في تواطؤ العصبة

في تواطؤ العصبة
  • 06 يونيو 2021
  • لا توجد تعليقات

د. وجدي كامل


جرت العادة لدى الغالبية من باحثينا والمؤلفين النقديين في تاريخ السياسة والاجتماع السياسي اتخاذ كلمة النخبة كمعنى وإشارة لمجتمع الأكاديميين والسياسيين والمثقفين بما يصنعون من أثر ويتركونه من بصمة على الاحداث. وبعد إعمال تفكير وتأمل بوضع أسئلة مبدئية مثل: هل لدينا نخبة بالمعنى الذي يدل على معناها القادم من اللغة الإنجليزية؟ وهل ذات معنى النخبة في المجتمعات المتقدمة هو المعنى التطبيقي المستهلك للنخبة في مجتمعاتنا؟
النخبة ووفق علم الاجتماع السياسي لدى عدد من مؤسسيه ومطوريه تعنى تسيُّد العدد الأقل المحدود على القيادة السياسية وصناعة القرار السياسي، وهي بالتالي القوة المؤثرة في تشكيل الراي العام، وهي أقرب هنا للاوليغاركية. وعادة ما تستند النخب إلى سلطة المال وحيازة تأييد الجماهير. والنخب بهذا المفهوم الاستعمالي تتوزع في عدد من المجالات منها السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، بحيث تكون مؤثرة في مجريات أحوالها وصانعة لقراراتها. ولكن، فالحقيقة الساطعة التي لا يمكن تجاوزها هي أن النخبة والنخب بدون امتلاك للسلطة تصبح فاقدة للصلاحيات الحيوية والطاقة على التأثير.

والنخبة والنخب مفردة تسللت إلى قاموس حياتنا الثقافية منذ صدور مؤلفي الراحل الدكتور منصور خالد (حوار مع الصفوة) ومن بعده (النخبة السودانية وإدمان الفشل) وتبعت الناس الجانب الاستعمالي الإعلامي للمصطلح دون تفتيش وجهد مقارناتي مُحكم في طبيعتها الواقعية وتماثلاتها الدقيقة بأحوال من وصفهم خالد بالنخب. وكنت قد نشرت رداً على ذلك بصحيفة الخرطوم أواخر التسعيينيات وأبديت تحفظاً على هذا الاستخدام مقترحاً إحلال مصطلح أو كلمة (عصبة) محل (نخبة).

فالنخب التاريخية والمعاصرة عندنا خلو من التكوين السياسي والثقافي المساند لمحتواها من حيث هي قوة موحدة متفقة على رؤيا مشتركة للتغيير الاجتماعي، فتصبح لدينا عصبة من الناس التي وفي ظل غياب النخب الوطنية الحقيقية تنزع لأخذ السلطة واحتكارها وفق توازنات طارئة وليست مستدامة.

فإذا أردنا التأكد من وجود العصبة والعصابة معا في التشكيل الاجتماعي المعاصر لنا والوثوق من كونها حية ترزق في شرائح ما تسمى بجماعات الوعي؛ فما علينا سوى عض أو قرص عضو طرفي من أعضائها بشكل خفيف في أذنيه أو في إصبع من أصابعه، عندها سوف تكتشف ان بقية العقد النضيد ستنداح وتتداعى له بالصراخ والسهر والحمى، وتسقط مباشرة من عقلها كافة الامتيازات الرمزية التي ظنت أنها حصر عليها. فتعود كعصبة اعتيادية بكامل خصائص العصبة.

