هل فقدت مِصرُ رُشدها؟!

هل فقدت مِصرُ رُشدها؟!
  • 04 يوليو 2018
  • لا توجد تعليقات

قُلت ابتداءً – وبكل ثقة – لصديقي الذي نقل لي خبر رفض سلطات مطار القاهرة دخول السيد الصادق المهدي لبلادها، إن ذلك الخبر ليس صحيحاً، وسألته ضرورة توخي الدقة من مصدره. فعاد لي مجدداً، وقال بثقة فاقت ثقتي: إنه استقاه من مصدر موثوق يقيم في القاهرة نفسها. قلت له: أنا على يقين بأن هذا المصدر مُخطيء تماماً. بالطبع كان هذا الحوار القصير قبل أن يُنشر الخبر في الشبكة العنكبوتية، بل من قبل أن تتلقفه ماكينة الإعلام الضخمة بكل أنواعها، وينتشر كما النار في الهشيم، ويتصدر الأخبار. وكما هو معروف فقد مضغته الألسن بعدئذٍ، بتحليلات وتأويلات وتفسيرات شتى. وبصورة عامة يمكن القول إنه وجد استنكاراً واسعاً وغضباً أشد، ولكنه في الوقت نفسه لم يخل من شماتة العُصبة ذوي البأس الحاكمة في الخرطوم، والتي أشاد ناعقها (ربيع عبد العاطي) بالخطوة وقال إنها (تمتن العلاقة بين البلدين!) وفي واقع الأمر ذلك ليس بغريب، فهذا دأبهم في كل ما يتصل بمعارضيهم، حتى لو كان الموت الذي هو مصير كل نفسٍ ذائقته. بل لقد بادروا ووزعوه بالقسطاس على كل شعوب السودان، لكي يتمتعوا هم بالسلطة ولو كانت قائمة على أرض يباب!

(2)
الحقيقة عندما كذَّبت مصدر صديقي وقلت إنه مُخطيء، فأنا أيضاً لم أُخطيء ذلك لأن ثقتي كانت مبينة عل ثوابت أعلمها جيداً، ويعلمها غيري في نهج الدولة المصرية. هذه الثوابت التي كنت أظنها صمدية حتى قبيل ما حدث، تستند في تعامل الدولة المصرية مع المعارضين الذين يلجأون إليها بحثاً عن مكان آمن، وقوامها مبدآن ثابتان، ظلت الحكومات المصرية المتعاقبة تتوارثهما منذ عهود بعيدة. وبالتالي كان تكذيبي قد بُني على افتراض أن حكومة الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي مشمولة بمحافظتها على تلك السنة الحميدة. ونعلم جميعاً أن السنة المذكورة هذه، قد بلغت أعلى مراقيها في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، فكانت القاهرة محط أنظار الساخطين والناقمين على الأوضاع المزرية في بلدانهم سواء من قِبل المستعمرين أو الحكومات الوطنية. ويومذاك أشعر تاج السر الحسن قصيدته الخالدة (مصر يا أخت بلادي يا شقيقة)!

(3)
المبدأ الأول يقول إن مصر لم تقم مطلقاً منذ عصر الفراعنة وحتى تاريخه بطرد أي معارض لحكومته آوى إليها طوعاً، أياً كانت جنسيته أو لونه السياسي أو معتقده الديني أو أيٍ من التمايزات التي يتصف بها بني البشر. أما المبدأ الثاني فهو أن مصر لم تبادر في تاريخها الممتد عبر كل الحقب بتسليم معارض من الذين لجأوا إليها هرباً من بطش حكومته. وبناءً على هذا وذاك كنت واثقاً من نفسي في تكذيب مصدر صديقي. ولكن كذب حدسي وصدق المصدر، إذ أقدمت السلطات المصرية على تعاطي المكروه عمداً، وزلزلت واحدة من ثوابتها المتوارثة منذ سنين عديدة كما ذكرنا. وبالتالي شكَّل ما حدث سابقة خطيرة، بدون شك ستنال من الرصيد الوافر الذي كان مُدخراً وأصبح مصدر فخر ومباهاة. وبعدئذٍ لن يكون أحد ملاماً إن قال إنه لن يصدق تلك اللافتة التي تبرز تلك الآية القرآنية، والتي تطالعها العيون بمجرد وصولها مطار القاهرة (أدخلوها بسلامٍ آمنين)!

