ثورة فريدة .. حتى بالمقاييس العالمية..!

ثورة فريدة .. حتى بالمقاييس العالمية..!
  • 07 أبريل 2019
  • لا توجد تعليقات

د. مرتضى الغالي

ذه ثورة فريدة حتى بالمقاييس العالمية..ثورة ديسمبر 2018 ..!! هذه ثورة فريدة بكل المقاييس..وقد يظن بعض الناس إننا نقول ذلك تزيداً أو مزايدة.. ولكنها الحقيقة الناصعة..! فقد رجعنا إلى ملفات الثورة الفرنسية 1789 – 1799 والثورة الأمريكية 1775-1783 والثورة الروسية 1917-1927 والثورة الانجليزية 1642-1660 والثورة الصينية 1949 وحتى الثورة المكسيكية 1911 وثورة العبيد (سباراتاكوس) في 73 قبل الميلاد..! وأدخلنا في الحساب والمقارنة الثورات الإقليمية المختلفة والثورات السودانية السالفة على عظمتها.. فالأمر هنا أمر خصائص رافقت ثورة ديسمبر هذه التي نعيش في أكنافها ونفحاتها وأعطتها تفرّدها ورفدتها بمميزات غريبة وعجيبة ليس أكبرها أو أقلها أنها ثورة كان للنساء فيها نصيب لا ينقص عن نصيب الرجال.. وكان وقودها الحي هم الشباب الذين لم يروا من وطنهم غير القهر والإهمال والتطفيش طوال حياتهم التي عاشوها، حيث لم يعايشوا أي فترة غير تلك التي ثاروا عليها وعلى جلاديها..! وهي ثورة قيمية مفاهيمية استطاعت أن تُعلي من شأن فضائل سياسية واجتماعية برسوخ غريب؛ فهي قد عبرت بالناس والوطن مطبات عديدة و(كواديك شائكة) ومظاهر (غاية في السلبية)عايشها السودان في فترات مختلفة ولصقت بأثوابه بصورة سافرة أو مستترة مثل الاحتفاء بالجهوية والقبلية والعنصر والإثنية بصورة تأخذ من رصيد الوطنية.. فما أسرع أن غطت ثورة ديسمبر على هذه المثلبة بشعارات صادقة تشجب العنصرية والجهوية وتهتف للمواطنة المتساوية، وأصبح ذلك هو زاد المواكب وموضوع التدوينات والهتافات وصدر المقالات وحداء السائرين، وهي تجعل من دارفور جرح الوطن جميعه، فمسحت السُبّة التي لحقت ببعض أطراف (المركزية الخرطومية) وبكثير من أولوياتها الخاطئة وتركيزها على ذاتها وجفاء وجدانها عن الريف البعيد بإعلامها وأجندتها السياسية ومثقفيها، فقد استطاع الحراك الثوري أن يهدهد ليس جراحات دارفور وحدها بل كل مناطق السودان الملتهبة في جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق، بل والريف السوداني المُهمل؛ شرقه وغربه شماله وجنوبه..