التعصب والعصبية والعائد من التكوينات الاجتماعية المصابة بداء الانغلاق تقع كأصل للأزمة عند العصبة التي ليست النخب والصفوة والانتلجنسيا. فبحكم التعريف المتوفر في عدد من القواميس الأكاديمية والشروحات المقدمة وإضافة لما سبق، عن المعنى والدلالة لمصطلح النخبة نجد أن المعنى يشمل الثروة والتكافل والنزاهة والتمكين والتميز التخصصي والتحالف الطبقي بين أعضائها والتي ربما جعلتهم على قلب رجل واحد، كما يقال.
ولكن، فالنخبة لدينا ومنذ نشأتها وتمظهراتها الأولى قد تبنت سلوك الأقلية وسايكولوجية المقهور ورعاية عادات بعينها في النزوع المستمر لحماية نفسها وصيانة مكتسباتها الزائفة عبر التاريخ.
والنخبة في نزعاتها ونزوعها تغش بـ (الجماهير) بدلاً من أن تصبح نخبة منتخبة وحائزة على تزكيتها، فتستخدم المفردة – الجماهير ككلمة فضفاضة حمالة لصور عدة تخدم أهدافها الوصولية بعدم التقرب منها إلا عند المناسبات والاحتفالات السياسية والانتخابات.
لدى النظر والفحص لشاكلة ونوعية من يطلق عليها النخبة والنخب لدينا سنكتشف أنها الأقرب إلى العصبة او العصب وربما العصابات أحياناً. فالعصبة في بلداننا لا تفصلها أحكام قيمة عن غمار الناس أو (الجماهير) سوى شهادات مدرسية أو أكاديمية لا تسمن ولا تغني من وعي علمي وضوابط حضارية متفق عليها. إنها أقلية تدعى توفر سلطة رمزية لها على الغالبية، وتنوب في التعبيرعن أشواقها وأحلامهم في الشعارات التي ترفعها، إذ هي مفعمة بطلب السلطة، بل هي أقل وعياً من حيث التجارب في الاجتماع التطبيقي العام، حيث تنأى بنفسها عن مواقع المعركة الاجتماعية الساخنة الأصل، فتبدأ في تأسيس بدائلها الاجتماعية الموازية باختيارات صفوية سهلة توسع بها الشقة وتؤسس بها العزلة غير المجيدة لها بحسبان أن العزلة ميزة تفوق على العامة.

أما النقيض من الخصائص كالعقلانية والحكمة، فتقع هناك في ضفة أولئك الذين يعيشون تجربتهم باحتمال وتحمل لما تفعله فيهم العصبة من استعلاء وترميهم به من مسميات غايتها الصعود الآمن للسلطة السياسية والثقافية وقيادة الرأي العام بما قد يشوه التجربة ويخلق المتاهات، وكل ما لا ينفع رصاتة التطور أحياناً.

قديماً رمت أقواس الحكمة الشعبية المتعلم الصفوي سهامها بعبارة (القلم ما بيزيل بلم)، ليس لسبب إرادته من ذات نفسها لخلع التعليم من رجاله ونسائه، ولكن بما رأته خلعا للحكمة منهم وانتصار خواص وعادات الإيثار الشخصي وعدم التواضع لدى بعضهم بتهافتهم على السلطة وهم في عرضها ولجة بحرها لا تحركهم سوى أنانيتهم، فيمضون في اقتراف أخطائهم المكلفة الفادحة

العصبة السودانية ليست النخبة التي قام بنقدها الراحل الدكتور منصور خالد منذ مؤتمر الخريجين حتى الاستقلال عندما عجزت عن تقديم خدمات التطور الجمعي للمجتمعات السودانية عبر سلطة الوعي التي لم تقتضي بالضرورة قبضاً للسلطة وصناعة للسياسات التنفيذية الرسمية بعد الاستقلال.

إن الوجود العضوي للعصبة داخل البنى الاجتماعية ربما كان الأقرب إلى العبء أو العالة منه للوجود الخادم المخلص لمواطنيهم أو شركائهم في الأرض والثروة والحياة.