(4)
لم تكن مصر وحدها التي تتباهي بتلك المزية، فبصورة نسبية يمكن القول إن الخرطوم كانت شريكة في الصفة نفسها. ففي أزمنة مضت كانت قبلة هوت إليها أفئدة البعض من الثوار والمناضلين، والذين عاشوا بين أهلها وتقاسموا معهم السراء والضراء. والمفارقة أن في ذلك استوت كل الحكومات التي اعتلت سدة السلطة، سواء كانت ديمقراطية منتخبة أو ديكتاتورية عسكرية، عدا العصبة ذوي البأس الحاكمة حالياً، والتي برعت في انتهاك تلك الصورة الزاهية بشتى السبل والوسائل غير الأخلاقية، مما جعلها أضحوكة في وجه من كانت تتشاطر معهم الأيديولوجيا ووثقوا فيها، ناهيك عن معارضيها. فعلى فرضية (فسطاط الكفر وفسطاط الإسلام) فتحوا البلاد على مصراعيها، فهرع إليها المنبوذون في بلدانهم، وعلى رأسهم أسامة بن لادن الذي صك العبارة المذكورة نفسها. وعندما اشتدت الأنشوطة حول رقبتهم، عرضوا تسليمه سراً للسعودية التي هرب منها، فرفضت العرض. وعندما علم بالصفقة، يمم وجه شطر جبال (تورا بورا) في أفغانستان. ومن قبل أن يلقي حتفه على يد (قوات المارينيز) في العاصمة كابول، وصف الذين استجار بهم بأقذع وصف تطابق مع صفاتهم وقال: هؤلاء جمعوا بين الدين والجريمة المنظمة!

(5)
ما الذي حدث عندئذ في القصة التي نحن بصدد فك طلاسمها. كانت تلك خلفية ضرورية للسؤال المطروح. ففي سياق ما ذكرناه عن تمرس العصبة في نقض العهود مع من تقاسموا معهم الأيديولوجيا الظلامية والتآمرات، قاموا بتسليم القاهرة بضع أعدادٍ من الإسلامويين إبان عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، كرشوة لكي يغض النظام الطرف عن موضوع محاولة اغتياله في العاصمة الأثيوبية أديس أبابا في العام 1995 ولما علمت الحكومة المصرية نقطة الضعف تلك، صار كلما ألقموها عدداً من الرؤوس قالت لهم هل من مزيد؟ مضى نظام حسني مبارك، وفي الوقت الذي كانوا يذرفون فيه الدمع على زوال حكم الرئيس السابق محمد مرسي، واصلوا ذات نهجهم في تسليم جماعته الذين جاءوا للخرطوم بحسبهم (إخوة في الله) وآخرهم باسم جاد الذي أصطحبه الفريق صلاح قوش رئيس جهاز الأمن والمخابرات قبل نحو أسبوعين وسلمه للقاهرة. وفي محادثاته أبدى قوش تذمراً وتبرماً وضيقاً من وجود السيد الصادق بين ظهرانيهم، وبالتالي فهِم المضيفون الرسالة لا سيما، وهم يطمحون في مزيد من الرؤوس المتساقطة!

(6)
في تقديري أن الأخطر من قرار عدم السماح للسيد الصادق بدخول الأراضي المصرية، هي حيثيات القرار نفسه والتي لم يتوقف الناس فيها كثيراً. فقد كشفت السيدة مريم الصادق المهدي نائبة رئيس حزب الأمة في البيان الذي أصدرته بخصوص ما حدث، عن أن السلطات المصرية طلبت من السيد الصادق المهدي عدم السفر إلى ألمانيا لحضور اجتماع الجبهة الثورية، إلا أنه رفض ذلك الطلب وغادر، وعليه يكون القرار نتيجة عدم انصياعه لذلك الطلب، وهو أمر إن صح يكون أنكى وأمر، لأنه بذلك تكون السلطات المصرية قد وضعت نفسها طرفاً في الصراع السوداني السوداني، وهو أمر غير مقبول إطلاقاً وعواقبه وخيمة بلا شك. ومما يرجح حدوثه هو أن السلطات المصرية التزمت الصمت تماماً، ولم تدل بأي تفسير يضع الأمور في نصابها الصحيح حتى الآن!

