الرباعية وحسابات المكاسب والخسائر في حرب السودان: تحريك المياه أم تغيير مجرى النهر؟

منذ اندلاع الحرب في السودان ظلّ المشهد يزداد تعقيداً مع غياب أي مبادرة فعالة لكبح جماح القتال أو تهيئة بيئة سياسية جادة للحل. فقد طالت الحرب، وانشغلت الأطراف الإقليمية والدولية بملفات أخرى، بينما غرق السودان في حرب منسية لا يسمع عنها العالم إلا شذرات متناثرة، وسط كارثة إنسانية طاحنة تهدد بمجاعة جماعية وانهيار كامل للدولة. في هذا السياق الكئيب، جاء بيان الرباعية، التي تضم السعودية والإمارات والولايات المتحدة ومصر، ليكسر حالة الجمود، في خطوة يمكن وصفها بأنها “إدخال قدم واحدة” في مستنقع الأزمة، دون أن يكون انخراطاً كاملاً.
فأهمية البيان تكمن في رمزية التوقيت والسياق، فقد جاء بعد شهور من الانكفاء الدولي، ليشير إلى أن الرباعية قررت أخيرا العودة إلى ملف السودان، وإن كان ذلك بحذر. لكنه يبقى أقرب إلى إعلان نوايا سياسية. ويعتقد كاتب هذا المقال أن أي تدخل في الأزمة السودانية المستفحلة إذا لم يتضمن آليات عملية واضحة، كنشر مراقبين دوليين تحت مظلة الأمم المتحدة أو الاتحاد الأفريقي، وجدولاً زمنياً ملزما لوقف إطلاق النار يرتبط برفع العقوبات أو منح المساعدات، سيظل أثره محدوداً، ولن يعدو أن يكون تحريكاً للمياه الراكدة أو دوراناً في حلقات دبلوماسية مفرغة. وحتى مخاطبة القضايا الإنسانية الملحة سيكون ضرباً من المستحيل، ما يعني هدرا للزمن وإطالة أمد النزاع، وتمكين فرقاء الحرب من المزيد من التحشيد والاستقطاب.
وعلى الرغم من هذا القصور، فقد وجد البيان ترحيباً واسعاً، ما يعكس تعطشاً داخلياً لأي بارقة أمل توقف النزيف المستمر. غير أن هذا التحرك يفتح الباب أيضا أمام قراءة معمقة لمعادلات الربح والخسارة لمختلف الفاعلين، وهو ما سيحاول المقال استكناهه.
ربما كان الرابح الأكبر، في هذه المرحلة، هو السودان نفسه. فمجرد حدوث توافق نسبي بين مصر والإمارات بعد فترة من التباين الحاد في مواقفهما تجاه الصراع السوداني يعد مكسباً بحد ذاته. وقد يكون التوافق وخلق حالة من الانسجام، تمهيداً للطريق لإعادة تطبيع العلاقة بين الخرطوم وأبوظبي.
وبالنظر لحسابات الفاعلين، فقد كانت الحركة الإسلامية أكبر الخاسرين. فقد قابلت بيان الرباعية، وبدفع من أيديولوجيتها المتصلبة، بغلظة متشنجة غابت فيها السياسة لصالح الانفعال اللحظي، ولم تفكر إلا في ذاتها ومصالحها المباشرة. فوضعيتها الحالية تفتقر إلى الحصافة السياسية، وغلبت النزعات القتالية على الموروث السياسي الذي اكتسبته عبر ما كان يسميه عرابها الأول حسن الترابي “المجاهدات السياسية”، لصالح نزعة متطرفة لا ترى في المسرح السياسي إلا نفسها، وتنظر لأي اتجاه تسوية على أنه خيانة لدماء من قدمتهم في المعركة. وبهذا، قد تتحرك الحركة الإسلامية بعقلية “كل شيء أو لا شيء”، فتسعى لمواجهة القيادة العسكرية الحالية في خطوة مغامرة وغير محسوبة العواقب، من المرجح أن تنتهي بها نهاية مأساوية.
في المقابل، يبدو الجيش السوداني الرابح الأكبر من البيان على المديين القصير والطويل، إذا ما أحسن استثماره. فهو يمنحه فرصة لإعادة التموضع السياسي، ويفتح أمام قياداته باباً لترتيب خروج آمن من ملفات شائكة مثل فض اعتصام القيادة العامة وانقلاب أكتوبر 2021. وفي حال أدار قادته هذه اللحظة بذكاء، يمكنهم أن يظهروا كطرف مسؤول يسعى لإنهاء الحرب وحماية وحدة البلاد. غير أن الخطر يكمن في أن يكتفي الجيش بالتقاط الأنفاس دون تقديم تنازلات حقيقية، وهو ما قد يؤدي إلى إطالة أمد الحرب وفقدان الدعم الدولي لاحقا. كما سيظل الجيش المؤسسة العسكرية الوحيدة المعترف بها، ما يجعله الإطار الطبيعي الذي يمكن أن تُدمج فيه المليشيات، بما فيها قوات الدعم السريع، في حال تم التوصل إلى ترتيبات أمنية وعسكرية شاملة، وهو ما سيعزز موقعه بوصفه الحاضنة العسكرية للدولة.
