التطورات الإقليمية في القرن الإفريقي

التطورات الإقليمية في القرن الإفريقي
  • 29 ديسمبر 2025
  • لا توجد تعليقات

مساعد النويري

هل يمكن أن تغزو إثيوبيا السودان ؟
ليس السؤال في ظاهره بريئًا ولا في باطنه عابرًا
فحين يُطرح احتمال الغزو في جغرافيا مضطربة كالقرن الإفريقي لا يكون السؤال مجرد تمرين ذهني بل جرس إنذار يقرع في ذاكرة التاريخ ووعي الحاضر واستشراف المستقبل
السودان وإثيوبيا دولتان جارتان جمعت بينهما الجغرافيا كما فرّق بينهما التوجس وأحيانًا المصالح المتعارضة وأحيانًا أخرى هشاشة الدولة في لحظات الضعف والارتباك
والسؤال الحقيقي ليس هل تملك إثيوبيا القدرة العسكرية على الغزو  ؟ ولا هل السودان قادر على الدفاع فقط ؟
بل هل يملك الطرفان المنطق السياسي الذي يمنع الجنون حين تتكاثر الأسباب وتضيق مساحات الحكمة ؟
العلاقة بين السودان وإثيوبيا لم تكن يومًا علاقة حرب مفتوحة بقدر ما كانت علاقة شد وجذب وصمت ثقيل تحته أسئلة مؤجلة
حدود طويلة رسمها الاستعمار على عجل وتركها قابلة للاشتعال متى ما غابت الدولة أو ضعفت السلطة
الفشقة ليست مجرد أرض زراعية متنازع عليها بل مرآة لخلل أعمق في إدارة الحدود الإفريقية التي وُلدت بحدود مستقيمة على الورق ومنكسرة على الأرض
ومع ذلك ظل النزاع في أغلبه محدودًا محسوبًا لم يتحول إلى حرب شاملة لأن كلفة الحرب كانت دائمًا أعلى من مكاسبها
اليوم يتغير السياق
السودان يعيش واحدة من أعقد لحظات تاريخه الحديث
دولة تنزف من الداخل
مؤسسات منهكة
جيش يخوض حرب وجود
مجتمع ممزق
اقتصاد يترنح
وهذه الحالة في منطق السياسة الدولية تُغري الطامحين وتفتح شهية المغامرين
لكن السياسة ليست حساب ضعف طرف واحد بل معادلة كاملة العناصر
إثيوبيا من جانبها ليست في حالٍ أفضل مما يتصوره البعض
صحيح أنها دولة ذات كثافة سكانية عالية وجيش كبير نسبيًا وطموح إقليمي واضح
لكنها أيضًا دولة مثقلة بصراعات داخلية عميقة
إقليم تيغراي لم يكن مجرد تمرد عابر بل زلزال كشف هشاشة العقد الوطني الإثيوبي
وأقاليم أخرى لا تزال تحت الرماد تنتظر نسمة خطأ لتشتعل
والدولة التي بالكاد تمسك أطرافها المتشظية لا تدخل حربًا خارجية واسعة إلا إذا دفعتها الضرورة القصوى أو الجنون السياسي
الغزو العسكري ليس قرارًا عاطفيًا ولا استعراض قوة
هو حساب معقد للكلفة والعائد
فتح جبهة خارجية يعني استنزافًا إضافيًا للجيش الإثيوبي
ويعني نقل الصراع من الداخل إلى الحدود
ويعني مواجهة ردود فعل إقليمية ودولية لا يمكن تجاهلها
فالقرن الإفريقي ليس فراغًا جيوسياسيًا بل ساحة تنافس مكتظة بالمصالح
مصر تراقب
إريتريا تتحسس
دول الخليج تحسب
والقوى الكبرى تزن خطواتها بميزان دقيق
ثم يأتي العامل المائي
سد النهضة الذي ظنته إثيوبيا مشروع سيادة خالصًا تحوّل إلى عقدة إقليمية
أي مغامرة عسكرية ضد السودان ستُقرأ تلقائيًا بوصفها تهديدًا مباشرًا للأمن المائي المصري