(7)
بغض النظر عن الدور الريادي التاريخي لمصر والذي ذكرناه، ففي تقديري أن الذي اتخذ قرار عدم دخول السيد الصادق المهدي لأراضيها غابت عنه الحكمة، وليست الحكمة وحدها، وإنما حقائق الجغرافيا والتاريخ. فالأولى معروف دلالاتها، أما الثانية نستذكر فيها ثلاثة محطات هامة، الأولى، لعله من المفارقات المحزنة والمضحكة في آن معاً هو أن نظام نميري عندما ضاق ذرعاً بالسيدين الصادق المهدي وعبد الخالق محجوب سكرتير الحزب الشيوعي، نفاهما قسراً إلى القاهرة أوائل السبعينات، كسابقه فريدة في الواقع السوداني. والثانية أن القاهرة رفضت تسليم الرئيس المخلوع جعفر نميري رغم أن المطالبة به كانت شعبية كاسحة، وفي أعقاب انتفاضة مشهودة. دعك من هذه وتلك اللتين نزعناهما نزعاً من أضابير التاريخ. أما المحطة الثالثة، يجسدها تاريخ آخر لم تطمس معالمه بعد. تقول وقائعه إنه بعض الإنقلاب (البهلواني) للجبهة الإسلاموية في العام 1989 توافد معارضون كثر ومن شتى ألوان الطيف السياسي إلى القاهرة. وبدأوا رويداً رويداً يمارسون في أنشطتهم السياسية المعارضة للنظام الحاكم في الخرطوم. والمفارقة إن ذلك لم يكن من وراء حجاب، إنما عياناً بياناً والشمس في كبد السماء!

(8)
في العام 1995 تأطر النشاط المعارض في الشكل التنظيمي الذي عُرف به لاحقاً وهو التجمع الوطني الديمقراطي، وذلك في مؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية. وبعد أقل من عام انطلق العمل العسكري في ما سُمي (الجبهة الشرقية) وتساقطت المدن والحاميات الواحدة تلو الأخرى في معارك حامية الوطيس. ومن المفارقات التي لم تدعُ للعجب أن رئيس التجمع الوطني الديمقراطي آنذاك هو الفيلد مارشال محمد عثمان الميرغني. الذي رمى مسبحته وامتشق الكلاشنكوف وامتثل للأمر الواقع مكوناً (قوات الفتح) وكان كلما حقق التجمع عملية عسكرية، تبارت أجهزة الإعلام المصرية في إبراز صورة السيد الميرغني مع الرئيس حسني مبارك. ليس هذا فحسب، إذ كان هناك أيضاً الدكتور جون قرنق دي مبيور رئيس هيئة الأركان العليا في التجمع الوطني، والذي وطأت أقدامه القاهرة بعد طول غياب، تنافس الإعلام المصري في تغطية تلك الزيارة بهمة يُحسد عليها. وبينهم كذلك العميد عبد العزيز خالد، والذي كان بين كل عملية عسكرية وأخرى يأوي إلى القاهرة ليسترد أنفاسه. بل كان بينهم السيد الصادق نفسه الذي شارك حزبه في العمل العسكري (جيش الأمة للتحرير) ويومذاك لم تطلب الخرطوم من القاهرة ما أصبحت تصدع به لاحقاً، وبنفس المستوى لم تطلب القاهرة من معارضي الخرطوم حمل أمتعتهم ومغادرتها!

(9)
قلنا إن الشماتة تعد إحدى شيم العصبة ذوي البأس وتلك لا غرابة فيها لأن كل إناء بما ينضح، لكن الذي يدعو للعجب والاستغراب معاً، هو أن تصيب تلك العدوى بعضنا، ففي ظروف كهذه يستخرج هؤلاء من أعماقهم مخزوناً من الكراهية والزج به في ما لا طائل يجني من ورائه. بمعنى أن مثل هذه المشاعر أو الآراء ينبغي أن يكون في إطار البيت السوداني، وليس من الحكمة رميها في حلبة قضية بين طرفين هويتهما متناقضة. نحن نختلف مع السيد الصادق المهدي في كثير من آرائه السياسية والفكرية، وانتقدناه بأقلام حداد ولكن في إطار من الاحترام وعلى قاعدة اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية. وتبعا لذلك حينما يتعلق الأمر بمفاضلة مثل التي نحن نواجهها الآن، فلا ينبغي أن تكون صورة الاتفاق والاختلاف التي ذكرناها حاضرة بذات المشهد. فهذا أمر لا يحتمل الشطط لأنه مختلف جداً. فضلاً عن أن مشاركة العصبة ذوي البأس بعض شيمها يعد في تقديري خيانة وطنية للدماء التي أهرقتها، والدمار الذي أحدثته، والفساد الذي عاثته في البلاد. وتلك هي القضية الأساسية التي لا تعلى عليها قضية!
عبر التاريخ تقول إن الشامتين وحدهم هم الذين يؤكلون كما أُكل الثور الأبيض!

بهذا الفعل الأحمق فقدت مصر رُشدها وكذا بوصلتها!

آخر الكلام: لابد من المحاسبة والديمقراطية وإن طال السفر!!

التعليقات مغلقة.