مما أضر بها وحرمها من التواصل مع الهيئات والاتحادات المهنية الأقليمية والعالمية المماثلة للاستفادة من تجاربها ومن فرص التدريب التي تتيحها لأعضائها وحضور المؤتمرات والتبادل العلمي والمهني معها.

كذلك لابد من المواءمة بين مخرجات مؤسسات التعليم العالي والجامعات ومتطلبات سوق العمل في القطاعات الاقتصادية المختلفة وهذا يتطلب جهودا كبيرة من الجامعات والوزارات ومعاهد ومراكز التدريب والأجهزة المختصة للتنسيق وإعادة النظر في البرامج الأكاديمية والتدريبية ولتوفير الكوادر المؤهلة في المجالات المختلفة وإتاحت فرص تأهيل وتدريب الشباب. وفي ذات الإطار للإصلاح المؤسسي لابد من الاهتمام بمشروع الحكومة الإلكترونية وترقية وتطوير الجوانب التقنية في أداء الأعمال والتخلص من النظم اليدوية والتقليدية في مختلف أجهزة ومؤسسات الدولة واستبدالها بالنظم الآلية الحديثة وتوفير متطلباتها من أجهزة وكفاءات فنية للتشغيل والصيانة لضمان فعاليتها للإسهام في تطوير الأداء المهني. ولابد أن يحظى كل ما ذكرناه، كأمثلة لتطوير الأداء الإداري والمهني، بالاهتمام في إطار الإصلاح المؤسسي كمتطلب أساسي وركيزة داعمة للإصلاح الشامل الذي يستهدفه المؤتمر الاقتصادي.

لاشك أن ثورة ديسمبر المجيدة هي الحدث الأبرز في تاريخ السودان الذي أحدث إجماعا وطنيا حول “ضرورة التغيير” لتحقيق شعارات الثورة (الحرية والسلام والعدالة). وبهذا ولأول مرة يمكن القول أن الإصلاح المؤسسي “كأحد أبرز وجوه التغيير” سيجد القبول الواسع من كل القطاعات المعنية وهذا القبول من أهم أسباب نجاحه. لابد إذن من بلورة مفهوم محدد للإصلاح المؤسسي ودوره الهام في تحقيق أهداف التنمية الاقتصادية في إطار رؤية واستراتيجية واضحة يتفق عليها وتتبناها الحكومة.

كذلك يجب أن تتم المواءمة بين الإصلاحات الاقتصادية والإصلاح المؤسسي وفق أولويات محددة وبأساليب يراعى فيها تحقيق الفعالية والكفاءة كما يجب أن يتزامن مع هذه الإصلاحات بذل الجهود اللازمة لتطوير النظم والتشريعات (القوانين واللوائح والإجراءات).

إن أي جهود للإصلاح المؤسسي يجب أن تأخذ في حسبانها تطلعات جماهير الشعب السوداني التي نادت بالتغيير، بحيث يشعر الناس أن ما نادت به الثورة يتحقق على أرض الواقع. وهذا أمر مهم حتى تجد جهود الإصلاح المؤسسي القبول من كل القطاعات المعنية بتلك الإصلاحات.

ولتحظى هذه الجهود بالدعم والإسناد اللازم، يجب أن يسبقها عمل إعلامي ومهني مكثف يستهدف تنوير تلك القطاعات في المركز والأقاليم بأهمية الإصلاح المؤسسي ووسائله، وكيف يمكن لجودة الإطار المؤسسي أن تساعد على تحقيق أهداف التنمية الاقتصادية القطاعية والكلية.

كما يجب أن يعتمد الإصلاح المؤسسي بالدرجة الأولى على الكوادر المؤهلة من الشباب من الجنسين في كل أقاليم السودان، وأن يتيح لهم الفرص الواسعة في التوظيف للإسهام في تحقيق أهدافه، إضافة إلى هذا يلزم أن يحظى الإصلاح المؤسسي بالاهتمام في إطار مفاوضات السلام الجارية حاليا بين الحكومة الانتقالية وحركات الكفاح المسلح، وأن يسبق خطوات التوقيع النهائي على اتفاقيات السلام ومشاركة هذه الحركات في الحكم التوافق على رؤية محددة للإصلاح المؤسسي كما أشرنا إليه أعلاه.

لابد من الاهتمام بآليات تنفيذ الإصلاح المؤسسي وتحديد مهامها والتحقق من قدرتها على إنجازها، ونعني بذلك الوزارات والأجهزة الحكومية ذات العلاقة التي ستسند لها مهمة إعداد تفاصيل خطط الإصلاح المؤسسي، بالتنسيق مع الجهات الأخرى ذات العلاقة ومتابعة خطوات تنفيذها، ومن أبرز هذه الأجهزة التي نرى أن تحظى باهتمام خاص “مفوضية إصلاح الخدمة العامة” التي نصت عليها الوثيقة الدستورية.

فكما هو شأن هذا النوع من المفوضيات في تجارب الدول التي سبقت بلادنا في عملية الإصلاح المؤسسي، لابد أن يراعى في الأختيار لأعضاء هذه المفوضية ذوي التأهيل والخبرة، وألا تكون عرضة للمزايدات والتأثير السياسي الذي يعيقها من أداء مهام الإصلاح بالصورة المطلوبة. وبديهي ونحن نشير إلى الاهتمام بآليات تنفيذ الإصلاح المؤسسي أن نذكر ضرورة الاستعانة بتجارب الأمم من حولنا وبالمستشارين وببيوت الخبرة العالمية المتخصصة لتقديم المشورة والعون اللازم.

وأخيرا ونحن على مشارف المؤتمر الاقتصادي القومي، نأمل أن يحظى موضوع الإصلاح المؤسسي بما يستحقه من عناية واهتمام ليكون في راس قائمة المهام والأولويات للحكومة الانتقالية بوصفه ضرورة قصوى وأساس لازم للتنمية الاقتصادية الشاملة والمستدامة.

استشاري الإدارة والتطوير المهني

التعليقات مغلقة.