السودان بين الحرب والسلام: تساؤلات مشروعة ومشاعر متضاربة
يثير المشهد السوداني الراهن تساؤلات متتالية حول مصير السودان، ومشاعر متناقضة من الحزن على دماء أُريقت ولا تزال تُراق، وأموال وممتلكات نُهبت، وبنية تحتية دُمّرت، ونسيج اجتماعي مُزّق بخطاب عنصري، ووطن على شفا جرف هارٍ من التفكك والتشظي، دون مبرر مقنع أو هدف وطني في حرب عبثية على حد وصف القائد العام للجيش السوداني، تقترن بها مشاعر قلق يثيرها الخوف مما قد تؤول إليه الأوضاع التي لا تزال هشة وغير مستقرة ومفتوحة على كل السيناريوهات. ورغم ما تنطوي عليه هذه التساؤلات المشروعة والمشاعر المتشائمة، فإنها لا تستطيع أن تحجب مشاعر الأمل بقرب وقف الحرب والتفاؤل الذي يغذي السلام والاستقرار، وبواعث التفاؤل هي ذاتها دواعي القلق، إذا ما نجحت خطة الرباعية واستجاب المتحاربون لصوت العقل وتوحدت الإرادة الوطنية السودانية كمداخل تفتح الطريق نحو مشروع وطني.
إن قراءة مشهد الحرب والسلام في السودان تتطلب استحضار أسباب الحروب وطبيعتها وتحولاتها، ومبررات حالة الانقسام والاستقطاب في الحياة السياسية التي يقف وراءها التفكير الشمولي “فرّق تسد”، وأبسط مبرر لاستمرار احتكار السلطة والعسكرة هو القول بأن المدنيين غير متفقين، وبالتالي فإن أي حل للأزمة يستوجب تقارب القوى المدنية، وقد أثبتت مقاربات التسوية أحادية الجانب أو الثنائية فشلها، كما أن تأثير التدخل الإقليمي والدولي على تأجيج هذا الصراع وتغذيته قائم، وعليه فإن البحث عن إيجاد مقاربة للحل لا بد ان تراعي الواقع وتصنع معادلة توازن بين القوى الوطنية والخارجية التي يمكن أن تخرج البلاد من أزمتها، وتسهم في تحقيق الاستقرار وبناء الدولة.
لقد أفرزت تداعيات الحرب عواقب كارثية في الوقت الذي تتنازع فيه الساحة السياسية على سرديتين: الأولى يتبناها دعاة استمرار الحرب، والتي تدور حول أن هناك مؤامرة تتعرض لها البلاد تشارك فيها قوى محلية وإقليمية ودولية، وهذه كلمة حق يُراد بها باطل تخفي وراءها العودة الكاملة للنظام المباد. والثانية تتبناها القوى المدنية الديمقراطية التي تدعو لوقف الحرب وتحقيق السلام، والتي تدور حول تفكيك بنية خطاب الحرب وخطله وما وراءه، وتقدم خطابًا موازيًا يدعو للحل السياسي للأزمة السودانية.
في ظل احتدام الصراع بين السرديتين فالمشهد السياسي الراهن ما زال ملتبساً لعدة أسباب:
السبب الأول: أن قيادة الجيش ما زالت مترددة بين اتخاذ القرار الصحيح لصالح الشعب السوداني بوقف الحرب اليوم قبل الغد أو استمرارها لصالح مشروع الإسلامويين، ولعل مكمن التردد يعود لرغبة قيادة الجيش نفسها في الحكم من ناحية وسيطرة الإسلامويين على قيادة الجيش من ناحية أخري.
السبب الثاني: أن القوى المدنية رغم اتفاقها على وقف الحرب وضرورة معالجة الأوضاع الإنسانية الكارثية إلا أنها لا تملك تصوراً موحداً للعملية السياسية والنهاية المرجوة، وحتى الآن هناك تباين حول ملفات الإصلاح الأمني والعسكري والأزمة الاقتصادية وإدارة الانتقال وأسس العقد الاجتماعي والهوية الجامعة وطبيعة الدولة ونظام الحكم.
السبب الثالث: إصرار المتحاربين وحلفائهم على تسوية سياسية تمكنهم من السلطة وتقاسم الثروة، وهذا يعكس وهماً لا يستند إلى أي أساس موضوعي، فقد جرب السودان هذا النوع من التسوية التي أفرزت حكماً ثنائياً، وآخرها نيفاشا التي مهدت لانفصال الجنوب وأعادت الحرب في كل مناطق السودان، وأعتقد أن إصرار أي من الطرفين على تنفيذ شروطه كاملة أو التمسك باستراتيجية المواجهة والاستئصال المتبادل هو بالضبط الوصفة السحرية لتقسيم السودان.
السبب الرابع: رغم الانتباه الإقليمي والدولي بما يجري في السودان إلا أن الواقع يؤكد أن التعامل مع الأزمة ما زال في إطار إدارتها وليس حلها، وذلك بسبب تعارض المصالح وصراع النفوذ، وبالتالي فإن تنسيق المواقف وإدارة المصالح في إطار التوازن الإقليمي والدولي دون الإخلال بسيادة الدولة ومصالحها أصبح مهمة لا تقبل التأجيل، بما لديها من تأثير في تأخير وقف الحرب بل وتأجيجها بدعم طرفي الحرب بصورة مستمرة.
