“أضحكي”: الأمن حين ينافق الفن
لم نفهم مغزى زيارة رئيس جهاز الأمن مفضل لعدد من المبدعين من بينهم عركي، خصوصاً أن هذا شأن أدعى بأن يتولاه وزير الثقافة. ولكن الأمر غير مستغرب إذا أدركنا أن جهاز قوش كان قد استقطب عدداً من المبدعين في محاولة للتطبيع مع المجتمع. ومن ناحية ثانية سعى إلى خلق صورة إيجابية لجهاز الأمن الذي ارتبط في ذهن السودانيين جميعاً بأنه أداة قامعة، وغير رؤوف بقطاعات المجتمع كلها، ومن ضمنهم الفنانون الذين يرفض إجازة عرض مسرحياتهم، ويقوم صبية متنفذة باقتحام مهرجانات التكريم للمبدعين الذين رحلوا، بوصف أن يساريتهم لا تخول لجمهورهم الاحتفاء بهم. ولا ننسى أن الأمن كان يرسل منسوبيه لإفشال حفلات عركي نفسه لمنعه من غناء “أضحكي”!!
وبخلاف قوش كان للبشير أبناؤه الذين أطلقهم وسط الفنانين ليستقطبهم ضمن مشاريع لتثبيت سلطته. ذلك بعد أن اكتشف لاحقاً أن الفنان مثل محمود عبد العزيز، واليمني، وزيدان، ومحمد ميرغني، ينبغي ألا يُجلدوا، وإنما يُوظّفوا عوضاً لصالح النظام كما قدروا. وكان هذا الإجراء السلطوي قد أعقب فشل مشروع أسلمة الفن الذي ابتدره الراحل أحمد عبد العال بمباركة الترابي، ودعمته وزارة عبد الباسط سبدرات التي سكتت عن جلد الفنانين، وأمنت على أهمية إيقاف تدريس رواية الطيب صالح في جامعة الخرطوم.
أما وإن كان مفضل، ومن قبله قادة عسكريون يريدون أن يتقربوا من المبدعين لضرورات التوسع الأمني، وغسل الماضي الكئيب فإن الحصاد قليل لا شك في خاتم المطاف. فعند الاعتماد على العلاقة القديمة المتجددة بين المثقف والسلطة فإن التجارب في التوافق بينهما دلت على بوار فكرة التطبيع. فما بالك إذن لو اضطلعت بمهمة التقارب أسوأ أداة للسلطة تلك التي تستخدمها – قبل تدجين الفنان – لتزوير إرادة الناس. والفنان عندئذ هو المعبر الحقيقي عن أحلامهم، وتطلعاتهم القصوى لوجود نظام ديمقراطي شفاف، ويسمح بالحرية في عرض العمل الفني.
فمفضل حين يلتقي بعركي على الأقل لا يعرف – وقد يعرف – مصب العمل الفني الذي قدمه للجمهور لمدى تجاوز نصف القرن. وهي تجربة فنية راسخة حثت المواطنين – وما تزال – على دفع التطلعات نحو الحرية والديمقراطية بينما نجد السيرة الذاتية لمفضل لم تزفه لهذا المنصب إن لم يكن قد ساهم بدرجات عليا في التنكيل بالشرفاء من المواطنين، وإسكات أصواتهم الداعية لدولة المواطنة الحرة بمزيد من الضرب، والاغتصاب حتى. وتاريخ الحركة الإسلامية الذي ينتمي لها مفضل في هذا الخصوص حاضر، ولعله هو أحد صناع ملاحقة المواطنين تجسساً، وتحسساً لحيواتهم الخاصة. ولذلك يضحك العميقون حين يرون هذا التودد الذي رسمته الصورة الدعائية لمفضل وهو يزاور هؤلاء المبدعين الذين نحرت أجهزة أمن ما بعد الاستقلال أحلامهم، فكيف بالله يمكن تبرير قوة نظر عين عركي نحو عين المفضل التي شاهدت لا بد دماءً تسيل في معتقلات موقف شندي، ويطالب تحت إشرافه من هم أدنى منه رتبةً بضخ المزيد.
-٢-
إن عركي ليس بحاجة إلى استعطاف أدبي يضعه في دائرة الضوء من جهاز أمن، أو رئيس وزراء، أو وزارة الثقافة، وهو أيضاً ليس من الفنانين الذين ينتظرون دعماً مادياً من الدولة مقابل رد الرسالة بأجمل منها: اغانٍ تمجد الحرب مثلاً كما يفعل أقوان، وقومات. فلو أن مفضلاً يفهم قيمة عركي في وجدان جمهوره المثقف بقيم النضال من أجل سلام البلد لما تجرأ جزار الأمن على إظهار سماحة مصطنعة لهذه الزيارة الترند. ومع ذلك فليكن. إذ إنه أتانا حين من الدهر صار فيه مسؤولونا يتخلون عن مسؤولياتهم المحددة بنص العرف الحكومي في صيانة أمن المواطن، ويغوصون بدلاً من تلك المهمة في البحث عن مهمات فاشلة أصلاً، ولا تساوي حجم مشقة البحث عن حواري شعبية فيها يقطن المبدعون، مجاورين لأهلهم الغبش.