هي ثورة المساواة بين الرجل والمرأة التي توطد فيها الاحترام المتبادل والأقدار المتماثلة فاختفت في يوميات الثورة أمراض الفرز الذكوري والأنثوي.. كما أنها الثورة التي أعادت الاحترام للمهن والوظائف وأزالت العنجهيات القديمة المتصلة بنوع العمل ومكانه وعائده، وألغت خطوط الثراء والفقر، و(فروقات السكن والضاحية)…وهي الثورة التي دخلت البيوت واجتذبت إلى قضيتها الأب وألام والجد والجدة والحفيد والحفيدة والصبي والصبية والشاب والشابة والطفل والطفلة، وكاد يلهج بالثورة وشعاراتها من كان في المهد أو في مدارج الحضانة..!! وهي الثورة التي رافقتها مسيرة مدهشة من الفنون والشعر والأدب والطرائف والقفشات و(المفارقات المُستملحة) والذكاء التعبيري والغناء والموسيقى وشعر البداهة، وانفجار المواهب واستقصاء واستخدام كل ما جاءت به وما تحمله وسائط الإعلام الجديد والتقنية الحديثة من تغريدات ومقاطع وفيديوهات ورسومات وكاراكتير وتشكيل وتركيب ومزج ومونتاج ودراما واسكتشات وتلوين ورسم وشعارات ونداءات منغومة وإبداع شاركت فيه كل طوائف المجتمع ولم يقتصر على محترفي الفنون.. وانبعثت وانطلقت المواهب من عقالها لتكشف (المخزون الإبداعي العجيب) للشعب السوداني؛ ذلك الإبداع الذي كان حبيس الصدور والدوائر المغلقة.. فكم برز مع مر أيام الثورة فنانون وخطباء وشعراء وملحنون ومطربون وموسيقيون، وكان الشعر بكل تنويعاته يُكتب في سانحة ويُلحن في دقائق ويُغنى في ضحوة..! 
وهناك أمر آخر هو ظهور القادة الحركيين الشباب، وظهور ملاحم التضحية والشجاعة الشبابية الباسلة التي يحتار المرء كيف وصلت إلى هؤلاء البنات والأولاد الذين كان كثيرون منّا ينظرون إليهم بعين السخرية لاعتبارات الظن برخاوتهم وبأنهم مثلما يقول المغنون من (ربيبي البطر) والمخادع الناعمة..!! وكان هناك أيضاً ظهور الخبراء النجباء السودانيين في شتى المجالات يكتبون ويحاضرون عن تشخيص الحال وعن طرائق الخلاص، وقد امتد هذا الأدب العلمي إلى السياسة والقانون والاقتصاد والاجتماع والتعليم والإدارة..الخ وخرجت في ذات الوقت الاقتراحات حول إدارة الشأن الوطني الآن ولاحقاً، ووتبارى الخبراء والمجتهدون في رسم الخيارات العلمية لشؤون الفيدرالية والحوكمة الراشدة وتحديد مسارات التنمية، وكشف ثروات الوطن الكامنة، وتحديد الأساليب القمينة بخروج الوطن من الوهدة التي وقع فيها..! 
هناك أمرٌ آخر وهو التجاوب العجيب الذي حدث من السودانيين في مهاجرهم، بعد أن ظن الناس أنهم أصبحوا في حُكم (الأقمار التي خرجت عن مداراتها) وابتعدت عن مدى جاذبية الوطن في رحلة (من اتجاه واحد) إلى قارات الدنيا لا عودة منها.. بعد أن استحكمت خيارات (الخلاص الفردي) واليأس من الوطن بسبب الانكشارية التي جثمت عليه..وظل السودانيون يعيشون في أقطار العالم (مقطوعي الوشيجة بالوطن) فإذا بالثورة الحاضرة تقلب هذه الافتراضات رأساً على قفا.. وإذا بالمغتربين السودانيين يرددون مع السودانيين داخل الوطن شعاراتهم بلا زيادة ولا نقصان ولا يستعلون عليها بفلهمة أو عنطزة..والدموع تجري في محاجرهم، ومعهم أطفالهم وقد عادت لهم نشوة الانتماء إلى وطن يكتبون اسمه على جباههم وقمصانهم وستراتهم..وقد عاد لهم وللدنيا من حولهم معني (حرية سلام وعدالة)..وكانت مشاهد السودانيين في المهاجر مما ألوى بأعناق العالم وهم يشاهد هذه الحماسة وذلك الفيضان البشري العجيب والمواكب الحاشدة التي يسير فيها الكبار والصغار والصبايا والأطفال والنساء والرجال، ومن يعملون في دوائر الأمم المتحدة والوظائف الدقيقة جنباً إلى جنب مع المغتربين الكادحين ومع من لفظهم وطنهم إلى اغتراب اللجوء.. وكان للسودانيين بالخارج وهم في مدن العالم وعواصمه ذات التأثير مساهمتهم السخيّة بتوضيح ما يجري في السودان، مقدِّمين كل ما يمكن أن يخدم قضية الثورة من عون مادي أو معنوي، أو ما هو متاح لهم من إعلام ودبلوماسية..!
لكن آية ثورة ديسمبر الكبرى كان تتمثل في سلميتها العجيبة.. والتمسُّك المُدهش بهذه السلمية.. بل الإيمان القاطع برفض مقابلة العنف بالعنف! وقد كان هذا من المعالم النفيسة للثورة.. وقد يعجب الناس كيف استطاع الشباب والمواطنون عامة ضبط مشاعرهم والإصرار على السلمية بكل ما ينطوون عليه من (حُرقة ومظالم) وبكل ما قوبلوا به من بطش وحشي وعنف إلى حد إزهاق الأرواح بكل لامبالاة وبجاحة، ومن اغتصاب بكل وقاحة، ومن ضرب مبرح وقلع للعيون وبتر للأكف والسواعد وتعدٍ على النساء والصبايا والإيفاع أمام أقرانهم وأهاليهم، واستباحة للبيوت.. مع كل ذلك لم يتنازل الثوار عن سلميتهم (قيد خردلة).. بل ظلوا على سلوكهم الحضاري النبيل وفي حالة من ضبط النفس سيسجلها التاريخ وهو فاغر فاه من الدهشة..!!
ثم تأتي قضية التزام كل هذه الحشود بقيادة وثقوا بها وعرفوا أنها في صفهم (من غير أن يروها)..وهذه حكاية أخرى نسجت خيوطها بالتقاء جينات الوطنية التي لم تكن في حاجة إلى (أشعة مقطعية) أو (فحص هيمغلوبين).. إذا قال اتحاد المهنيين ذلك فقد صدق..! هذه ليس كل الأمر.. ولكن لا يمكن إلا أن تقف مشدوهاً فخوراً كيف عادت الخيرية والحميمية بين كل بيوت السودان.. رغم ما كان يُقال لك عن انغلاق كل أسرة على نفسها وداخل جدرانها..وما كان يُقال عن شح الأنفس وتسلل الأنانية..و…و.. فقد سجلت يوميات الثورة كيف أصبحت بيوت السودان هي بيت كل سوداني يدخلها آمناً مطمئناً (بين مطاردة وأخرى) فلا يجد إلا الأحضان الطيبة والترحاب الحميم من أهل الدار بغير سابق معرفة أو (جديد سؤال).. إنه سوداني مثلهم ينشد الحرية والكرامة له ولهم.. وهو قد خرج من أجل كل بيت سوداني.. وليس من أجل نفسه أو أسرته..!!
هل هذه هي كل فضائل وخصائص ثورة ديسمبر؟! لا والله إنها بعضها..وحق لكل سوداني أن يفخر.. وألا يألوا جهداً في أن يسهم في إكمال دورتها…ما أجمل هذه الوطن وأهله..!!

murtadamore@yahoo.com

التعليقات مغلقة.