السبب الخامس: تصدير خطابين للرأي العام السوداني والإقليمي والدولي باستمرار الحرب والموافقة على الهدنة، ما بين التمسك بالحسم العسكري والتعبئة في مواجهة مؤامرة خارجية، وبخارطة الطريق التي سُلّمت للأمين العام للأمم المتحدة، والترحيب بالدور الأمريكي والسعودي. ففي مقاله بصحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية، وصف البرهان تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب عقب لقائه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في واشنطن بأنها إيجابية ومشجعة. الخطاب السياسي لقيادة الجيش يحمل تناقضات واضحة، إذ رحب بالجهود الأميركية لكنه وضع شروطاً اعتبرها تعجيزية مثل تفكيك الدعم السريع ابتداءاً، وهو مطلب مرتبط بعملية التفاوض نفسها يصعب تحقيقه دون خارطة طريق للسلام، كما أن الرفض المستمر لمساعي الهدنة إلا بعد تحقيق كافة الشروط يتجاهل التكلفة البشرية والاقتصادية الباهظة للحرب وزيادة مأساة ومعاناة السودانيين.
لذا لا حل للمعضلة الراهنة إلا بتوافر استراتيجية تمرحل واضحة تقوم على:
أولاً: إقرار الهدنة الإنسانية فوراً وفق “إعلان” وليس “اتفاق” لتعثر التفاوض المباشر ولتضارب المصالح، تنص على توقف العمليات العسكرية والتدابير العدائية في كل المناطق، التراجع وسحب القوات والأسلحة من المناطق المختلف عليها، إنشاء مناطق آمنة للمدنيين وإتاحة الوصول الآمن للإغاثة، التعاون بين الأطراف المتحاربة لتسهيل إدخال وتوزيع المساعدات الإنسانية، ضمان الالتزام بحقوق الإنسان والحفاظ على الأمن الشامل للمدنيين والمدن المتضررة، تشكيل لجنة مراقبة لضمان احترام جميع شروط الهدنة المتفق عليها، فالهدنة مدخل أساسي لبناء الثقة والانخراط في التفاوض وتقديم المساعدات الإنسانية وترسيخ المسار السياسي.
ثانياً: رعاية مفاوضات وقف دائم لإطلاق النار والترتيبات الأمنية، وبناء جيش مهني قومي واحد ينهي تعدد الجيوش ويضبط العلاقة المدنية العسكرية وينأى بالجيش عن السياسة والاقتصاد، وتوفير الضمانات اللازمة والتمويل لإعادة بناء وتطوير المؤسسة العسكرية.
ثالثاً: ابتدار عملية سياسية عبر حوار مائدة مستديرة للاتفاق على قضايا المشروع الوطني التي تتمثل في الهوية وطبيعة الدولة ونظام الحكم والاقتصاد وإزالة المظالم التاريخية والمعاصرة وبناء عقد اجتماعي جديد وترتيبات إعادة تأسيس الدولة وفق المواطنة المتساوية، والاتفاق على إعلان سياسي لإدارة الفترة التأسيسية الانتقالية يمكّن من إجراء انتخابات حرة لاختيار من يحكم السودان بتفويض شعبي.
بالتأكيد إن هذا المسار السياسي له متطلبات لازمة تتمثل في:
أولًا: أن الأولوية في المرحلة الراهنة يجب أن تتركز على وقف إطلاق النار ومجابهة الكارثة الإنسانية، وإن الضرورة تقتضي إعلان هدنة لأغراض إنسانية وليست لها صفة سياسية، وذلك بممارسة الضغوط اللازمة والتشجيع للطرفين بالاستجابة الفورية. وفي هذا الإطار فإن نجاح التوصل إلى هدنة وقف إطلاق النار يتطلب أن يقوم كل طرف بمسؤولياته، وتحديداً الجيش بالتوقف عن سياسة المراوغة والتعنت ووضع شروط تعجيزية بهدف إفشال مساعي الرباعية، وأيضاً على الدعم السريع تنفيذ التزامه بالهدنة بالأفعال وليس الأقوال ووقف التصعيد بخطوات حقيقية على الأرض.
ثانياً: الكف عن خطاب الكراهية والعنصرية التي تغذي استمرار الحرب، ونشر قيم السلام والتضامن الوطني، وضبط القوات المتحالفة مع الطرفين وحمل السلاح، ومحاصرة التحريض بالقول أو الفعل على إشعال فتيل الفتنة التي تهدد تماسك النسيج الاجتماعي والثقافي.
ثالثاً: تمثل خطة الرباعية فرصة لتوحيد كافة الجهود والمبادرات الإقليمية والدولية، وعلى المنظمات الإقليمية والدولية (الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والإيقاد والجامعة العربية والاتحاد الأوروبي) الانخراط في صيغة تنسيقية مع الرباعية والدول ذات المصلحة في وقف الحرب لبناء شراكة اقليمية ودولية لاحلال السلام في السودان تراعي السيادة والمصلحة الوطنية.
رابعاً: تطوير الحوارات والنقاشات غير الرسمية بين القوى المدنية إلى رؤية سودانية استراتيجية على ضوء خطة الرباعية لرسم خارطة طريق سياسية تعزّز العمل المشترك وفق صيغة توافقية تعالج القضايا العالقة انطلاقًا من فقه الأولويات، باعتبار أن النجاح في ممارسة التوافق السياسي يمثل بداية الوعي بأن الوطن يتسع للاختلاف والتنوّع، وأن المواطنة لا يسقطها الاختلاف في الرأي والمواقف. ولا بد أن ينطلق نقاش هادئ في مائدة مستديرة يعالج جذور الأزمة ويقدّم رؤية لمرحلة ما بعد انتهاء الحرب، وهذا يتطلب عقلاً مفتوحاً لحوار شفاف يقدّم المصلحة العليا للوطن على المصالح الضيقة.

