ما وراء الورقة الأمريكية وضمانات وقف الحرب في السودان

بعد عام من رفض البرهان دعوة أمريكية لإرسال وفده إلي سويسرا في أغسطس الماضي، وصل البرهان بنفسه في أغسطس الحالي وأجرى مباحثات سرية مع مستشار الرئيس الأمريكي للشؤون العربية والافريقية مسعد بولس، وحملت الأخبار أيضا إجراء بولس مباحثات سرية مع قيادة الدعم السـريع؛ جرت هذه المباحثات على ورقة أمريكية أودعت في بريد البرهان وحميدتي قبل وصولهما إلي سويسرا، والتي تركز على وقف إطلاق النار والعدائيات وفتح ممرات إنسانية وإطلاق عملية سياسية مدنية ومخاطبة مستقبل الجيش والدعم السريع وحلفائهما، جاء اللقاءين بغرض الرد على مضمون الورقة وموافقة قيادة الطرفين على التفاوض غير المباشر كخطوة مطلوبة للمفاوضات المباشرة، بعيداً عن جدل شروط البرهان التي كانت سبب فشل مباحثات سويسرا السابقة وبعيداً من خلافات الرباعية التي أجلت إنعقاد إجتماع واشنطن نهاية الشهر الماضي، مما يشير إلي ان واشنطن هذه المرة إتجهت الي منهجية جديدة تقوم على تجنب التصعيد الإعلامي السالب، وتجاوز التحرك الرباعي، وبحث المواقف التفاوضية وراء الأبواب المغلقة، وإختبار نوايا الطرفين دون الوقوع في مأزق الانخراط المباشر في المفاوضات دون تحضير كافي، خصوصا في ظل غياب الثقة الكاملة بين الطرفين.
كل المعطيات تشير الي أن هذه الخطوة الإستكشافية غير المباشرة قد تحقق تقدماً ملموساً إذا أظهر الطرفين الجدية والالتزام والإرادة، ومن شأنها ان تتحول إلى مسار تفاوض مباشر يفتح الباب للوصول الى إتفاق.
المرونة التي أبداها البرهان هذه المرة ناتجة عن دوافع تحسن موقفه التفاوضي بصورة كبيرة عن العام الماضي بخروج الدعم السـريع من ولايتي الجزيرة والخرطوم، وتجسير الهوة التي تتسع يوما بعد يوم داخل معسكر بورتسودان وحمولاته، ومخاطر تشكيل حكومة موازية في نيالا بكل أبعادها الإقتصادية والسياسية، مما يشير الي إدراك الحقائق على الواقع التي تؤكد لا حل عسكري وتدعم وقف الحرب.
لا شك ان سرية المحادثات تضفي طابعا أكثر جدية من قبل الادارة الامريكية، مما يدفع الطرفين إلى الانخراط في مفاوضات تكسر نمط الجولات السابقة التي كانت ترتبط عادة بتبادل الشروط المسبقة والتأثر بالحملات الإعلامية، فالسرية تتيح للطرفين مساحة لاستكشاف فرص الحلول دون قيود معلنة، وفي ذات الوقت تدفع أطراف الرباعية لمراجعة مواقفها ودعم نتائج هذه المباحثات والبناء عليها وتوسعة المظلة الإقليمية والدولية.
معلوم ان منهجية إدارة ترامب للتعامل مع الحرب في السودان لا تنفصل على إستراتيجية شاملة تقوم على الدفع بمقترحات عملية لإنهاء النزاعات سيما في غزة وليبيا ولبنان واكرانيا وغيرها، وترتبط بتقييم جهود التجارب السابقة لحمل المتحاربين في السودان سوى كانت مفاوضات غير مباشرة في جدة أو مباشرة في المنامة، والبناء على الموقف الثابت للإدارة الأمريكية وشواغلها المرتبطة بتحقيق السلام في العالم كعنوان بارز لسياسة ترامب، وعلى دعم التحول الديمقراطي بقيادة مدنية، ومكافحة الإرهاب وتعزيز الأمن الإقليمي في منطقة البحر الأحمر، ومحاصرة النفوذ الروسي والصيني، وفي إطار هذه السياسة تسعى إدارة ترامب إلي إحلال السلام في السودان سوى كانت بمجهودها الفردي أو في سياق مجهود جماعي يشمل الرباعية وقطر وبريطانيا وتركيا، إنطلاقاً من نفوذها في المنطقة وأدوات الضغط على الطرفين والضمانات التي توفرها لتنفيذ أي إتفاق محتمل.
إمكانية تحقيق اختراق تفاوضي في سويسرا كبيرة أكثر من اي وقت مضى، رغم العديد من التعقيدات والعقبات التي تعترض مسار الحل التفاوضي، سيما إصرار الإسلاميون على الحسم العسكري، وتباين مواقف الرباعية، وتداعيات تصاعد العمليات العسكرية في الفاشر وكردفان، وبالتالي فإن مسار التفاوض لن يكون سهلًا، ولكن الوصول الى اتفاق ممكناً، والذي يحتاج إرادة وطنية شعبية منحازة للسلام تدفع الطرفين دفعاً لوقف معاناة السودانيين وتتسلح بالتفاؤل والعمل الجاد في مواجهة اي تراجع، لتتكامل مع إرادة إقليمية ودولية داعمة لأي إتفاق. وهذا لن يتأتي الإ بتحمل القوى المدنية مسؤوليتها في توحيد الصوت المدني الداعم للسلام، وتجاوز القوى الإقليمية المنخرطة في الملف السوداني إنقساماتها لكي تلعب دوراً إيجاباً في احلال السلام في السودان.