انظر كيف تركنا مهمة كمحو الأمية مهمة تقوم بها الحكومات (رغم أميتها السياسية) التي فشلت في القضاء عليها تغليباً على خيارات الحروب، وحب توسيع نطاقات الفقر، وتوطين الكوارث.
ومنذ بدايات عجلة التعليم النظامي حتى اللحظة تدفع البيوت بأبنائها وبناتها للتعليم لا للكسب المعلوماتي؛ باعتبار توظيف المعلومات لأجل التغيير الذي يسمح للمتعلمين والمتعلمات بتغيير ثقافة مجتمعاتهم ووضعها في مسارات من تطور مفتوح ومطرد.
فالمجتمعات الضعيفة الهشة التطور -وباعتبار التحالف الثقافي الخفي بينها وبين متعلميها وصفوتها – تحسن إعادة إنتاج نفسها في البنيات المركزية لحياتها، وكأنها لا تحتاج للنخب سوى في أمور شكلية ترتبط بأسئلة بقائها على الحياة بتوفير الأمن والأمان من الشرور الصحية والإسهام في تحسين نوعية العيش دون أي تجريد أو تهديد يصل أو يمس معتقداتها، وما خبروه وأودعوه في خزائن ثقافتهم الشعبية من مفاهيم وثقافة للحياة. فهي تقوم بتلك الحماية المفعمة بالرمزية السلمية ورمزيات اخرى قد تصل احيانا حد العنف عبر دفوعاتها ومدافعاتها التكوينية من قبائل وإثنيات تعتد بتاريخها ووجودها.

فالقبيلة والفخذ والجماعة والعائلة تدفع بأبنائهما وبناتهما، ويدفع الأب بابنه وابنته لتلقي العلم لا لكي يغيروا ما بأنفسهم أو يعملوا على تغيير الحاضنة الاجتماعية خاصتهم بتحديثها ونفض الغبار عنها، ولكن بالمحافظة عليها أكثر وتعميق روابط تخلفها وتمتينها عن طريق مراكمة رأس المال الذي غالباً ما ابتدر نزهته من المرتب الشهري لتتعقد دروبه وتصل إلى سرقة الدولة لصالح المصدر الطبقي والمؤسسة السياسية.

تلك هي شفرة التواثق المسكوت عنها والتي لا تخالف مبدا قيامها إلا شرائح قليلة جداً من النخب يمكن وصفها بالنخب الراديكالية خالية الحظوظ غالباً من السلطة والجاه والمال والقبيلة، وبالتالي الأثر العميق على الأكثرية.

هنا تتأسس المتاهة في تعرض العصبة لحالة خلع الأضراس أو الإصابة بأعراض العقل البدوي، كما قدم أطروحته حوله الدكتور النور حمد أو حالة ما أسماها الدكتور حيدر إبراهيم بالختان العقلي خوف النيل من بنية المعتقدات والقيم وثقافة العمل ليس فقط من الحاضنة الاجتماعية فقط، ولكن بتواطؤ كذلك ومكر مع السياسيات التعليمية الاستعمارية وفلسفتها من التعليم بصناعة الخريجين وليس المتعلمين الموهوبين التطبيقيين المدركين لفسلفة التغيير عن طريق تعميم خدمات الوعى والنهضة ما عدا قلة دفعت حياتها أثماناً لذلك العمل البطولي الذي يستحق التضحية.

عصبة وعصابات المجتمع السياسي والاقتصادي والثقافي أو ما تسمى بجماعات الوعي بحاجة ماسة للدراسة والنقد التحليلي في إطار سردية التواطؤ بينها وبين القواعد التحتية والمؤسسات الاجتماعية – تواطؤ ذهب كما بدأ بالجميع إلى سجن وغياهب الثنائيات أو واقع صراع المتقابلات الذي لا يسمح بالتطور الحر بقدر ما يسمح بالتطور الأفقي الذي ينفي غيره من بقية أنواع التطور وخاصة الراسي منها.

الوسوم د.-وجدي-كامل

التعليقات مغلقة.