ومات راعي الأغنام.. فهل هناك من يفتقده من الأحياء؟

ومات راعي الأغنام.. فهل هناك من يفتقده من الأحياء؟
  • 24 أكتوبر 2023
  • لا توجد تعليقات

د. حشن حميدة

إنه ذاك الراعي الذي لا أعرفه ولا يعرفني، ولكن خبر موته أحزنني أيما حزن. إنه ذاك الراعي الذي خرج يومها بأغنامه للمرعى، ليلقى حتفه بطريقة لم يكن يحلم بها في منامه. لم يعرف الراعي المعني المدن والخضر، بل يعرف عالمه السحري الذي يجذب إليه في كل يوم دون محالة. عرف عن هذا الراعي أنه يخرج بأغنامه إلى الوديان والفيافي في كل يوم سيراً على الأقدام، ويختار لها من المراعي الجيد منها، وما يليق بحوجة أغنامه من كلأ وماء حتى تشبع وترتوي ويمتليء ضرع إناثها. يخرج بها من قريته عند كل صباح باكر في موكب حافل للمرعى. والذي يتغير لون وشكل عبر مدار فصول السنة، مرة أخضر ولين في الفصل المطير، ومرة أصفر ويابس في فصول الجفاف. ولكن تميز هذا الراعي بتكيفه مع مرعى أغنامه ومع كل متغيرات الجو التي تحيط به وبأغنامه.

ربما ظن البعض وقالوا عنه، أنه ليس هو إلا راع للأغنام كغيره من الرعاة، ولكن يجور الظان والقائل إذ ظن وقيل. إنه وفي أبسط العبارات، الراعي الذي يشبع الجوع مما تشتهي الأنفس من لحم وحليب ومنتجاته. ولولا فضل مثل هذا الراعي بأغنامه، لما اكتملت فرحة الأعياد بالأضاحي، ولولا كرم مثل هذا الراعي، لما كف الصغار عن البكاء لسد حوجتهم من الحليب الذي لا يستطيعون العيش سواه. الراعي وما أبسطه من إنسان، هو ساعد الاقتصاد، ولولاه لما سمعنا بلحوم تصدر لتملأ خزانة الدولة، أو بجلود تصدر، لتعود علينا بأحذية وشنط وأحزمة تكفي حوجاتنا ومتطلباتنا وغير ذلك من منتجات.

يومها سمع أهل المنطقة بمحاولة جنود الدعم للتوغل في المنطقة الآمنة واستراتيجية الموقع للنفاذ لمواقع أخرى أكثر أهمية. وعلم الجيش بالخطة، وكان رد الجيش أن يزيد له الصاع صاعين، في أن يلغم المنطقة مداخل ومخارج، حتى لا يترك للدعم منفذ للدخول أو للخروج. وتم بالفعل تلغيم مطوق لم تعرفه المنطقة من قبل. وخرج الراعي كعادته باكرا من قريته في طريقه للمرعى في موكبه الجميل، تحفه أغنامه التي تفهم ما يعنيه راعيها بالإشارة ومن دون نفاذ كلمة واحدة من فمه. وفي أثناء ذلك الموكب البهيج الذي كان ينتشيه الراعي عند كل يوم، تفجر وهلة لغم كان مدفونا على طريقه وفي مكان وجوده. هنا الراعي مستلق على الأرض، وهناك دم منسكب على الأرض التي عشقها. لقد بدأ عاجز عن إسعاف أغنامه، وأغنامه بدت عاجزة عن إسعافه. ووقع يومها الراعي الذي يجود على الناس في الأعياد والمسرات بأغنامه ضحية.

تناثرت أطراف الراعي أشلاء، وتناثرت أغنامه بعد أن توزعت من حوله. لقد فاضت روح الراعي الطاهرة إلى بارئها، ومات بعد دقائق بجوار أغنامه التي أحبها وأحبته. ومن أغنامه ما مات، ومنها ما جرح، ومنها ما نجي من الموت بقليل. وقتها سمع أهل المنطقة بصوت الانفجار، بل رأى بعض منهم غبارا يتصاعد إلى أعلى ويلتوي إلى قلب السماء. ووقتها تعالت أصواتهم، وبدأ البحث عن مكان الحدث اللئيم. ولكن عند وصولهم لم يجدوا غير بقع كبيرة حمراء من الدماء تلون أرض المرعى، منها دم أغنام ماتت، ممتزجة بدم الراعي الذي عاش حتى آخر لحظات حياته من أجلها. وهناك رقدت أغناما ناجية من اللغم المتفجر، ولكنها جريحة تشكو بلوعة ما ألم بها من جراح وآلام. لقد مات الراعي وماتت بعض أغنامه في مرعاها، وتبقى بعض آخر منها على قيد الحياة.

برحيل الراعي تفقد البلاد “الدولة” إنسانا منتجا وغير كسول. لقد عاش الراعي ببساطة وزهد، ودعم بلاده دعم مباشر بإنتاجه المعتبر. الشيء الذي يجعل هذا الإنتاج ينعكس إيجابيا على اقتصاد الدولة. كان رأس مال الراعي في أيام حياته متمثلا في أغنامه، ومكان عمله متمثل في مرعى أغنامه، أخضر لين، أو أصفر ناشف كان. ولكنه متقبل للأثنين مهما طرأت عليه من متغيرات وأحلت به من ظروف. لقد خاب ظن الراعي في أهل الحداثة وصانعي الألغام. ربما كان يتوقع الراعي أن يموت بشجاعة وببسالة، ربما بسبب هجوم حيوان مفترس كبير عليه في مرعى أغنامه، يقابله وجه لوجه، يواجهه بفراسة ويتحداه بشجاعة، فإما أن يقتله أو يهرب منه ويولي الأدبار، وليحكي قصته مع الحيوان المفترس لبقية الأجيال. وتظل حسرة الراعي رغم موته، هي أنه لم يكن يتوقع أن يموت موت جبن وغفلة، بسبب لغم متفجر، يداهمه غافلا ويقتله.

لقد رجع الراعي إلى خالقه وبارئه نظيف نفس وطاهر روح. لم يعتد الراعي المتقشف دخول الأسواق بأغنامه لكي يسوقها، بل كان يتحاشاها لزهده وكبر نفسه. وكان على كل من يرغب في شراء أغنام منه أن يحضر للقرية أو للمرعى بعد أن يكرمه. ولم تعرف نفس الراعي أمراض العصر من سمنة وأمراض مزمنة، فكان عالمه هو هواء مرعاه الطلق، وتلون مرعاه على مدار فصول السنة. وكان غذاؤه يتمثل فيما تجود به أغنامه من حليب ولحم. ولم تعرف نفسه غير الكرم والعطاء، فكان دوما المجواد بما ملك، وما لا يملك من زاد لأهل قريته ومنطقته والمسافرين ومن ضل الطريق. ولم يكن الراعي يطمع في مال أو جاه أو وظيفة أو مقعد حكم في بلاده، بل كان خالص النيات في عمله ولبلاده. كان حبه للحرية وحبه للطبيعة يعنين له أكثر من الكثير. ألا رحم الله ذاك الراعي، وأدخله فيسح جناته مع الخالدين. آمين يا رب العالمين.

E-Mail: hassan_humeida@yahoo.de

التعليقات مغلقة.