حياة إنسان الفاشر مهمة

يتناسب الوضع الإنساني المأساوي في مدينة الفاشر طردياً مع طول أمد المعركة الدائرة للسيطرة عليها. فبعد أكثر من عام، لايزال غبار المعركة عالقًا، وضبابية المشهد العسكري لم تتلاشى، ولم تنكسر عتبات التضليل الإعلامي.
وبين هذا وذاك ما زال المقاتلون يمارسون طقوس النصر والهزيمة في مدينة تحولت إلى مسرح لمعركة “كسر العظم” بين قوات تأسيس، والجيش السوداني، والقوات المشتركة .
وقد غادر أحد قادة القوات المشتركة، رئيس حركة تحرير السودان مني أركو مناوي، البلاد مغاضبًا بعد اتهامه لبعض منسوبي حكومة بورتسودان بتجاهل مدينة الفاشر بصورة متعمدة ، معتبرين – بحسب ما صرّح – أن الحرب قد انتهت بانسحاب قوات الدعم السريع من ولايتي الجزيرة والخرطوم. رغم أن معركة كسر العظم ستنتهي بمنتصر ومهزوم على مستوى الحسابات العسكرية والسياسية، فإن الخسارة الإنسانية مشتركة، والدماء السودانية التي تُراق تُعد جريمة مستمرة، دفعت بها الحركة الإسلامية في سبيل العودة إلى السلطة.
فاشر السلطان.. درة الإقليم
السيطرة على مدينة الفاشر تحمل أهمية كبرى لقوات تأسيس، فهي آخر منطقة في دارفور لم تسيطر عليها بعد، بعد أن بسطت نفوذها على معظم الإقليم. كما أن الفاشر تمثل ركيزة استراتيجية للقوات المشتركة التي تسعى من خلال هذه المعركة إلى استعادة مكانتها السياسية المتراجعة، ورفع الروح المعنوية لجنودها، وربما استخدامها كورقة ضغط على حليفها الجيش السوداني .
أما الجيش، فيبدو زاهدًا في التمسك بكامل إقليمي كردفان ودارفور، رغم تصريحات قائده الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان بشأن استمرار الحرب، في محاولات لاستغلال التناقضات والصراعات مع حلفائه. مدينة الفاشر، المعروفة بـ “فاشر السلطان”، كانت عاصمة سلطنة الفور، إحدى أهم الممالك في غرب إفريقيا التي لعبت دورًا دينيًا وتجاريًا محوريًا في ربط غرب ووسط إفريقيا بالعالم العربي والإسلامي. وتمثل الفاشر رمزًا للثقافة والتاريخ والتنوع الدارفوري، واحتفظت على مر الأزمان ببريقها السياسي، وبدورها كمركز اتخاذ القرار، قبل وبعد تقسيم السودان إلى مديريات وأقاليم في فترة حكم الديكتاتورين مايو الإنقاذ.
تتمتع المدينة بموقع استراتيجي وسط الإقليم، ما يجعلها نقطة تحكم محورية بين غرب السودان وشرقه، كما تمثل شريان اتصال مهم بدول الجوار: تشاد،ليبيا، ومصر.
كل هذه الأسباب تجعل من الفاشر درة ثمينة تتقاتل عليها أطراف الحرب، خصوصًا قوات تأسيس، التي باتت على بعد خطوة من السيطرة الكاملة على دارفور، بعدما أحكمت قبضتها على الشرق، والجنوب الشرقي، والشمال الداخلي للمدينة، بينما تسيطر القوات المشتركة والجيش على الشمال، والغرب، والجنوب الغربي.
معركة كسر العظم والتكلفة الإنسانية
معركة كسر العظم في الفاشر تكشف عن بشاعة الحرب، إذ لكل طرف استراتيجيته الخاصة للسيطرة على المدينة.
قوات الدعم السريع، قبل اندماجها مع تحالف تأسيس، فرضت حصارًا خانقًا، خلّف أزمة إنسانية حادة، خاصة في الغذاء والدواء . واستخدم الجيش الطيران الحربي في قصف أحياء مكتظة بالمدنيين، بينما اعتمدت القوات المشتركة سياسة التجييش القسري للشباب، ما ضاعف من حجم المأساة. ورغم النداءات المتكررة لخروج المدنيين، حالت القوات المشتركة دون ذلك، معتبرة المدنيين دروعًا بشرية، وليست أرواحًا يجب حمايتها . الاستخبارات العسكرية أيضًا لعبت دورًا خطيرًا في ملاحقة الشباب ومنع مغادرتهم، حتى بات الخروج من الفاشر ضرورة إنسانية وأمنية لا تقبل التأجيل.للأبرياء حق الخروج من المحرقة في تقرير نشرته صحيفة “الراكوبة” الإلكترونية، اعترف بعض منسوبي الجيش والقوات المشتركة بمشاركة أهالي المدينة في القتال.
هذا بحد ذاته دليل على أنهم وضعوا المدنيين بين مطرقة المعارك وسندان الجوع.
أحد منسوبي القوات المشتركة صرّح قائلًا: “الفاشر لا تجوع ولا تضعف ولا تنهزم”، في تجاهل تام للواقع المأساوي، حيث يتلوى سكان المدينة جوعًا ويستغيثون.
