التحرّش ..ثقافة العصر القذرة
▪️لم يعد التحرّش فعلًا معزولًا يُرتكب في الظل، ولا سلوكًا طارئًا يمكن عزوه إلى خلل فردي عابر، بل تحوّل في عصرنا إلى ثقافة خبيثة تتغلغل في تفاصيل الحياة اليومية، وتلبس أقنعة شتّى: أخلاقية أحيانًا، حضارية أحيانًا أخرى، بل قد تتخفّى خلف شعارات القوة، التفوّق، أو حتى (الحداثة) إنّ التحرّش اليوم ليس مجرد اعتداء جسدي أو لفظي، بل منظومة كاملة من الهيمنة والإذلال والاختراق القسري لحدود الآخر.
▪️معنى التحرّش ..جوهر الفعل لا شكله..نعم في جوهره، التحرّش هو انتهاك متعمّد لكرامة الإنسان، يتمّ عبر فرض حضور غير مرغوب فيه، أو سلطة غير مشروعة، أو نظرة دونية، أو خطاب استعلائي. هو رغبة مريضة في السيطرة، لا علاقة لها بالجنس وحده، بل بالسلطة، وبإحساس المتحرّش بتفوّقه الموهوم…التحرّش لا يبدأ باليد ولا ينتهي بالكلمة، بل قد يبدأ بنظرة، أو تعليق، أو قرار إداري، أو خطاب إعلامي، أو سياسة دولية.
أولًا:- التحرّش الشخصي – الجرح الأقرب
▪️أكثر أشكال التحرّش وضوحًا هو التحرّش الشخصي: الجسدي، واللفظي، والنفسي. وهو الذي يُمارَس ضد الأفراد، خاصة النساء والأطفال والضعفاء.
هذا النوع لا يكتفي بالإيذاء الآني، بل يخلّف ندوبًا نفسية طويلة الأمد: خوف، انكسار، فقدان ثقة، وشعور دائم بانعدام الأمان. الأخطر أن المجتمعات المتخلّفة أخلاقيًا تميل إلى لوم الضحية بدلًا من محاسبة الجاني، فتتحوّل الجريمة إلى عبء إضافي على من تعرّض لها.
ثانيًا:- التحرّش الاجتماعي – حين يصبح المجتمع شريكًا
هناك تحرّش لا يُمارَس باليد، بل بالعادات والنظرة الجمعية.
تحرّش المجتمع بالفرد المختلف:-
1- المختلف في الفكر
2- المختلف في المظهر
3- المختلف في نمط الحياة
هذا النوع يضغط على الإنسان ليكون نسخة مطابقة للقالب السائد، ويعاقبه بالسخرية، والتهميش، والتشويه إن تجرّأ على الاختلاف. إنه تحرّش ناعم، لكنه عميق الأثر، لأنه يُمارَس باسم (الذوق العام)أو (التقاليد)
ثالثًا:- التحرّش الطبقي – عنف الثراء ضد الفقر
▪️من أقذر أشكال التحرّش وأكثرها انتشارًا التحرّش الطبقي.. مثل تحرّش الأغنياء بالفقراء، لا عبر الشتائم فقط، بل عبر السياسات، واللغة، ونمط الحياة…عندما يُعامَل الفقير ككائن أقل قيمة، أو يُسخَر من مظهره، أو يُتجاهَل صوته، أو يُلام على فقره، فنحن أمام تحرّش منظّم. ..الثراء هنا لا يكون مجرد مال، بل سلاحًا للإذلال، ووسيلة لفرض شعور دائم بالدونية على من لا يملكون.
رابعًا:- التحرّش الحضري – استعلاء المدينة على الريف يتجلّى التحرّش أيضًا في علاقة (المدن المتمدّنة) بالريف والبسطاء.
▪️سخرية من اللهجة، احتقار للبساطة، تصوير الريفي على أنه متخلّف أو أقل وعيًا…هذا تحرّش ثقافي خطير، لأنه يقسم المجتمع إلى درجات، ويزرع كراهية صامتة بين أبنائه، مع أن الريف غالبًا هو خزان القيم والعمل الحقيقي.
خامسًا:- التحرّش العنصري والقبلي – عندما يُختصر الإنسان في أصله
التحرّش العنصري لا يحتاج إلى عنف مباشر؛ يكفي تعليق، أو نكتة، أو توصيف إعلامي…عندما يُعامَل الإنسان بناءً على لونه، أو قبيلته، أو أصله الجغرافي، لا على إنسانيته، فنحن أمام تحرّش كامل الأركان…هذا النوع يُغذّي الحروب الأهلية، ويبرّر الإقصاء، ويحوّل التنوع من ثراء إلى لعنة.
سادسًا:- التحرّش الدولي –
▪️قذارة السياسة في أبهى صورها..ففي أعلى هرم القبح يقف التحرّش الدولي دول كبرى تتحرّش بدول أضعف:-
1- بفرض العقوبات
2- بابتزاز سياسي
3-,بتدخلات عسكرية
4- بخطاب إعلامي مشوّه
▪️هنا تتحوّل السيادة إلى جسد منتهك، وتُختصر القوانين الدولية في مصلحة الأقوى. هذا تحرّش منظّم، يرتدي ربطة عنق، ويتحدّث بلغة (حقوق الإنسان) وهو يمارس أقسى انتهاكاتها.
لماذا صار التحرّش ثقافة العصر؟
———————–
▪️لأن العصر الحالي مجّد القوة، والنجاح السريع، والهيمنة، وقلّل من قيمة الاحترام والحدود.
ولأن الصمت الاجتماعي، والتطبيع، وتبرير السلوكيات المنحرفة، جعلت المتحرّش أكثر جرأة، والضحية أكثر وحدة.
▪️ مقاومة القذارة بالفعل لا بالشعارات ..التحرّش، بكل أشكاله، ليس قدرًا محتومًا، بل نتاج وعي مريض يمكن علاجه…علاجه يبدأ بالاعتراف، ثم بالتسمية الواضحة للأشياء، ثم بالمحاسبة، وأخيرًا ببناء ثقافة جديدة قوامها:
1-احترام الإنسان
2- قبول الاختلاف
3- رفض الاستعلاء
▪️أخطر ما في التحرّش ليس وقوعه، بل تحوّله إلى أمر عادي. وحين يصبح القبح مألوفًا، يكون السقوط قد بدأ فعلًا.
mhgoub33@gmail.com