وحين تدخل المياه في معادلة الحرب تتغير قواعد اللعبة
ولا تعود الحدود وحدها هي المعنية بل المصير
أما السودان
ورغم جراحه العميقة
فليس أرضًا بلا صاحب ولا دولة بلا ذاكرة
الجيش السوداني ليس مجرد تشكيل عسكري بل مؤسسة ضاربة الجذور تشكّلت عبر حروب طويلة وتجارب قاسية
والتاريخ علّم المنطقة أن السودان حين يُستفز خارجيًا يتوحّد داخليًا ولو مؤقتًا
وأن الجغرافيا الواسعة والعمق الاجتماعي والامتداد الأهلي يجعل من أي غزو مغامرة محفوفة بالخسائر طويلة الأمد
ثم إن الحرب ليست فقط معركة دبابات وطائرات
هي إدارة مجتمع تحت النار
وإثيوبيا تعرف جيدًا أن أي وجود عسكري داخل السودان لن يكون نزهة
بل استنزافًا بشريًا واقتصاديًا وسياسيًا
وسيخلق مقاومة محلية
وسيعيد تعريف الصراع من نزاع حدودي إلى صراع سيادة
المنطق السياسي السليم يقول إن إثيوبيا لا تملك دافعًا عقلانيًا لغزو شامل
ولا تملك ترف فتح جبهة خارجية في هذا التوقيت
ولا تملك الغطاء الدولي اللازم لمغامرة كهذه
وأن أقصى ما يمكن تصوره هو توترات حدودية
احتكاكات محدودة
ضغوط سياسية
واستثمار في ضعف اللحظة دون الانزلاق إلى الهاوية
لكن الخطر الحقيقي لا يكمن في غزو عسكري تقليدي
بل في سيناريوهات أكثر تعقيدًا
تفريغ الصراع عبر وكلاء
تغذية نزاعات محلية
واستغلال هشاشة الدولة
وهي حروب أقل كلفة وأكثر خبثًا
وهي التي يجب أن يتنبه لها العقل السوداني قبل فوات الأوان
إن السؤال هل يمكن أن تغزو إثيوبيا السودان ؟
يجب أن يُعاد صياغته على نحو أعمق
هل يمكن لانهيار الدولة السودانية أن يغري الإقليم بإعادة رسم النفوذ ؟
وهل يمكن للفراغ أن يكون أخطر من الغزو
وهل نملك نحن في السودان مشروع دولة يحمي الجغرافيا قبل أن نحمي الحدود
وفي ختام هذا التحليل لا بد من قول الكلمة التي لا تحتمل المواربة
إن أخطر ما يواجه السودان اليوم ليس احتمال غزو خارجي بقدر ما هو استمرار الضعف الداخلي
فالدول لا تُغزى أولًا بالدبابات بل تُغزى حين تتفكك مؤسساتها ويتآكل وعيها وتنشغل نخبها بالصراع على السلطة بدل حماية الدولة
وإثيوبيا مهما بلغ طموحها الإقليمي تدرك أن الحرب المفتوحة مع السودان ليست نزهة ولا مكسبًا مضمونًا
وتدرك أن الجغرافيا حين تقاوم تستنزف الغزاة
وأن الشعوب حين تُستفز تتوحّد
إن حماية السودان لا تبدأ من الحدود وحدها بل من الداخل
من بناء دولة
من استعادة مؤسسة
من ترميم الثقة
ومن إدراك أن الأمن القومي ليس شعارًا يُرفع بل مسؤولية تُحمل
وأن الجغرافيا لا تحمي من لا يحمي نفسه
ولهذا فإن الإجابة الصادقة عن سؤال الغزو ليست نعم أو لا
بل إن السودان إن استعاد دولته فلن يغزوه أحد
وإن ظل غارقًا في ضعفه فسيظل السؤال مطروحًا
وسيظل الخطر قائمًا
حتى وإن لم تطلق رصاصة واحدة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*