معاناة المدنيين في مدينة الفاشر أسوأ مما يتخله الكثيرون. الشباب في الفاشر يُستهدفون بتهم الخيانة لأسباب إثنية وانتقامية، مما دفع بعضهم للانضمام إلى المقاومة الشعبية فقط للدفاع عن أنفسهم وأسرهم. وقد سقط عدد منهم في المعارك دون خبرة قتالية، أو حتى معرفة بما يحدث لحظة الاشتباك.
في محاولات الهروب من المدينة ليلًا، يواجه المدنيون خطر الوقوع في قبضة القوات المشتركة أو الاستخبارات، وإن نجوا، فهناك المليشيات المتفلتة والعصابات الإجرامية، وحتى الاتهامات بالانتماء لطرف معين أصبحت تُستخدم لتصفية حسابات شخصية.
بدل “الأمباز” عربة نقل
بين الحرب وشراسة معاركها أصبح إنسان الفاشر نفسه ضحية للاستغلال فالتكايا التي تُجمع فيها التبرعات باسم العون الإنساني لا تقدّم له إلا حفنة من علف الحيوان “الأمباز”، بدلًا من توفير وسائل نقل آمنة لخروجه من المدينة.
إلى متى يظل إنسان الفاشر يأكل “الأمباز”؟
لا أحد يعلم متى ستنتهي هذه المعركة، أو كيف ستنتهي، خاصة مع الانقسامات التي ضربت القوات المشتركة، لا سيما داخل حركة تحرير السودان بقيادة مناوي. تساؤلات كثيرة تطرحها نفسها بشأن مستقبل الحركة أولها:
ماذا سيحدث إذا انضمت الفصائل المنشقة إلى قوات تأسيس؟ ثانياً هل ستصمد جبهة المشتركة؟ ثالثاً هل سينقسم المناصرون للمشتركة؟ رابعاً ماهو دور حلفاء المشتركة الإسلاميين والجيش؟ خامساً هل يملك مناوي الخيارات للمناورة لسياسية على كل الأطراف؟ ولماذا زار القاهرة ؟ وما هو موقف جبريل إبراهيم في هذا الصراع؟ وما هو تأثير الانقسامات داخل حركة التحرير على سير المعارك الحربية في الحرب التي لا أحد يستطيع التنبؤ متى ستنتهي، وكيف؟.
السيناريوهات المتعددة في المشهد السياسي المعقد تضاعف من مخاوف سكان المدينة وتفرض ضرورة خروجهم منها لأن القادم قد يكون أسوأ بقسوة الجوع ودوي المدافع .صوت العقل والرحمةفي ظل الوضع الكارثي، هناك دعوات لبقاء سكان الفاشر والدفاع عن المدينة. لكن السؤال المطروح: لماذا لم يبقَ أولئك الذين يُطلقون هذه الدعوات في مدنهم حين اندلعت الحرب في 15 أبريل 2023؟ لماذا نزحوا أو لجأوا إلى الخارج؟ فمن الناحية الأخلاقية، لا يحق للآمنين في المهاجر تحريض المدنيين للبقاء في المدينة المهدد سكانها بالموت جوعاً.
لقد صمد أهل دارفور في الحروب منذ عام 2003، وسقط منهم ما لا يقل عن 350 ألف قتيل.ألا يكفي هذا الثمن الباهظ؟! الحق في الحياة يجب أن يكون مكفولا للجميع، والإنسان هو الإنسان، لا فرق بين روح وأخرى. (ما في زول أحسن من زول). والجميع يعلم أن الفاشر لم يعد يحتمل. تقارير المنظمات الأممية، ووسائل الإعلام، وإفادات المواطنين جميعها تُجمع على أن المدينة لم تعد صالحة للحياة، بل أصبحت المدينة التي تنبعث منها رائحة الموت.
نداء للضمير الإنساني
النداء الذي أطلقه د. الهادي إدريس، حاكم إقليم دارفور في حكومة تأسيس ورئيس الجبهة الثورية، والذي دعا فيه سكان الفاشر إلى مغادرتها، يُعد خطوة في الاتجاه الصحيح. لكن ذلك يتطلب خطة واضحة، وبمشاركة فعلية من منظمات الأمم المتحدة والهيئات الإنسانية، لتأمين ممرات الخروج وضمان سلامة المدنيين، الذين باتوا لا يثقون بأي طرف. لقد صرّح إدريس في صحيفة “التنوير” بوجود تنسيق داخلي بين أطراف تأسيس، وأكد تواصلهم مع المنظمات الإنسانية لتأمين المدنيين، مشيرًا إلى إيصال قافلة مساعدات من منطقة الطينة إلى مناطق مختلفة في دارفور.
الفاشر في مخاض عسير
مدينة الفاشر تمر بمرحلة مخاض عسير. مرحلة تفتقت فيها كل الجراحات القديمة والجديدة و إنسانها يعاني من وجع تكسير الأصابع والضغط على أعصابه إلى حد اللا قدرة على الألم. الفاشر تحتاج إلى الرحمة التي ترتق الجروح وتمنح إنسانها الثقة التي تمكنه من مغادرة معركة كسر العظم بأمن وسلام إلى يتنزل السلام على البلاد.
أخيراً: إنقذوا إنسان الفاشر فحياته مهمة