إن وظيفة جهاز مفضل المخصص لجمع المعلومات، وتحليلها، وليس البطش بالمبدعين، ورصد مواقفهم السياسية، لا فضلية لها تذكر في تحقيق الأمن الثقافي، لو أنه يعد من ضمن أهداف الحكومات الوطنية. ذلك لأن عقلية مفضل تتمحور في تحقيق الأمن الجسدي لجلادين الشعب، ومنع الشعب في ذات الوقت من تحديد خياراته في التطلع للحرية، والديمقراطية.
لكل هذا لا يستحي مفضل، ودائرة إعلامه التي سولت له فكرة غسل التاريخ الأمني البشع بصور موظفة لخداع الرأي العام بان الأمن مع الفن قلباً وقالباً.
إننا لا ننسى تعذيب أمن مفضل للشرفاء من الفنانين، والكتاب، والروائيين، والمسرحيين، في المعتقلات، وبعضهم ما يزال مفقوداً منذ أيام بيوت الأشباح: أبو ذر الغفاري. فإذا عدنا للأيام الأولى الهوجاء حين كان للتعذيب فتاوى دينية فإن الموسسة التي يديرها مفضل الآن كانت قد ركزت على تجفيف وجود المبدعين في أجهزة الإعلام. فلا تعرض أعمالهم بالتزامن مع إحالتهم للصالح العام، وإعاقة حركتهم الإبداعية، ومنعهم من السفر، وإطلاق العنان للصحافة الصفراء لتشويه سمعتهم، وإهمال إيجاد مقر للموسسة الأكاديمية الفنية الوحيدة، وتعيين مدراء أقل كفاءة لإدارتها، واستهداف أساتذة معروفين بمواقفهم الوطنية المتسقة الداعين للحرية.
-٣-
ما عاشه المثقفون الفنان الشرفاء في صراع مع سلطات الحركة الإسلامية الاستبدادية لن تمحوه زيارات خادعة لمسؤول أمني لبيوت المبدعين لتفقد أحوالهم، والتوصية بعلاجهم، أو مدهم بالمال، ومن ثم استخدام صور الزيارات للمتاجرة السياسية في الإعلام الرقمي.
فما يوفر حياة كريمة، وحرة، لمبدعي السودان هو وجود نظام سياسي ديمقراطي لا يحرم المبدعين بقهر الأمن من تقديم إبداع لا تحده حدود التفكير الأمني، ولا تلازمه الرقابة الذاتية المؤسسة بخطوط الأمن الحمراء. فانطلاقا المبدع في فضاء ممارسته الفنية، وجموحه في الخيال لاستنباط الجمال، يتصادم مع مزايا السلطة الأمنية المستبدة التي لا تخشى إلا حرية الناس في التعبير عن رؤاهم الفكرية، والسياسية، والفنية. وما بالك إذا كانت هذه السلطة تملك من الفرمانات الفقهية لتفسير إنتاج المبدع دينياً، فإذا وجدته طليقاً في التبديع حرمته من استخدام إعلام الدولة، وطاردته واعتقلته، وعذبته.
الفضيلة التي صنعها مفضل إعلامياً لإبداء الرفق بالمبدعين لن تنجدهم مرة واحدة من الإهمال الحكومي المتوارث منذ الاستقلال. فلو أن سلطات بورتسودان تريد كرامة للفنانين لخلقت لهم معاشات مقننة بالدستور، وتبعتها ببطاقات علاجية، ومنازل، وجددت جوازاتهم مجاناً، بدلاً عن المتاجرة بأوضاعهم وهم في خريف العمر، وإظهار “العطيات المزينة” الشحيحة أمام الكاميرا.
إن وظيفة رجل الأمن في عالمنا الثالث أن يعترض سبيل رجل الفن كما أظهرت العلاقة بين المثقف والسلطة وإلا فإن هذا الود الكذوب اللحظي لمفضل إزاء مبدعين سيكون مجرد ملمح من نفاق الأيديولوجيا الإسلاموية. فما من فاعلية، وجدوى، وإثمار، لهذه العلاقات التي حاول قوش، وكامل، ومفضل، أن يعبروا بها عن نفس سمحة وحنونة نحو المبدعين الذين يتفاجأون باهتمام الدولة عند الساعة الخامسة والعشرين. وعلى كل حال عوضاً عن نفاقكم اعتذروا لعركي الذي كنتم ترفضون بث غنائه، وتلاحقونه في الجامعات لتخريب حفلاته، ومتابعة حركته، ورصد زوار منزله. اعتقد أن زيارات العسكر، والأمنجية الأخيرة لعركي تريد منه كلمة لدعم حربهم، وأن تبلغ رسالة خبيثة لسان حالها يقول: هؤلاء رموزكم يا ثوار، وصاروا حبايبنا، ومفيش حد أحسن من حد.!!!