وفي الجهة المقابلة، يواجه الدعم السريع تحديات وجودية بعد البيان، إذ يبدو الخاسر الثاني بعد الحركة الإسلامية، حيث يشير التوافق الإقليمي والدولي إلى احتمال عزله تدريجياً لاسيما وأن أبوظبي لن تجد نفسها مضطرة لاستخدامه في اي مشروع آخر. فهو يواجه ضغوطاً متزايدة، ويُنظر إليه كعقبة أمام أي تسوية، ما يتركه أمام خيارين أحلاهما مرّ: إما القبول بتسوية تقلص نفوذه بشكل كبير، أو المراهنة على استمرار الحرب مع كلفة بشرية وسياسية باهظة قد تعجل بنهايته. وتتجاوز خسارة الدعم السريع حدود نفوذه العسكري، إذ يواجه انهيار “مشروعه السياسي” الذي طرحه لإقامة حكومة موازية، وخسارة بعض القوى القبلية التي قد ترى في أي صيغة توافق تنازلاً عن “تضحياتها” الميدانية. كما أن الطموحات الشخصية المرتبطة بآل دقلو تصطدم بواقع سياسي جديد لن يكون فيه للبندقية موطئ قدم، بل ستتحدد الأجندة وفق مرجعيات سياسية قائمة على الرؤى المدنية، وتتكئ على التسامح وتنشط في مجال العمل العام. وهذه اتجاهات لم يُجبل عليها على لا مستوى البنية التنظيمية، ولا على مستوى التركيب العقلي. يضاف إلى ذلك أن بندقيتهم نفسها ستواجه المصير المحتوم الذي حدده الاتفاق الإطاري بدمج القوات في الجيش الوطني، وهي عملية ستتطلب جهداً كبيراً لإقناع العصبيات القبلية المنخرطة معهم بجدوى هذه الخطوة، دون الوقوع في صدامات داخلية حادة، قد تبدأ بفقدان الثقة في القيادة، ولا تنتهي عند حدود التخوين أو حتى التصفيات الدموية.
بطبيعة الحال، فقد رحبت القوى المدنية بالبيان لأنه أعاد طرح مسار التحول الديمقراطي كجزء من الحل. لكنها تدرك أن البيان قد يكون مجرد ورقة ضغط تكتيكية أو محاولة لتسكين الجراح دون معالجتها. وتتمثل معضلتها في الحفاظ على وحدتها وعدم الانجرار وراء مكاسب آنية، مع الإصرار على أن التحول الديمقراطي ليس شعاراً، بل ضمانة أساسية لحفظ مصالح الجميع، كما أن القوى المدنية مطالبة بأن تتعامل بذكاء مع التناقض بين الجيش كمؤسسة قتالية محترفة، والحركة الإسلامية التي تحاول توظيف هذه المؤسسة لخدمة مشروعها السياسي. غير أن غالب الظن أن كتلة “صمود”، التي تمثل أبرز القوى المدنية، قد لا تكون قادرة على لعب هذا الدور الصعب، لانشغالها بتحقيق الانتقال الذي تراه استحقاقا طبيعيا لها. أما بقية الكتل السياسية – الكتلة الديمقراطية – فإن نجاحها في هذه المرحلة يتوقف على قدرتها على التخطيط لما بعد الانتقال، والعمل على تشكيل تحالفات واسعة تضمن لها موطئ قدم في العملية السياسية القادمة، بحيث لا تكون مجرد ملحق لقوى أكبر أو رهينة لمصالح خارجية.
غير أن السؤال الأكبر يظل متعلقا بمدى صبر الرباعية على التعقيدات الحالية، سواء على مستوى الحرب أو السلم. فالصبر على الفوضى ليس مفتوحاً إلى ما لا نهاية. وإذا استمر القتال دون تقدم سياسي، فقد تنتقل الرباعية إلى مرحلة الضغوط الأقوى، والتي قد تتخذ شكل عقوبات مستهدفة (مثل تجميد الأصول أو منع السفر على قادة الطرفين المتعنتين)، أو الدفع نحو إصدار قرار دولي تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة لنشر قوات مراقبة دولية محدودة لحماية المدنيين ومراقبة وقف إطلاق النار. ولكي ينجح البيان في التحول من مجرد إعلان نوايا إلى مسار حقيقي، لا بد من وضع جدول زمني واضح لوقف النار، ونشر قوات مراقبة فعالة على الأرض، وربط أي دعم اقتصادي أو سياسي بتقدم ملموس نحو التحول الديمقراطي. فبدون هذه الشروط، سيظل البيان مجرد إعلان سياسي يحرّك المياه لكنه لا يغيّر مجرى النهر.
على عموم الأمر، إن بيان الرباعية لا يمثل حلاً نهائياً، لكنه يشير إلى بداية إدراك إقليمي ودولي بأن ترك السودان لمصيره يعني مزيدا من الفوضى التي قد تمتد إلى المنطقة. فمجرد صدوره، وتوافق القاهرة وأبوظبي حوله، يعد مكسبا مهما في ذاته. غير أن المكسب الإستراتيجي الحقيقي يبقى في استعادة مسار التحول الديمقراطي، ليس فقط لأنه مطلب شعبي، بل لأنه الإطار الوحيد القادر على حفظ مصالح جميع الفرقاء وضمان استقرار إقليمي طويل الأمد، وتجنب السودان مصير الدولة الفاشلة التي تهدد جوارها وأمنها القومي.